إن فقد أنفُك حاسةَ الشَّمِ، فلا تلُمْ الوردةَ

الرّومي

نبّهني الأخ محمّد بهيّ بعد نشر مقالي عن الشيخ محمد حميد الله على إضاءات إلى كتاب سيد عبد الماجد الغوري (محمد حميد الله سفير الإسلام وأمين التراث الإسلامي)، وقد حرصتُ على مطالعة الكتاب الذي خصصه صاحبه لشخصية لم تعد معروفة اليوم حتى في أوساط البحث العلمي العربي، وإن عُرفت فإن معارف الباحثين تقتصر على مطالعتها لكتاب من الكتب التي حققها أو دراسته عن الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة.

سفير الإسلام وأمين التراث الإسلامي في الغرب عنوانٌ مغرٍ ومحفّز على مطالعة سفر يسافر من خلاله القارئ صحبة عالم أتقن لغات عدّة وعاش حياة حافلة بالإنتاج، وآثر العمل في صمت وإن جاب أقطار الأرض وحاضر وناقش وكتب وترجم وأثّر في أجيال عدة.

يستهل الغوري كتابه بذكر شهادات لعلماء وكتّاب مسلمين عرب، انبعثت أغلبها من مطالعة إنتاج الشيخ حميد الله، وتظهر هذه الشهادات الشيخ كرائد أوّل في تحقيق تدوين الحديث النبوي، منذ نشر صحيفة همام بن منبه –كما يرى الشيخ صبحي الصالح [1]-، والشيخ لا يتوانى عن تقديم المساعدات العلمية بكرم لم نعد نرى نظيرًا له اليوم. فاستجابة لطلب الشيخ عبد الفتاح أبي غدة حينما تعذّر عليه الحصول على نسخة من كتاب الموقظة في علم الحديث للذهبي، نسخ الشيخ حميد الله النصّ المخطوط وقابله بالأصل وأثبت عليه تعليقات وأرسلها إليه، ولعل الشيخ عبد الفتاح عرف حميد الله متأخرًا لأنه لم يدرجه ضمن مجموعة العلماء العزّاب في مصنفه «العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج».

ويشهد الدكتور صلاح الدين المنجِّد في تقديمه لنشرة حميد الله لكتاب الذخائر والتحف للقاضي الرشيد بن الزبير من علماء القرن الخامس الهجري للشيخ حميد الله بأنه أظهر محاسن التراث الإسلامي عبر تحقيقاته وتآليفه، ويذكر جزءًا من مناقبه، فحميد الله أتقن ما يقرب من عشر لغات حيّة شرقية وغربية، وكان أستاذًا أصيلاً أو زائرًا، في جامعات الهند وألمانيا وفرنسا وتركيا، وألّف كتابه الشهير «الوثائق السياسية في عهد النبي والخلفاء الراشدين» فأصبح مرجعًا كلاسيكيًا في تراثنا الحديث، وحقق الأول من «أنساب الأشراف» للبلاذري الذي أخرجته جامعة الدول العربية، كما حقق قطعة من كتاب (النبات) للدينوري، وهو مصدر لُغويٌّ لا تقدّر قيمته. هذا إلى تواليف ومقالات كثيرة نشرها بالإنجليزية والفرنسية والألمانية والعربية [2].

وتُختم الشهادات مؤكدة على أن حميد الله وقف حياته للعلم، واستنفد عمره في خدمة الإسلام، مطرحًا أهداف الدنيا سالكًا طريق الزّهاد.

كانت غاية الغوري في تصنيف هذا الكتاب أن يقدّم للقارئ إنتاج حميد في مسرد عام مع إلقائه الضوء على أهم النقاط التي تبرز شخصيته وحياته، وقد حقق الغوري شيئًا كبيرًا من هذه الغاية عبر صفحات الكتاب. لكنني أحب أن أؤكد على نقطة لم أر أية إشارة إليها في كتاب الغوري أو في المقالات التي احتفت بالشيخ كسلفي بأقلام كتّابنا العرب، ألا وهي «اهتمام حميد الله بالتصوف».


كنت أشرت في مقالي السابق إلى الصلة التي انعقدت بينه وإيفا ميروفيتش المحبّة لمولانا جلال الدين الرومي، ولفت نظري في مقدمته لكتاب الذخائر والتحف أنه يذكر الرومي مبجّلا إياه (مولانا جلال الدين الرومي) على عكس ما تفعله سلفية اليوم حين يُذكر الرومي. فيصفونه بـ(مولاهم) من باب التهكم والسخرية بل وينهالون عليه وعلى أتباعه بالسباب والتفسيق، كما فعل أبو الفضل القونوي المقيم في المدينة المنورة في كتابه أخبار جلال الدين الرومي. لذا سأحرص هنا على ذكر صورة لحميد الله تختلف عما هو سائد وعما يُراد بنا ألا نعرف غيره!.

في الترجمة التركية التي أنجزها إسماعيل حقّي آقن لكتاب المفكّر المغربي «محمد عزيز لحبابي» شخصانية الإسلام عام 1972، أورد في خاتمة الكتاب رسالة من محمد حميد الله بعث بها إليه، مؤرخة بتاريخ 27 سبتمبر/أيلول 1967. ولأن هذه الرسالة توضح لنا علاقة حميد الله بالتصوف سننقل للقارئ الكريم طرفًا منه علّه يعيد النظر فيما يصل من معلومات عن هذه الشخصية، يقول حميد الله:

لقد كانت العقلانية هي النمط الذي تربيتُ عليه، وكانت دراساتي وبحوثي تحملني على رفض كلّ شيء لا يمكن تعريفه وإثباته بصورة مقنعة، وبالطبع كنتُ أؤدي فروض الإسلام، مثل الصلاة والصيام وغيرها، ليس لأسباب تصوّفية، وإنما لأسباب شرعية. وكنتُ أقولُ لنفسي: إن الله تعالى هو ربّي ومولاي، وقد أمرني أن أفعل هذه الأشياء، ولهذا يجب عليّ أن أقوم بهذه الواجبات، فضلاً عن هذا كله، يرتبط الحق والواجب كل منهما بالآخر، والله تعالى قد أمرني بذلك كي أنتفع وأستفيد منه، وواجبي في تلك الحالة أن أشكره. ومنذ أن بدأتُ العيش في مجتمع غربيّ في باريس، كنتُ أشعر بدهشةٍ وحيرةٍ من قبولِ النّصارى للإسلام، ذلك أن ما دفع هؤلاء إلى اقتناع الإسلام ليست آراء علماء الفقه والكلام، بل هم الصوفيون مثل ابن عربي، ومولانا جلال الدين الرومي، وكنتُ في هذا الموضوع شاهد عيان. فعندما طُلب منّي إيضاح إحدى الموضوعات الإسلامية، فجوابي وأدلتي العقلية لم تكن مقنعة للسائل، ولكن الإيضاح والشرح الصوفي لم يتأخر عن إعطاء ثمرته، وبدأت أفقد بالتدريج قوة تأثيري في هذا الموضوع، والآن أنا مؤمنٌ أن الذي سيخدم الإسلام اليوم لا سيّما في أوروبا وأفريقيا، ليس السيف أو العقل، بل هو القلب – أي التصوف
كما كان الحال في زمن «قزان خان» عقب الدمار والخراب الذي سبّبه هولاكو. وبعد رؤيتي الجديدة في هذا الموضوع، بدأتُ في دراسة بعض المؤلفات التي كُتبت في موضوع التّصوف، مما فتح عيون قلبي، وفهمت أن التصوف الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم وكان منهج كبار متصوفة الإسلام لم يكن الانشغال بالكلام فقط أو بأشياءَ لا معنى لها، بل كان السير في أقصر طريق بين الإنسان وربّه، والبحث عن تنمية الشخصية وتطويرها. ويبحث الإنسانُ بطبعه عن أسباب الواجبات التي كُلّف بها، لكن الشروح المادية في المجال المعنوي تُبعدنا عن الهدف، أما الشروح المعنوية فهي التي تُقنع الإنسان.

انتهى ما أردنا أن ننقله للقارئ الكريم تعبيرًا عن رؤية حميد الله غير المشهورة عن التصوف في الإسلام.


[1] : الشيخ صبحي الصالح أستاذ الإسلاميات وفقه اللغة في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية، تعلّم في الأزهر الشريف، وعُرف بكتبه في الفقه وعلوم القرآن والحديث والشريعة، ترجم بالاشتراك مع الأب الدكتور فريد جبر كتاب فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية، وتظل مقدمة الكتاب وتعليقات الشيخ نصوصًا لا يستغني عنها دارس للفلسفة الإسلامية والحوار الديني، راجع تقديمًا للكتاب في مجلة الأزهر بقلم أحمد فؤاد الأهواني، في باب (ما يُقال عن الإسلام) السنة الحادیة والأربعون، صفر 1389، الجزء 2.[2] : راجع مقدمة صلاح الدين المنجد للكتاب المذكور، نشرة الكويت 1959، ص 7، 8.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.