في رواية «اسمي فاطمة» الصادرة مؤخرًا عن دار المصرية اللبنانية يقدّم الروائي «عمرو العادلي» قصة حياة فتاة بسيطة اسمها «فاطمة طاهر» تبدو حكايتها مأساوية حيث كانت تحلم أحلامًا عادية بالحب والحياة الهانئة البسيطة، فإذا بالأقدار تقودها إلى جريمةٍ لم تتخيّل أن تتورط فيها.

يضعنا «العادلي» منذ السطور الأولى للرواية أمام مشهد النهاية الذي نجد فيه البطلة في القفص وتتم محاكمتها، لتستعيد هي سيرة حياتها منذ البداية، أو بشكل أدق من البداية التي تختارها، تلك البداية التي شكّلت جزءًا مهمًا من عالمها الذي سار على الدوام في صراع داخلي بين عالم الخيال والأحلام ودنيا الواقع الذي ترفضه وتهرب مما فيه، اللقطة التي تدرك فيها «الطفلة» أن ثمة عالمًا خياليًا في الأحلام يمكنها أن تلجأ إليه باستمرار رغم رفض والدها له؛ لأنه يترك آثاره كل ليلة على فراشها المبتل! ولهذا يأتي شرح الطبيب لحالة «فاطمة» كواحد من أهم مفاتيح الدخول إلى عالم تلك الرواية الخاص جدًا، فهو يوضح أن لديها موهبة خاصة تتمثل في:

الخلق والتبديل، التوليف المستمر بين أشياء غير متجانسة، وهذه الموهبة تجعلها تنفصل عن العالم الذي يعرفه من حولها، لتخلق العالم البديل، تأكل فيه وتشرب وتلعب، تصنع ما يحلو لها وتقيم صروحًا من علاقات مفترضة، ولا ينقص مثل هذه الحياة البديلة إلا الإحساس بالراحة الكاملة حتى تصبح شبيهة بالحياة التي نعرفها، لذلك يبتل فراشها كل صباح.

وهكذا تحكي «فاطمة» حكايتها التي يمكن اختصارها بفتاة من أسرة متوسطة الحال تعيش في قرية قريبة من القاهرة، يعمل أبوها مدرسًا ويكتب قصصًا قصيرة، ويقودها عمها «مختار»، الذي تدعوه «بالخنزير» ويتحكم في مسار حياة العائلة، إلى الزواج من الضابط «خالد»، وعنده تتحطّم كل آمالها وأحلامها في الحياة الزوجية التي كانت تتخيلها، ولكنها تواصل استكشاف ذلك العالم الواقعي الذي يفاجئها بأسرار وحقائق ويضعها في مواقف لم تكن على استعداد لها حتى تجد نفسها في حالٍ لا تقوى على التعامل معه أو تحمله.

في اللحظة التي تبتعد فيها «فاطمة» عن بيتها وأسرتها الصغيرة، إلى بيت زوجها في الحي الجديد على حدود القاهرة «حي الزهور» تظهر شخصيات جديدة يبدو أنها تنتمي فقط «للعالم الخيالي» الذي تحبه، وتتمنى أن تعيش داخله، ولكن الصور كلها تبدو مهتزة وتتراوح تلك الشخصيات بين الحضور والغياب، ولا نتمكن في الواقع، بينما نحن أسرى للحكاية كما تحكيها «فاطمة» فقط، بدون أن يتدخل في السرد آخرون ليوضحوا الصورة، من التأكد من حقيقة هذه الشخصيات، وهل ما تحكيه وما تراه هم شخصيات حقيقية أم متخيلة.

يترك «العادلي» الرواية والمشاهد كلها مفتوحة للتأويل، إذ تظهر الممثلة «كريمة شوقي» وابنتها «شروق» التي تحاول الهرب من سيطرتها، كما نجد الشاب صاحب الطاقية البيضاء الذي يشبه «خالد» زوجها ولكنه الجانب الآخر منه، ذلك الجانب الحالم الرومانسي الذي تفتقده في زوجها. وهكذا تظل تتراوح «فاطمة» بين العالمين، ويبقى القارئ على وشك تصديق أن كلا العالمين موجود وحقيقي، حتى تقع تلك الحادثة التي تفصل الخيال عن الواقع، وتجعل «فاطمة» في النهاية متهمة بجريمة قتل.

الواقع الذي يطالبني الجميع بالامتثال لأوامره يمر أمامي في لقطاتٍ سريعة، مشاهد أحادية اللون بلا أبعاد، أجهزة الاستقبال عندي لم تكن ترى المشهد وقت حدوثه، بل تراه بعد أن تفتته الذاكرة وتقوم بتركيبه من جديد، تصنع له الرتوش والألوان وأرى ما شكَّله خيالي بأنه هو نفسه الواقع الذي رأيته منذ قليل، وكانت مهمة مَن حولي هي محاولات إبطال الحاسّة التخيليّة لديَّ.

يبدو في الرواية وعي خاص لدى الساردة/ فاطمة ، والكاتب بطريقة الحكي، وأثر الكلمات، وفي الوقت الذي يبدو فيه أن ذلك الأثر حملته «فاطمة» من والدها الذي يكتب القصص القصيرة، فإنه يبدو بشكل أكبر رسالة ضمنية من الكاتب «عمرو العادلي» ونوعٌ من لفت انتباه القارئ/ المتلقي إلى «طريقة الكتابة» وأسلوب اختيار «الكلمات» المعبرة عن المواقف والأحداث.

نلمح ذلك كثيرًا بين طيّات الرواية، وبينما الحكاية تنساب بسلاسة مع فاطمة إذ نجدها تشير مرة إلى «الكلمات الفاترة» التي يتحدث بها والدها مع أمها في مقابل الجمل «الحية» التي ترد بها عليها، هناك على الدوام ملاحظات على طريقة «الحوار» وعلى الكلمات التي تفي بالغرض منها والكلمات التي لا تقدم ولا تؤخر. كما يبدو ذلك في اختيار «فاطمة» أحيانًا للاستماع للكلمات التي تتوافق مع عالمها الخيالي، وتجاهل تلك الكلمات الأخرى التي تفرض عليها واقعًا لا ترغب فيه وتعبر عن ذلك بوضوح (كم يبدو قاسيًا أن ينسحب الخيال فجأة فيفسح المجال لما هو حقيقي فقط) وغير ذلك من الإشارات.

من جهة أخرى يبدو الكاتب حريصًا على تصوير العالم كله من وجهة نظر البطلة/ الساردة، التزامًا منه بتقنية «تيار الوعي» التي اتخذها منذ البداية، حتى أننا لا يمكن أن نتعرف على الشخصيات إلا من وجهة نظر فاطمة، تلك الشخصيات التي تتراوح في حدتها بين الشر المطلق أو الاستسلام التام، وبين الشخصيات غير محددة المعالم هل هي خيالية تمامًا أم أن لها وجود في الواقع، بالإضافة إلى قدرتها الخاصة على وصف العالم كله بتفاصيله، تلك الفتاة التي كانت تهوى «الرسم» في صغرها وضاعت منها تلك الموهبة، ولكنها تستردها هذه المرة فيما يبدو بالحكاية.

في النهاية نجد أن خيوط الرواية تتجمّع، وأنها كانت ملقاة من البداية، واستطاع «عمرو العادلي» أن ينسجها بعناية داخل بناء الرواية، ومن خلال لغة وسرد البطلة التي عبّرت عن هاتين الحياتين، وهو إذ يقود القارئ بين تفاصيل أحداث الرواية، لا ينسى أن يترك فصل النهاية يذكره بالمشهد الافتتاحي للرواية الذي كان فيه:

تخيلت أن لي حياتين، واحدة أتمنى حدوثها وأخرى تحدث لي بالفعل، الخط الوهمي الفاصل بينهما يهتز بشكل دائم، يذوب ويتلاشى كلما تأملت الناس من حولي، محاولات التركيز مستمرة جعلتني متأكدة أنهم موجودون بالفعل، وأنني لست سابحة في دهاليز حلم لوهلة، أحسست أني أعيش كابوسًا طويلاً متقطعًا، يتم توزيعه على الأيام بلا إنصاف. في الحياة التي أتمناها أرى نفسي ما أزال طفلة تنسدل على كتفيها ضفيرتان طويلتان، يغلف الكون من حولها غموض جميل. أما في الحياة التي تحدث لي فأنا مكبّلة، أمامي قضبان حديدية سوداء، أرى رؤوس الجالسين موجهة ناحيتي بثبات، نظراتهم تليق بامرأة متهمة في جريمة قتل.

تضعنا الرواية في النهاية أمام تساؤل: هل أخطأت فاطمة إذًا حينما تركت نفسها لعالم الخيالات والأحلام الذي لم يفارقها مذ كانت طفلة، فانقضت عليها لتفسد واقعها وعالمها الحقيقي، أم أن ذلك الواقع كان مشوهًا وقاسيًا لدرجة جعلته يغتال براءة تلك الأحلام ويلقي بها في غياهب الظلمات؟ كيف يمكن لمن يحمل تلك الشخصية الحالمة التي تصبو لدنيا الخيال أن يعيش في ذلك الواقع المليء بالكذب والخداع والمؤامرات؟!

تعد رواية «اسمي فاطمة» الرواية الخامسة لعمرو العادلي، الذي يحرص على الجمع بعناية بين القصة والرواية في كتابته الأدبية، فقد أصدر عددًا من المجموعات القصصية كان آخرها «عالم فرانشي»، حصل على جائزة ساويرس عن مجموعة «حكاية يوسف إدريس» عام 2015، كما حاز على جائزة الدولة التشجيعية في الرواية عن روايته «الزيارة» في العام الماضي.