إن كان لأحدٍ فضل في المكانة التي وصلت إليها بعد الله سبحانه وتعالى، فهي زوجتي عطية الله التي كانت بالفعل عطية من الله إليَّ.
نجيب محفوظ متحدثًا عن زوجته

في العام 1957م، جلست مُحرِّرة صحفية في مجلة «صباح الخير»، في حضرة الأديب نجيب محفوظ تُجري معه حوارًا، وفجأة سألته «لماذا لم تتزوج؟» كان سؤالاً منطقيًا للغاية بحقّ أشهر أديب في مصر الذي تجاوز عُمره 46 عامًا دون زواج.

لم يرتبك نجيب من السؤال لأنه تعرّض له مرارًا وتكرارًا، فمنحها إجابته التقليدية لكل مَن يُوجِّه له ذات الاستفسار: «لأن أبي يا ستي مات، وفات والدتي وأختي الأرملة (تُدعى أمينة)، وكانت ماليتي (راتبي) يا دوب، وكنت رجلهما الوحيد، وقد تزوج أخواي الأكبر (إبراهيم ومحمد) مِنِّي منذ سنوات وانشغلا بأسرتيهما»، ثم بعدها شرح لها كيف أن هذه الظروف الصعبة سرقته حتى فاته سن الزواج.

جدير بالذكر أن نجيب محفوظ خلال إجراء هذا الحوار كان متزوجًا من 3 سنوات!

عندما نتحدث عن علاقة نجيب بزوجته، فإن صاحب نوبل ضمن لنا ألا نتورّط في سردٍ مُمل لقصة حُب تقليدية قوامها امرأة جميلة وكاتب موهوب يستميل قلبها بالكلمات.

كلا، يواصل نجيب منحنا الإثارة والتميز حتى لو قرأنا عنه هذه المرة ولم نقرأ له، وسبب ذلك البسيط أنه لم يُحبّها أبدًا!

صحيح أنه استفاض كثيرًا خلال حواراتٍ مُتعددة قام بها في توجيه أسمى عبارات الشُكر البليغ لها بسبب عنايتها الشديدة به، ونجاحها في الدوران داخل فلك روتينه المُقدَّس بكل سهولة كرجل «لا يُغير شيئًا من عاداته وطباعه» كما يصف نفسه دومًا، وتعاملها الفَطِن مع أديب جمّ الموهبة لا يُفكر إلا في كتابة رواية حالية والتخطيط لرواية مستقبلية وإجراء تعديلات على رواية قديمة!

في هذا الشأن وقفت زوجة نجيب جواره مواقف الأبطال واحتملت منه ما لا يُحتمل، أهونها فارق السن الشاسع بينهما فكانت في العام 16 من عمرها بينما كان هو في الـ43 من عمره، وأقساها إبقاء زواجهما سِرًّا عن الجميع بمن فيهم أمه!

لكنه رغم ذلك لم يقل أبدًا أنه يُحبّها، ولا حتى في عِز لحظات الزواج الأولى التي تُصاحبها دومًا فورات عاطفية، فقط اكتفى بالتأكيد على أنه اختار «الزوجة المناسبة» لظروفه الحالية، وكان أكثر من صريح خلال حديثه عنها بقوله: «لم تنشأ بيننا قصة حب سابقة على الزواج، كنت فقط في حاجة إلى زوجة توفر لي ظروفًا مريحة تساعدني على الكتابة».

في إحدى زياراته لصديقٍ مُتزوج لا نعرف مَن هو، تعرّف على شقيقة زوجته فبدت له «هادئة الطباع رقيقة المشاعر» فقرر أن يتزوجها لا لحبٍّ مباغت حطَّ على قلبه وإنما انصياعًا لهاجسٍ بأنه لو لم يتزوج هذه المرة لن يتزوج أبدًا.

بدت له عطية الله إبراهيم رزق الفتاة المُناسبة التي جاءته في الوقت المناسب، وهو حالة الصيام الإبداعي التي سقط فيها عقب قيام ثورة 1952م، والتي لم يُكنُّ لها حبًّا كبيرًا بسبب ميوله الوفدية، تزوّجها على شرطٍ وحيدٍ غريب، أن يُخفي أمر زواجه عن كل المحيطين به، وأولهم أمه التي كانت لديها لنجيب «شوفة تانية»؛ قريبة ثرية تمنّى أبوها الظفر بنجيب زوجًا لابنته حتى لو تحمّل كافة نفقات الزيجة، وهو ما أثار غضب الأديب بِاعتباره عرضًا ماسًّا بكرامته فخرّب الفكرة من بدايتها.

وافقت عطية الله، ولم يعلم من طرف نجيب بهذا الارتباط إلا أخوه الأكبر محمد. تزوجا في «عوّامة» على النيل بالعجوزة، وفيها رُزق نجيب بِابنته الأولى أم كلثوم (اسم شُهرتها هدى)، التي منحها والدها هذا اللقب تيمنًا بمطربته المفضلة كوكب الشرق أم كلثوم، ولمّا علم أن الاسم الحقيقي لأم كلثوم هو فاطمة أطلقه على اسم ابنته الثانية (اسم شُهرتها فاتن).

نجيب محفوظ توفيق الحكيم أم كلثوم
«نجيب محفوظ» بين «توفيق الحكيم» (يمين) و«أم كلثوم»

يحكي محفوظ أنه قضى في هذه العوامة «أسعد أيام حياته» وتمنّى أن يُكمل بقية أيامه فيها، وهو ما لم يستطع تحقيقه بعدما سمعت زوجته بنبأ وفاة طفلة جارتها عقب سقوطها في الماء، فأعلنت له رغبتها في الرحيل عنها خوفًا على ابنتهما أم كلثوم من ذات المصير، لم يبتعدا عن النيل كثيرًا، فقط رحلا إلى شقة في إحدى العمارات المواجهة للعوامة.

كبرت ابنتاه أم كلثوم وفاطمة ودخلتا المدرسة، وفي أحد الأيام تشاجرتا مع زميلة لهما في الفصل، تسرّب الخبر بطريقةٍ ما إلى صلاح جاهين، صديقه العزيز والعضو شبه الدائم في «شِلة الحرافيش»، أو «النجم الثاقب» كما أسماه نجيب، قبل أن يُخلِّد جوانب من سيرة جاهين حين دمج بعض جوانب حياته الأساسية ضمن البناء الدرامي لبطل رواية «قشتمر» عبر شخصية الرسَّام المكتئب طاهر عبيد الأرملاوي.

لم يدّخر جاهين وسعًا في «تجريس» نجيب، «صديقه الكبير» كما وصفه في إهداءٍ له على أحد كتبه، وخلال ساعات كان السر مُذاعًا في كل مكان.

إهداء صلاح جاهين إلى نجيب محفوظ
إهداء «صلاح جاهين» إلى «نجيب محفوظ»

أديب مصر البازر متزوج في السر، ليس من عامٍ أو اثنين، وإنما من عشر سنواتٍ كاملة (قالت أم كلثوم في حوارٍ لها إن المدة أقل من ذلك، لكنها لا تذكر مدة «الكتمان» تحديدًا).

كان أعظم ما قامت به عطية الله في زيجتهما، أنها سريعًا ما فهمت شخصيته ولم تُحاول تغييرها أبدًا بل انسجمت معها وبنت عالمها حوله لا العكس.

يقول: «زوجتي تحملتني كثيرًا وساعدتني على تطبيق النظام الصارم الذي فرضته على حياتي، ووفرت لي جوًّا مكنني من التفرغ للكتابة»، ويُضيف في حوارٍ آخر: «كانت عطية زوجة تفهم أننى لست كائنًا اجتماعيًّا، ولا أحب أن أزور أحدًا أو يزورني أحد، وأنني وهبت حياتي كلها للأدب، ووجدت في عطية الله هذا التفهم وتلك الصفات المناسبة لي».

قبل فوزه بنوبل، عانَى دومًا من وضعٍ مالي غير مستقرٍّ؛ فالأدب، كحاله دائمًا، لا يُثري صاحبه أبدًا، ودخله من وظيفته الحكومية يكاد يغطي نفقاته، وبالرغم من ذلك رفض عرضًا ضخمًا من مصطفى أمين للكتابة في أخبار اليوم، بسبب عداء “أمين” السابق للوفد، هنا تغضب زوجته وتُذكره بدخلهما المحدود لكنه يُصمم على الامتناع انتصارًا لمبادئه.

حياة وصفها نجيب نفسه بـ«الرهبنة»، التي وجَّه لزوجته الشكر لأنها احتملتها معه.

لم تكن هذه الأفاعيل هي الثمن الوحيد الذي دفعته زوجة نجيب الأديب، وإنما تقوضت حريتها يومًا بسبب روايته «أولاد حارتنا»، فبعد نشر حلقاتها شكت لزوجها من تعرّضها لمراقبة أمنية كلما نزلت من البيت ولو حتى لشراء الخضار!

وبسبب هذه الرواية، أيضًا، كادت أن تلقى مصير زوجة المُفكِّر نصر حامد أبو زيد، بعدما رفع الشيخ يوسف البدري دعوى قضائية يُطالب فيها بالتفريق بينها وبين زوجها نجيب محفوظ بسبب ما اعتبره سطورًا مارقة كتبها محفوظ ضد الدين.

دعوى تفريق نجيب محفوظ عن زوجته
من إحدي الصحف: «دعوى تفريق نجيب محفوظ عن زوجته»

وبعدها تنقطع مشاكل «الرواية المحرمة» حتى أتت محاولة الاغتيال الفاشلة لزوجها عام 1994م، والتي طالعتها لم ترها لأنها كانت نائمة حينما أتاها خبر أن «الأستاذ حصلتله حادثة بسيطة».

وفي شهادتها أمام النيابة أكّدت أنها قابلت الجناة من قبل، ووصفت ملامح أحدهما بدقة، فقبل الحادث بيوم زاروا الشقة بدعوى أنهم معجبون خليجيون بزوجها ويرغبون في مقابلته، ولما اعتذرت لهم لأنه غير موجود انصرفوا بعدما تركوا له علبة شيكولاتة وورد!

بعدها غضبت على الكاتب الصحفي فتحي هاشم حينما ادّعت الجرائد أنه أول مَن أسرع إلى نقل نجيب إلى المستشفى عقب إصابته، واعتبرت هذه المعلومة تعريضًا بسمعتها كزوجة وفية، وقالت: «وأين كنّا نحن حينما نقل فتحي هاشم نجيب إلى المستشفى؟!» ولم تسمح له برؤيته طوال بقائه في المستشفى للعلاج.

كانت تعلم جيدًا مدى سخط زوجها على الحُكم الناصري، لذا عندما بلغه خبر وفاة عبد الناصر وقف، وهو أستاذ الكلمات، عاجزًا عن النُطق، أما هي فعبَّرت عمَّا يجيش في صدره خيرٌ منه بقولها “يلاَّ خلينا نتنفس”!

لم تكن أول مَن آمن به من النساء لكنّها كانت أكثرهن يقينًا، وعندما حكى لها يومًا عن الصحفي السويدي الذي قابله قبل حصوله على نوبل بـ8 أعوام، وامتدح أعماله وأخبره أنه سينال هذه الجائزة خلال عامين، لم يُصدِّق نجيب الرجل ونسي نبوءته بمرور الزمن لكنها لم تنسَ وظلَّت تُذكِّره بها وكانت أكثر إيمانًا به منه حتى جاء عليها يومٌ أيقظته فيه من نومه لتُخبره أنه فاز بنوبل فظنَّ أنها تمزح وقال لها “بلاش تخاريف”، وأراد العودة إلى النوم مُجددًا!

بعد التأكد من أنباء التتويج، قرر نجيب أن يُحافظ على رغبته في عدم السفر ورغب في ترشيح ابنتيه لاستلام الجائزة بدلاً منه، لكنه تحرّج من إخبار السويديين بذلك، فتكفّلت هي بالمهمة وذهبت إلى مقر السفارة السويدية وقابلت السفير وأقنعته بقرار زوجها.

وقبل أن تسافر الفتاتان ذهبت بهما إلى واحدٍ من أفخر محال القاهرة لتشتري لهما ثوبين يليقان بنوبل ولحظتها التاريخية.

لحظة تسلم أبنتي نجيب محفوظ لجائزة نوبل عام 1988
لحظة استلام ابنتي نجيب محفوظ لجائزة نوبل عام 1988

وعندما سُئل عمَّا سيفعله بالقيمة المالية للجائزة (290 ألف دولار = مليون جنيه مصري)، أجاب: «السؤال دا مش ليا لوحدي، ليا وللمدام».

كل هذا نعرفه من حوارات نجيب المتعددة، التي تحدَّث فيها الأدب غالب الوقت وعنها في حالاتٍ نادرة، فتسرَّبت منها شذرات كلامٍ عن زوجته البعيدة عن الأضواء، لأنه كان يعتبر بيته حصنًا ولم يسمح لأحدٍ بالتعامل مع زوجته وابنتيه إلا أقرب أصدقائه، حتى أن صديقه المُقرَّب يوسف القعيد كشف عنه أنه لم يدخل منزله ولا مرة إلا يوم حصوله على نوبل!

أما عطية الله فلم تنطق أبدًا إلا في حوارٍ نادر مع الصحفية نِعم الباز بعد رحيله كشفت فيه بعضًا من كواليس زوجها الإبداعية.

تحكي:

عندما يبدأ في التفكير في رواية جديدة يُصبح شديد العصبية، يطلب الهدوء التام، ويثور إذا قطع عليه أحد حبل أفكاره، لذا فإنها كانت تأمر الجميع بالهدوء لتهيئة الجو المناسب له بقدر الإمكان، وتحاول معاونته بتزويده بالمشروبات التي يُحبها كالينسون والكراوية إذا كان الجو شتاءً، أما إذا نزل الإلهام عليه صيفًا فلا تقدم له إلا أكواب المياه المثلجة، حتى يهدأ و«يُمسك القلم»، عندها تعتبر أنه اجتاز أصعب مرحلة عنده في كتابة الرواية، وأن مهمتها قد نجحت.

نفت في الحوار أن يكون «سي السيد» في منزله كما نفى هو سابقًا أن تكون هي أمينة في المنزل، وتعتبر أن شخصيته أقرب إلى كمال عبد الجواد، كما كشفت عن تدخلها الدائم في اختيار ملابس زوجها بقولها: «إذا كانت ألوانه متناسقة اعرفي أنني اخترتها له، وإذا لم تكن، اعرفي أنني كنت مشغولة عنه».

وفي عام 2006م ينجح الموت فيما فشل به الشيخ يوسف البدري ويُفرِّق بين نجيب وعطية الله بعد نصف قرن من الزواج «المناسب»، يرحل نجيب وتظلُّ هي من بعده تعيش على ذكراه وتحفظ وصيته بأنه تبقى في الظل حتى لحقت به عام 2014م في الذكرى 103 لمولده.