يمكنك أن ترى مصر بكل ما فيها في روايات «نجيب محفوظ»، فهذا الرجل الذي جعل همه في الدنيا كتابة رواية مصرية الشخصيات والأحداث، قد تنقل بحكاياته بين شوارع وحواري مصر لينقل لنا سيرة وأحلام وأوهام شعبها.

اليوم نقرأ معكم بين سطور ما كتبه محفوظ قبيل نكسة عام 1967، وبالتحديد في روايتي «الشحاذ»، التي نُشرت في عام 1965، و«ثرثرة فوق النيل»، التي نُشرت في عام 1966. روايتان يمكننا اعتبارهما بمثابة توثيق لمصر الستينيات التي لا تبدو بعيدة عن مصر اليوم، كما يمكننا اعتبارهما أيضا على جانب آخر توثيقا لمرحلة الرمزية في أدب محفوظ الروائي، مرحلة البحث عن المعنى، أو «تسول المعنى»، كما يطيب لي تسميتها.

تبدو الروايتان بشكل ما مترابطتين، كما لو أن محفوظ قد رسم خيطًا رفيعًا وتركه كأحجية لقرائه، ليبحثوا برفقته وبرفقة بطليه «عمر الحمزاوي»، و«أنيس زكي» عن معنى لحياة، أتينا لها دون اختيار، وتم سجننا فيها دون وعد يقيني بالتحرر.


الشحاذ: تسول المعنى

عمر الحمزاوي هو بطل روايتنا، تبدأ أحداثها به وتنتهي عنده، والجميع يدورون من حوله. عمر محام ناجح، متزوج من امرأة جميلة بعد قصة حب ملتهبة، وله ابنة نابهة تعشق الشعر كأبيها في شبابه، لهذا الرجل أزمة وحيدة، هي فقدان الرغبة في العمل، التواصل مع الناس، الحياة عمومًا، يظنها في البداية مرضًا فيقصد أحد الأطباء، فيخبره أنه سليم عضويًا، ليبدأ رحلة روحية للبحث عن حل لأزمته الوجودية، البحث عن معنى للحياة.

يقصد البطل الحب، والجنس، عله يجد المعنى فيه، فيهجر بيته ومحل عمله، ويقصد البارات والنوادي الليلية، تزداد علاقته النسائية، مرة بفتاة غربية متحررة، ومرة بفتاة شرقية هاربة من أسرتها، ولكنه في النهاية يجد أن نشوة الحب لا تدوم، ونشوة الجنس أقصر من أن يكون لها أثر.

يفقد البطل عقب ذلك الإيمان بكل شيء، يعتقد أن العلم قد تفوق على الدين والفن والفلسفة، ومشكلته أنه يبحث عن إجابة على سؤال ليس له تأهيل علمي، وعليه يقرر أن الأوان قد آن ليفعل ما لم يفعله في حياته، وهو ألا يفعل شيئًا.

الجميع في رواية الشحاذ يعانون، تظهر مصر وسلطتها كدولة تعلن أنها تؤمن بالاشتراكية في حين تسجن من ينادي بتطبيق مبادئها، هكذا تم سجن عثمان خليل صديقه أثناء الشباب، أفلت عمر وصديقه الآخر مصطفى المنياوي من نفس المصير، ولكن ها هو الآن يعاني من سلسة ممتدة من خواء المعني، بدأت بالسياسة وانتهت بالعمل والحب والجنس والأسرة وكل شيء، أما مصطفى المنياوي فانخرط في الكتابة للصحافة والفن من أجل التسلية، يعارض رغبة عمر في خيانة زوجته ثم يعينه على تدبير المواعيد مع عشيقاته.

الاغتراب متحقق في كل مكان، في البيت ومكتب المحاماة ومنازل العشق، وحتى في النوادي الليلية، القاهرة قاهرة في كافة جنباتها، يلجأ بطلنا للعزلة، أولًا في الصحراء حيث يجد نشوة عجيبة لا ندري إن كانت نتيجة اتصالاً بسر الوجود أو نتيجة هلاوس واضطراب عقلي، ونهايةً في كوخ وسط أراضي الريف الخضراء، يزوره الناس فيسألوه «ألا تخاف الوحشة في الخلاء؟» فيجيب «أرهقتني الوحشة في الزحام».

تنتهي الحكاية بالخواء، بلا إجابة على سؤال الوجود، ببطلنا وحيدًا منعزلاً يقضي أيامه بين الأحلام والهلاوس.


ثرثرة فوق النيل: لم يبدع الإنسان ما هو أصدق من المهزلة

أنيس زكي، بطل روايتنا الرئيسي أيضًا، تدور كافة الأحداث حوله ويصحبنا من البداية وحتى النهاية، موظف في وزارة الصحة في قسم المحفوظات، ولكن الفارق بينه وبين عمر الحمزاوي أن أنيس أفندي يبدو كمن يبدأ رحلته معنا من حيث انتهى عمر.

هذا رجل فقد زوجته وابنته منذ ما يزيد على العشرين عامًا، بمرض لا نعرفه، ومنذ ذلك الحين لم يعد للقلب من هم يحمله بعد أن دفن في التراب أعز ما يملكه.

اختار أنيس العزلة، وبدلا من الصحارى والأكواخ التي هرع إليها عمر هاربًا، يقيم مطمئنًا في عزلته داخل عوامة على سطح النيل. للأماكن نفس رمزيتها هنا أيضًا، القاهرة مدينة مزدحمة سيئة التخطيط، محل العمل هو رمز للرتابة وانعدام المعنى وبذل المجهود في سبيل اللاشيء، وما أكثر تعبيرًا عن ذلك من قسم المحفوظات والأرشيف بأتربته وحشراته وملفاته المتراكمة.

لا حاجة لأنيس في الجنس أيضًا، لا يبدو منشغلاً به في حين تدور حكايات العشق والغرام من حوله كل ليلة بين زوار العوامة، وحتى إذا رغب فيه على سبيل قتل الوقت لا يذهب للبارات ولا بيوت الهوى ولكنه يطلب من عم عبده حارس العوامة أن يأتي له بإحدى فتيات الليل، أما الحب فقد ولى زمانه فلا يمثل له سوى سبيل للتسلية واللهو.

يبدو الإيمان بكل شيء مفقوداً في ثرثرة فوق النيل، ويبدو أنيس أفندي على رأس هرم فقدان الإيمان، يضيق الرجل بالدنيا ولا يقوى على مواجهتها وهو في وعيه، كما يعبر عن خوفه من أن يضيق الله بنا، كما ضاق كل شيء بكل شيء، وكما يضيق الضيق بالضيق. العبث هو الباقي، المهزلة ولا شيء غيرها.

الجميع يعاني أيضًا في ثرثرة فوق النيل، ولكن بموت المعنى لا يتبقى للمعاناة وجود، لا يبحث أنيس ورفقته عن غاية لحياتهم ولا يقضون وقتهم في تدبر الوجود وأسراره، اللاشيء يحكمهم، وبدلاً من أن يقودهم البحث بلا طائل عن سر الوجود إلى الجنون والهلوسة، يقررون أن يصنعوا هلاوسهم بأيديهم، أو قل بأنفاسهم، وسط دخان الحشيش الذي لا ينطفئ.

لا يبحثون عن طريق خارج عوامتهم التي ينتمون لها وحدها، يقضون نصف يومهم في العمل لأجل قوتهم، ويقضون النصف الآخر في الثرثرة والحشيش ومطارحة الغرام، وفي المرة الوحيدة التي يخرجون فيها إلى الطريق مدفوعين بحماسات كاتبة جادة، ينتهى بهم الأمر متورطين في قتل مجهول، ليزيح الموت ستار اللاوعي عن عقولهم. وكما نعلم، لا شيء كالموت وأحزانه، يقتحم عليك المأوى بلا دعوة.

تنتهي الحكاية بالخواء أيضًا، بانتصار اللاشيء والعبثية، يموت المجهول، ولا يحرك ذلك سوى اعتراف داخلي من أنيس أفندي لنفسه، إن أصل المتاعب في دنيانا هو الوعي، وعينا بأننا نحيا في نكتة سمجة لا معنى لها. أصل المتاعب مهاردة قرد، تعلم كيف يسير على قدمين فحرر يديه وهبط من جنة القرود فوق الأشجار إلى أرض الغابة، وقالوا له عد إلى الأشجار وإلا أطبقت عليك الوحوش، فقبض على غصن شجرة بيد وعلى حجر بيد، وتقدم فى حذر وهو يمد بصره إلى طريق لا نهاية له.


الحوار الداخلي والتداعي: هلاوس ما قبل النكسة

لا تتشابه الروايتان فقط في بناء الشخصيات ودلالة الأحداث، ولكنها تتشابهان أيضًا في طريقة السرد، يعتمد محفوظ في كلتا الروايتين على الحوار الداخلي، ينقل لنا محفوظ بشكل كبير حوارات عمر الحمزاوي مع نفسه، وتأملات أنيس زكي الواعية واللاواعية، خيط رفيع ممتد من التفكر في سر الحياة، ينتهي بالخواء في الحالتين، وفي حين أنه ينتهي بالجنون في حالة عمر الحمزاوي، فهو ينتهي بأنيس نصف مجنون ونصف ميت، ولكنه وسط رفقة يدفعهم عدم الإيمان بالمعنى إلى الغرق في ملذات الحياة.

يسيطر التداعي على شكل السرد أيضًا في الروايتين، فلا تستمر الأحداث في خيط زماني متصل، وبدلًا من ذلك تتقل بشكل مضطرب، وتتقاطع الأحداث الواقعية مع الأحلام مع الأوهام والهلاوس دون أن يخبرنا محفوظ بذلك.

يبدو الأمر كما لو أن محفوظ كان يتحدث عن أفكاره الشخصية عن مصر الستينيات على لسان أبطاله، عمر الحمزاوي وأنيس زكي على وجه الخصوص، تحدث الرجل أكثر من مرة أنه لم يكن يفضل الكتابة في الصحافة في وقت ناصر، ولم يكن يفضل الاشتباك مع الواقع ولا التعبير عن رأيه بشكل صريح حرصاً منه على عدم التنكيل به، ولكنه على الرغم من ذلك فقد عبر عن كل ما كان يفكر فيه من خلال رواياته، ليس بشكل اجتماعي وسياسي وفقط، ولكن بشكل فلسفي أيضًا، أفكار يمكننا إعادة تأملها والتفكر فيها حتى اليوم.

كتب الصحفي رجاء النقاش في جريدة الأهرام أن محفوظ قد تعرض لأزمة سياسية بسبب رواية ثرثرة فوق النيل على وجه الخصوص وأنها تسببت في غضب مجموعة من أعضاء مجلس قيادة الثورة وعلى رأسهم صلاح نصر مدير المخابرات وعبد الحكيم عامر وزير الحربية، وأن الرواية كانت على وشك المنع وأن محفوظ كان على وشك التنكيل به، لولا تدخل أحمد مظهر الصديق المقرب لنجيب محفوظ والصديق والزميل القديم لجمال عبد الناصر، ختم النقاش مقاله في الأهرام بأن مكالمات مظهر مع سامي شرف مدير مكتب ناصر، ومع ناصر شخصيًا، هما ما أنقذا محفوظ في النهاية.