يملك رواد مواقع التواصل الاجتماعي بشكلها الحالي سطوة ضخمة وقدرة على إحداث التغييرات سواء كانت إيجابية أو سلبية، ذلك الضغط الجمعي والقدرة على التفوه بالآراء غالبًا ما تصنع فارقًا، بالطبع عندما يكون ذلك الفارق لا يتعلق بمؤسسات سياسية ضخمة أو مؤسسات رأسمالية مسيطرة، لكن غالبًا ما تكون تلك السلطة وهمية، فالخلافات التي تأخذ وقت رواد تلك المواقع لا تملك التأثير الذي يتخيلونه على أرض الواقع، لأنها غالبًا ما تتناول قضايا متعلقة بالطبقة المتوسطة أو الطبقة المتوسطة العليا أو ما فوقها، آخر الخلافات الضخمة التي وحدت مستخدمي «فيسبوك» بخاصة هؤلاء المهتمون بالأدب هو النقاش عن أغلفة روايات الأديب الشهير الحائز على نوبل نجيب محفوظ، هوجمت دار النشر التي احتكرت أعماله آخرًا «ديوان» بسبب سماحها لتلك الأغلفة بالظهور بل طالب البعض الجهات المسئولة بمنع تلك الأغلفة أو إجبار الدار على تغييرها لأنها تهين أدب الأديب المصري الأشهر والأكثر عالمية، فأصبح الخلاف الحقيقي لا يتعلق بعملية الاحتكار نفسها أو بالخلاف على الذوق البصري وتحول إلى خلاف يشبه خلافات إهانة المقدسات سواء كانت دينية مثلا أو ثقافية.

انقسمت الآراء بين داعين لعودة الأغلفة الأصلية التي أنتجتها مكتبة مصر ورسمها فنان الأغلفة المصري جمال قطب، أو حتى أغلفة الدار المحتكرة قبل الحالية «الشروق» التي رسمها حلمي التوني، لأنها أقرب للسمعة والروح المعتادة لنجيب محفوظ باعتباره كاتبًا غارقًا في المصرية وصانع أيقونات شعبية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الثقافة نفسها، أما الأغلفة الجديدة التي سمتها الدار بمشروع نجيب محفوظ تنقسم إلى عدة أقسام ويختص فنانون شباب متعددون برسم كل منها، لكن التصميم الرئيسي للغلاف يظل ثابتًا منسوبًا إلى «40 مستقل»، ويتركز الرسم في مربع تحت خط ضخم مكتوب به اسم نجيب محفوظ، معظم هؤلاء الفنانين يعملون في الرسم الرقمي والعديد منهم من خريجي الكليات الفنية المصرية، متأثرون بشكل واضح بالمحتوى البصري العالمي جديده وقديمه لكن الرقمي منه بالتحديد، تظهر رسومهم منمقة ونظيفة، معبرة عن محتوى الروايات أحيانًا بشكل واضح أو ملمحة عنه من بعيد.

الحنين للمألوف

بدأ الجدل بصدور الغلاف الخاص برواية «اللص والكلاب» وهي إحدى أشهر روايات محفوظ بخاصة مع شهرة الاقتباس السينمائي الخاص بها، ظهر الغلاف بلون أخضر باهت مع لوحة رقمية موضوعة في المربع الخاص باللوحات في فورمات التصميم الجديد، الانتقاد الرئيسي الذي لاحق الغلاف، هو أنه تصوير حرفي لعنوان الرواية لأن الرسم يحتوي على الكلاب نفسها، فجاءت الاعتراضات على حرفية نقل المجاز الأدبي إلى التمثيل البصري، وبدأت مقارنة فورية مع غلاف جمال قطب الذي وجده البعض أقرب لروح الرواية وكاتبها، لكن الطريف أن الغلاف القديم احتوى على تصوير مرئي للكلاب كذلك لكنه في الخلفية مع تصدر يد تحمل مسدسًا في الأرضية، اشترك كلا الغلافين في حرفية التمثيل البصري، لكن الغلاف الجديد توجه لجمالية أكثر تقليلية وتنميقًا.

ربما تكون تلك إحدى الأزمات الرئيسية، ذلك التوجه لجمهور منمق، لذوق خال من الفوضى، وارتباط مكتبة ودار نشر ديوان بتقديم الكتب غالية الثمن المتوجهة لطبقة بعينها، زاد الغضب مع تصريح نجلة نجيب محفوظ بأن أغلفة جمال قطب «تجارية» وهو وصف منطقي وليس إهانة، لكنه أثار السخط، بخاصة أن نوعية رسوم جمال قطب تستدعي حنينًا لماض أبسط، ماض بصري يعني ما يقول ويقول ما يعني بغض النظر عن تعقيده الفني من عدمه، في حين لم يستدع أحد أغلفة حلمي التوني التي تقع في منطقة متوسطة بين تجارية ومباشرة جمال قطب، وبين المينيمالية (التقليلية) النظيفة للرسم الرقمي.

تجنب التوني في غلاف الكتاب ذاته التمثيل المباشر ولجأ إلى ترميز بموتيفات مبسطة، ترميز لا يمثل المحتوى الأدبي ولا ينقل الألفاظ ويترجمها بصريًا بل يحولها إلى أنماط وموتيفات شعبية، فنرى الكلاب كذلك على الغلاف لكن في شكل زخرفي، إذًا فالجدل الرئيسي المتمثل في مباشرة وجهل صانعي الرسم الجديد بمحتوى الرواية يمكن دحضه بسهولة لأن الأغلفة الثلاثة الشهيرة تملك التيمات نفسها لكن بأساليب مختلفة، ويمكن بسهولة إرجاع السخط إلى عنصرين أولهما هو النوستالجيا لما هو مألوف، وثانيهما هو القلق من احتكار طبقة بعينها لأديب ينتقع أدبه بسرديات طبقية مختلفة ويتسم بالفوضى وتصوير الفقر والزخم المديني بعيدًا عن التقليل أو البساطة.

توحيد التصميم

يمكن إلقاء الضوء على مشكلة تشكيلية مختلفة عن فكرة اختلاف الرأي في طبيعة الرسوم الموضوعة داخل المربع وهي وجود المربع نفسه أي اختناق التصميم الرئيسي في إطار محدد، كل الأغلفة تقع في فورمات موحد مقيد ومدرسي يجعل من الأغلفة مساحة لعرض أفكار شخصية وتجارب رسم رقمية مجردة عن فكرة التصميم العام، فلا تتعاطى الصورة مع الخط مثلًا بأي شكل ولا يوجد مجال لموضعة أسماء الروايات بشكل يربطها بالتصميمات المختارة، بل يتكرر النمط بشكل نظامي في كل غلاف: اسم الكاتب بخط ضخم، تحته بخط أصغر كثيرًا اسم الرواية، ثم لوحة في مربع، ذلك التصميم المتعسف يقولب ما هو فوضوي في أدب نجيب محفوظ ويجعله أكثر ألفة وملاءمة للجماليات النقية التي يسعى إليها المحتكر الجديد، لذلك فإن انتقاد الأغلفة الجديدة يجب ألا يضم رسوم الفنانين والتصميم في جملة واحدة لأنهما منفصلان بشكل جوهري، فنقد تلك اللوحات يكاد يكون مجردًا وكأنها رسوم داخل كتاب وليست تصميمًا للغلاف.

بعد خفوت السخط المبدئي ظهرت مجموعة أخرى من الأغلفة لفنان جديد، وهو يوسف صبري المنفذ الفني للأغلفة، تلك المجموعة احتضنت أسلوب سايكاديلي (مهلوس)، وهو الأسلوب الذي ارتبط بعقاقير الهلوسة ويتسم بفوضى عائمة في الألوان والأشكال اللينة، يشبه أغلفة روايات الخيال العلمي وأحيانًا الواقعية السحرية، وضمت روايات: قلب الليل، الحرافيش وليالي ألف ليلة، أثارت قلب الليل تحديدًا جدلًا ضخمًا وتم وصف الرسم بأنه أجنبي ومغترب عن محتوى الرواية، ويتجاهل شعبية محفوظ ويحل محلها جمالية غربية، وجود الجماليات الغربية ليس عيبًا في ذاته، يمكن دمج ثقافات عدة في حالة تصميم محتوى بصري لكاتب متنوع مثل محفوظ لكن المشكلة تكمن في انفصال كبير عن أي جماليات غير التي يقدمها المحتوى البصري المتاح على الإنترنت.

تم وصف الرسوم بالحداثة المفرطة في مقابل كلاسيكية محفوظ، لكن هنا تكمن مغالطة رئيسية فجماليات السريالية السايكادلية ظهرت قبل كتابة محفوظ رواية قلب الليل، فهي في ذاتها تمثل نوستالجيا من نوع آخر، لعصر الروك والرول وجماليات تصميمات بوسترات الستينات الموسيقية والسينمائية، ويمكن بشكل ما توليف تلك الجماليات مع رواية مثل قلب الليل، فهي على الرغم من احتوائها على تيمات محفوظ وطبيعته الفوضوية الخشنة المعتادة في تصوير المشاهد الخارجية من أدخنة وزحام وصعاليك لا يسكنون البيوت، فإنه يلمح من حين لآخر إلى السحر، إلى حالة حكائية أشبه بروايات الواقعية السحرية اللاتينية، فالرواية كلها تقع في محاورة في ليلة واحدة يصعب تمييز ما الحقيقي فيها أو المختلق، تروي الشخصية الرئيسية ذكرياتها عن الجن والملائكة والغرائبيات اليومية، يمكن التمسك بتلك النزعة السحرية لصناعة معادل بصري سيريالي أو سايكاديلي، لكن الرسم على الغلاف لا يستغل فرصة دمج ما هو شعبي مع ما هو سايكديلي بالشكل التقليدي ويختار أن ينحو كليًا إلى تصميم منفصل عن الشخصيات لكنه يؤطر جانبًا منسيًا في محفوظ وهو السحر في العوالم الحقيقية.

لم تلق آخر دفعتين من التصميمات الجديدة نقدًا واسعًا أو حتى انتشارًا لأنها اعتمدت على تصوير تمثيلي لأوجه مصرية بشكل كلاسيكي في صورة فن رقمي، حاكت مريم الرويني أسلوب اللوحات الزيتية بالأدوات الرقمية فظهرت الرسوم الخاصة بروايات حديث الصباح والمساء و أصداء السيرة الذاتية محافظة إلى حد ما، فلم تثر الجدل أو السخط، كذلك الأغلفة التي رسمتها نورا زيد التي اختلفت تصميماتها في عنصر واحد وهو استبدال الألوان الباهتة للأرضية بتصميم بالأبيض والأسود يناسب عملها بالأحبار و الحفر أو الرسم المشابه للحفر فجاءت الأغلفة معبرة عن تصور جمعي للحارة المصرية التي اشتهر محفوظ بتصويرها والتعمق في تفاصيلها، صورت زيد الثلاثية الشهيرة: (السكرية/قصر الشوق/بين القصرين) بمناطق رئيسية ذات منظور بنقطة واحدة تمثل عمق تلك الحارات والمعمار الذي يميزها، لكن بشكل يلائم نظافة وتنميق التوجه العام للتصميمات فأسلوبها هندسي ودقيق ذو تباين عال بين الظلال والأضواء، تلك الدفعة من الأغلفة لا تملك ما يجعلها مثيرة للجدل أو السخط وتملك أسلوبية متكاملة مناسبة لروايات كتبت كثلاثية متصلة أسلوبيًا.

الأصالة والمعاصرة

تمثل جزء من الجدل المصاحب للأغلفة في التناقض التقليدي بين «الأصالة والمعاصرة» أو الكلاسيكية والحداثة، فاتهمت الرسوم الجديدة بأنها حداثية في حين أن محفوظ لم يكن حداثيًا بأي شكل بل كان حكاء كلاسيكيًا تمامًا، حتى مع صحة جزء من تلك الفرضية إلا أن محفوظ مارس التجريب في مواضع عدة، وبنى عدة من أعماله على مفاهيم سردية قبل أن تكون قصصية، روايته «أفراح القبة» على سبيل المثال اعتمدت على تلاعب سردي في وجهات النظر، فركزت على حدث محدد يروى من أربع وجهات نظر مختلفة، ورواية «قلب الليل» تقع أحداثها كلها في إطار محادثة ليلية بين شخصين، ربما لا تكون تلك تجارب متمردة أو صادمة لكنها ليست بالكلاسيكية التي يتم تصوير شخصية محفوظ بها.

لذلك فإن أعماله مفتوحة للتجريب البصري كذلك، أغلفة حلمي التوني للشروق على سبيل المثال وعلى الرغم من أنها شعبية «ومصرية» فإنها مقارنة بأغلفة جمال قطب يمكن وصفها بالتجريب والتجريد في مقابل التمثيل التصويري، كما أن فكرة تضاد المحتوى الكلاسيكي والتصميم البصري الحداثي ليس جديدًا أو صادمًا، معظم الكتابات الكلاسيكية أعيد تغليفها ببصريات حديثة ومعاصرة، كتابات شكسبير على سبيل المثال يمكن إيجادها في آلاف التصميمات والطبعات بعضها محافظ وبعضها معاصر، كذلك كتابات دوستويفسكي الذي يقارن محفوظ به، يمكن إيجاد الكثير منها في صيغ بصرية أكثر حداثية من محتواها، يكمن الفارق في وجود الخيار نفسه، وغياب فكرة احتكار المؤلف أو احتكار هوية أعماله البصرية.

تكمن الأزمة الرئيسية في جدال الأغلفة الأخير ذلك في فكرة الاحتكار، احتكار المنتج وكذلك احتكار جمالياته، والمخاوف التي تصاحب ذلك من تعليب شخصية محورية في الحياة الثقافية وتقديمها لطبقة بعينها أو اختطافها من أحضان الشارع، أو المخاوف من قلة الخيارات، لدى ذلك الجدل وجاهته لكن في حقيقة الأمر معظم قراء نجيب محفوظ يمتلكون أعماله بالفعل سواء ورقيًا أو الكترونيًا، كما يمكن إيجاد الأغلفة القديمة في متاجر الكتب المستعملة، فذلك العنف الرمزي المصاحب لنقد الذوق المخالف لا يختلف كثيرًا عن احتكار الشركات صاحبة البلايين للمنتج، كما أن الهجوم الموجه للفنانين هو استقواء على أفراد لا يمثلون في ذواتهم توجهات رأسمالية حتى وإن انتمى عملهم لتلك المؤسسات.

في مجتمع مفتوح نسبيًا يملك الجميع امتياز حرية الرأي (فيما لا يغضب السلطات بالطبع) لكن يخفت مفهوم الحرية حين يختلط برغبة عنيفة في المنع، تشبه رغبة السلطات نفسها في المنع، رغبة في احتكار ما تم احتكاره وحنين لماض أبسط حتى وإن لم يكن أفضل كثيرًا، سواء كانت تلك التصميمات سيئة أو جيدة فإن المحتوى واحد والخيارات موجودة في ما يخص الغلاف الذي تأتي به.