وصل أدب نجيب محفوظ مبكرًا إلى شاشتي السينما والتليفزيون قبل حتى أن يحتل مكانته التي لا تضاهى في أدبنا العربي. الذين سعوا إلى نقل أعمال محفوظ إلى السينما والتليفزيون كانوا منجذبين لفرادة ورحابة عالمه الروائي واستثنائية شخصياته وبراعته الشديدة في رسم ملامحها الداخلية والخارجية. براعة محفوظ في رسم شخصياته، واضحة حتى في سيناريوهاته التي كتبها مباشرة للسينما.

على كثرة أعمال نجيب التي اقتُبِست للشاشتين ظلت هناك فجوة كبيرة بين نصوصه الروائية والنصوص المقتبسة عنها. هذه الفجوة ليست نابعة من اختلاف اللغة الفنية بين الوسيطين الأدبي من ناحية والسينمائي أو التليفزيوني من ناحية أخرى، بل في الغالب يمكن ردها إلى الاهتمام بالبعد الحكائي في نصوصه على حساب الأبعاد الأخرى. كانت نصوصه الرحبة تضيق على الشاشة، وكان براح أحلامه يضيق وفيض رؤاه وأسئلته تئول إلى الصمت في مقابل صوت حكاياه الرنانة.

هذه بعض المحاولات التليفزيونية التي حاولت أن تقترب بصدق من عالم محفوظ الروائي متعدد الطبقات في محاولة لفتح ثغرات في جسد الحكايات لتعبرها الأحلام والرؤى والأسئلة.


الثلاثية الناقصة (بين القصرين – قصر الشوق)

حين سُئل محفوظ في أحد حواراته عما سيبقى من إنتاجه الروائي، كانت إجابته: الثلاثية. رواية الأجيال التي تحمل بين دفتيها صدى الحراك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بين ثورتين. تبدأ أحداث الرواية قبيل ثورة 1919 وتنتهي قبل ثورة يوليو 1952.

بعيدًا عن النسخة السينمائية من ثلاثية محفوظ التي تحمل توقيع حسن الإمام، وهي الأكثر بريقًا ورسوخًا في ذاكرة الجمهور، يحاول هنا الكاتب محسن زايد – الكاتب الذي سيرتبط اسمه بأفضل الاقتباسات السينمائية والتليفزيونية عن أدب محفوظ – الاقتراب بصدق من عالمه الروائي، حيث يعيد بلورة السؤال الرئيسي في نص محفوظ وإبرازه بصورة جيدة ألا وهو سؤال الحرية، أحد أكبر أسئلة وهواجس محفوظ.

اقرأ أيضًا: كيف رأى نجيب محفوظ السلطة في روياته؟

تتجلى الحرية هنا بوجهيها الاجتماعي والسياسي، التحرر من سلطة الأب المجحفة والظالمة ومن سلطة الاحتلال الغاشم. يسائل «ياسين/ صلاح السعدني» أخيه «فهمي/كمال أبورية» المستغرق في السياسة والمطالب برحيل المستعمر عن كيفية تحقيقه لذلك وهو مرعوب من أبيه إلى هذا الحد؟ يردد فهمي في نفسه: «التحرر من الخوف هو أولى خطوات الحرية الحقيقة.»

يعيد نص محسن زايد أيضًا التركيز على الصراع الداخلي والتناقضات التي تحكم شخصيات العمل.

في حوار مع زايد عن عدم إكماله الثلاثية التي عُرض جزآها عامي 1987، 1988، أجاب بأن الجدل بين الماركسيين والإخوان المسلمين الذي يشغل جزءًا كبيرًا من ثالث أجزاء الثلاثية لم يكن مرحبًا به على الشاشة آنذاك، وتجاهله كان سيهدد بلا شك مصداقية نصه.


السيرة العاشورية

يبدو حلم العدل هو الخيط الذي يربط هذا العمل الملحمي بحكاياته العشر من بدايته إلى نهايته.

في النص الذي كتبه محسن زايد بعنوان «السيرة العاشورية» وأخرجه وائل عبد الله، وعرض للمرة الأولى عام 1989، يحكي زايد الحكاية الأولى من الملحمة، الحكاية المؤسسة، حكاية «عاشور الناجي/نور الشريف» المثل والأسطورة، الرجل الذي صرع الظلم وأرسى العدل في الحارة.

تجسد حياة عاشور الناجي الصراع الأزلي للنور والظلمة في قلب الإنسان وقلب العالم. تبدأ الحكاية مع أنفاسه الأولى وتنتهي باختفائه دون أثر، هذا الاختفاء الذي يؤسس لأسطورته التي تتناقلها أجيال الحكاية.

يختلف النص الذي كتبه زايد عن الاقتباسات السينمائية التي اختصرت زخم النص الروائي في صراع الفتوات، هنا استطاع زايد أن يضمِّن نصه مجازات محفوظ الدينية والميثولوجية، وأن يجسد أحلام شخصياته وتوقها المثالي. نص آخر من محسن زايد يعضد من مكانته ككاتب يعرف جيدًا كيف يصل إلى روح العمل المحفوظي.


حضرة المحترم

طريق سعيد يبدأ من الدرجة التامنة وينتهي عند صاحب السعادة المدير العام، المثل الأعلى المتاح لأبناء الشعب. معقول يا عثمان توصل في بيوم من الأيام.

هكذا يحدث نفسه في يومه الوظيفي الأول «عثمان بيومي/أشرف عبد الباقي» في مسلسل «حضرة المحترم» الذي كتبه عاطف بشاي وأخرجه سيد طنطاوي وعرض للمرة الأولى عام 1999.

بين اللحظتين، لحظة الحلم، ولحظة تحقيقه، عمر من القلق والشك والأسئلة. حياته كلها ظل باهت لهذا الحلم النهم الذي حمله في روحه حتى التهمها. حلم قاسٍ لا يقل قسوة عن الجنون، كلاهما وحيد ومعذب، الحالم والمجنون. أو كما يقول عثمان بيومي: «انت مجنون يا عثمان، وقدرك انك تحب جنونك وتتعذب».

مشكلة النص الذي كتبه بشاي أن هناك فجوة واضحة داخله بين الخط الدرامي للشخصية الرئيسية بكل ثقله الفلسفي ونزيف أسئلته، وبين باقي خطوط الدراما التي تجسد دراما شديدة التقليدية. يبدو النص فارغًا وزائدًا عن الحاجة كلما انتقل بعيدًا عن ثقله الحقيقي/الشخصية الرئيسية.


حديث الصباح والمساء

نحن هنا أمام كلاسيكية تزداد بريقًا كلما مر عليها الزمن. هذا العمل هو ذروة التعاون الإبداعي بين محفوظ وزايد. هنا يعيد زايد خلق النص المحفوظي وخلق شخصياته. يعكس النص جدل الحياة والموت عبر الأجيال، مثلما يعكس فلسفة أبطاله وحيرتهم الوجودية. لا يمكنك تقدير الجهد والإبداع المبذولين في هذا العمل إلا بمطالعة رواية محفوظ التي تحمل نفس الاسم.

اقرأ أيضًا: أصداء التيه والإيمان في سيرة «نجيب محفوظ»

رواية محفوظ التجريبية تتلاعب بقواعد السرد الروائي فهي أقرب إلى السرد التاريخي في معجم الشخصيات والأعلام، فشخصيات العمل مرتبة أبجديًّا وما يكتب تحت كل شخصية هو أقرب إلى بروفايل مصغر لها، الأحداث مجزأة أيضًا وموجزة حسب نصيب كل شخصية في صنعها. تسرد الرواية زمنًا ممتدًّا من الثورة العرابية حتى زمن صدور الرواية 1987. يتناول زايد شريحة من الشخصيات وشريحة من الزمن الممتد لأجيال طويلة ويعيد خلق عالم محفوظ من جديد ببراعة وأصالة منقطعة النظير.

خلق زايد أبعادًا جديدة للشخصيات، ووشَّى عمله بتفاصيل ضرورية ومبهرة تثبت فهمه العميق لعالم محفوظ الروائي.

يقول الناقد الكبير صلاح فضل في مقالة له عن الرواية والمسلسل وعما فعله زايد بالرواية:


أفراح القبة

لقد التقط بعض الخيوط الرفيعة التي طرحها محفوظ ونسج منها رقعة حية غنية بالتفاصيل في الصور السمعية والبصرية. إنه كسا الهيكل العظمي المتشذر في الأصل لحمًا ودمًا دراميًّا حقيقيًّا.

المسلسل مقتبس من رواية قصيرة تحمل نفس الاسم، ونشرت في عام 1981، مع بدايات زمن الانفتاح وسقوط الأحلام الكبيرة التي رافقت عقدي الخمسينيات والستينيات. تدور أغلب أحداث العمل بين خشبة المسرح وكواليسه. يستدعي المسرح فكرة الأقنعة، تتساقط الأقنعة وينكشف المخبوء. يعيش الجميع في ظل الهزيمة الخاصة والعامة. النص بمثابة اعتراف طويل لأبطاله المهزومين. لا شيء ولا حتى الخيال قادر على أن يغلق الجرح المفتوح أو أن يعتق أبطاله الذين يعيشون في الظل المقفر لأحلامهم الضائعة.

يحمل النص الذي تناوب على كتابته محمد أمين راضي، ونشوى زايد، الكثير من ملامح التجديد والابتكار، لكن هذا لا ينفي سقوطه أحيانًا في مناطق شديدة التقليدية مع ظهور ثغرات واضحة في البناء الدرامي.

البطل الحقيقي لهذا العمل المهم هو المنجز الإخراجي لمحمد ياسين، قدرته على توظيف المكان وطبيعته الخاصة داخل الدراما بحيث يصبح أحد أبطال العمل الرئيسيين، تعبيرية الإضاءة وحركة الكاميرا وخلقه جوًّا عامًّا بالعمل لا يتغير مع تذبذب مستوى النص المكتوب أحيانًا.

واحد من أفضل الأعمال الدرامية في السنوات الأخيرة، ونص استطاع – على بعض مواضع ضعفه – أن يستوعب الكثير من روح النص الروائي وأسئلته.