نحن الآن في العام 1961، تحديدًا في حفل تنصيب جون إف كيندي في واشنطن. لم يكن هذا هو الحفل الرسمي لتنصيب كيندي لكنه الأشهر. بالطبع فهو بحضور كل داعمي كينيدي الرئيس الشاب في ذلك الوقت والرئيس الكاثوليكي الوحيد للولايات المتحدة.

يغني فرانك سيناترا –منظم هذا الحفل حينها- أغنيته الشهيرة «?What is America to me». يمكننا أن نترجم تلك الجملة الصغيرة إلى «ما تمثله أمريكا بالنسبة لي». حضر الكثيرون هذا الحفل؛ دين مارتن، مارلين مونورو، وكان سيناترا هو من قدم مارلين مونورو أيقونة الجمال في العالم إلى كيندي في ذلك الحفل، وظلت علاقة مارلين بكيندي يحيطها الغموض حتى الآن.

كان انتخاب كينيدي الكاثوليكي والشاب زلزالًا سياسيًا في تلك الفترة. كان الرجل مساندًا لحركة الحقوق المدنية الأمريكية ورئيسًا محبوبًا من الكثيرين في الولايات المتحدة، حتى اغتياله في عام 1963، قبل أن يكمل فترته الرئاسية الأولى. 

في هذا الحفل الشهير كانت ثمة صورة أقل شهرة من صورة سيناترا يغني، أو مارلين مونورو تتبادل الحديث مع كيندي. شابة في العشرين من عمرها تقف بجانب كيندي، تلك الشابه هي نانسي بيلوسي التي ستصبح بعد نصف قرن تقريبًا ملء السمع والبصر حول العالم.

تنظر بيلوسي ابنه عمدة بالتيمور في ذلك الوقت توماس أليساندورا أحد أشهر الساسة الديمقراطيين للكاميرا في تحد واضح بينما ينظر كيندي إليها. ذلك البحث عن الكاميرا سوف يميز سياسة بيلوسي ومنظورها السياسي حين دخلت لعالم السياسة لاحقًا في 1978 كرئيسة للحزب الديمقراطي في كاليفورنيا أو حينما دخلت الكونجرس لأول مرة سنة 1987 لتظل بعدها لمدة 17 دورة متتالية في الكونجرس.

كان دخولها إلى الكونجرس متأخرًا نسبيًا، فالمرأة اختارت أن تربي أطفالها الخمسة في سان فرانسيسكو حتى كبروا وهناك بدأت على حد تعبيرها في البحث «عن حياة أخرى» في السياسة بعيدًا عن الحياة العائلية.

نانسي بيلوسي (20 سنة) رفقة الرئيس الأمريكي جون كيندي

دخلت بيلوسي الكونجرس عن إحدى دوائر سان فرانسيسكو في كاليفورنيا، كانت خبرتها في حشد وجمع المؤيدين في كاليفورنيا أحد أهم معاقل الحزب الديمقراطي التاريخية قد مهدت لها الطريق نحو هذا الارتقاء السريع في الكونجرس وداخل الحزب الديمقراطي.

في أولى حملاتها الانتخابية كانت المرأة على دراية كافية بقواعد اللعبة والمال السياسي في أمريكا، كان أكبر متبرعي حملتها الأولى هي الشركات الزراعية التي تعمل في مجال المزراع الجماعية للعنب في كاليفورنيا. عرفت بيلوسي من أين تؤكل الكتف في السياسة الأمريكية، فدائمًا ما كانت تظهر بمظهر المرأة القوية القادرة على حشد وجمع الخصوم المختلفين تحت راية استمرار الحزب، لاسيما وأنها كانت بارعة في استقطاب رجال الأعمال الكبار من أجل التبرعات في ولاية غنية كولاية كاليفورنيا. 

سمحت لها تلك الخبرة بأن تصبح مع الوقت أحد أكثر الأصوات التقليدية المرموقة داخل الحزب الديمقراطي، كما أن كونها امرأة في سياسة أمريكية تتطلب دائمًا مزيدًا من المشاركة النسائية في دوائر صنع القرار مكنها ذلك من أن تروج لنفسها بصورة المرأة الحديدية، وتروج لفكرة أن تتولى المزيد من النساء المواقع السياسية في الكونجرس وفي حكم الولايات وهو خطاب دفعت به بيلوسي ليكون واجهة الحزب الديمقراطي على مر السنين، آخرها في الانتخابات الأخيرة التي روجت فيها هيلاري كلينتون لخطاب تمكين النساء في مقابل ترامب المتحرش الجنسي.

الحرب ضد طواحين الهواء

كانت نانسي بيلوسي نجمة رئاسة ترامب الأولى بلا منازع، فالمرأة التي مزقت خطاب الاتحاد ردًا على تجاهل ترامب السلام عليها، والتي قادت مع غيرها من النواب الديمقراطيين في الكونجرس إجراءات عزل ترامب كانت بلا منازع الصوت الأقوى في الحزب الديمقراطي بل والسياسة الأمريكية منذ انتخاب ترامب رئيسًا في 2016.

كانت بيلوسي المعروفة بتاريخها السياسي الكبير داخل الحزب الديمقراطي أشد أعداء ترامب لذلك كان من الطبيعي أن تنتقل سهام النقد من هيلاري كلينتون إليها في فترة رئاسة ترامب. ظهرت بيلوسي كعلامة في الثقافة السياسية الحالية في الولايات المتحدة، فعادةً ما تظهر في ثقافة الميمز وغيرها من نقاشات مواقع التواصل الاجتماعي على أنها السيدة القوية والمرأة الحديدية التي تقف أمام ترامب. تلك الصورة التي رسمتها لنفسها عبر الصحافة والإعلام عبر سنوات، من خلال جدالاتها المستمرة مع جورج بوش في 2007 عندما عينت لأول مرة في مجلس النواب، وحتى في سنوات سيطرة الحزب الجمهوري على الكونجرس في نهايات فترة أوباما كانت بيولسي سوطًا قويًا على أعداء الحزب الديمقراطي من الداخل والخارج. 

تضع بيلوسي الكثير من الوزن لشخصيتها في قيادة الحزب الديمقراطي وحتى في معاركها التي خاضتها داخل الكونجرس أو خارجه ضد ترامب والمحافظين، فهي دائمًا ما تقول أنها أقوى مما يمكن أن تبدو عليه. في عام 2018 وفي مقابلة مع المقدم الساخر ستيفن كولبيرت صرحت بيلوسي تصريحًا قد يلخص مسيرتها السياسية، قالت: «إن الرئيس -تقصد ترامب- يمتلك جلدًا رفيعًا، أي يمكن استفزازه بسهولة، بينما أمتلك أنا جلدًا غليظًا».

بالفعل تمتلك بيلوسي هذا الجلد الغليظ وهو سمة ضرورية في أي سياسي ناجح في أمريكا على مر التاريخ، فقدرتك على استفزاز خصومك السياسيين في أمريكا يعتمد عليها الكثيرون. تبدو بيلوسي بموقع السياسة العقلانية في هذا الوقت، حتى أنها شكلت مع آخرين من قيادات الحزب حائط صد كبير أمام محاولة تجذير خطاب الديمقراطيين خاصة في قضايا مثل التغير المناخي واللا مساواة الاجتماعية. 

دعونا لا نحرك المياة الراكدة

يحاول كثيرون داخل الحزب الديمقراطي إصلاح الديمقراطية الأمريكية، على رأس هؤلاء بيرني ساندرز وإليزابيث وارن وغيرهم، لكن بيلوسي وكبار المسئولين الآخرين في الحزب ما زالوا يتمسكون بسياسة الحزب التقليدية، والتي تمثلت في أشياء من قبيل إجراءات عزل ترامب ومحاولات نزع الشرعية عن أفعاله وإجراءاته في الإعلام والكونجرس. يغض هؤلاء الطرف عن المشاكل الحقيقية التي تعاني منها الولايات المتحدة على المستوي السياسي والاقتصادي، ولا يدركون طبيعة التغيرات الجذرية المطلوبة داخل الحزب الديمقراطي والسياسة الأمريكية من أجل مواجهة تغير المجتمع الأمريكي نفسه. 

تدافع بيلوسي عما يمكن أن ندعوه بالمحافظة السياسية داخل الحزب الديمقراطية. تلك المحافظة السياسية أو التقليدية السياسية التي تعتمد على جمع التمويلات والإعلانات وبناء قواعد المتطوعين للبحث عن الفوز بمقاعد الكونجرس بدأت تفقد جدواها الكبرى. فاليوم أصبح ترامب -الرئيس في نظام يعطي وزنًا كبيرًا لهذا المنصب- يهدد بتدمير تلك المؤسسية الأمريكية التقليدية بفرعيها الجمهوري والديمقراطي. أظهر ترامب ما تعانيه الديمقراطية الأمريكية من ضعف هيكلي، فترامب لم يفز بالأصوات الشعبية بل فازت بها هيلاري في الانتخابات الأخيرة لكن النظام الانتخابي الأمريكي الذي يعطي الأولوية للمجمع الانتخابي على الانتخابات الشعبية جعل ترامب في موقع الرئيس.

بيلوسي وبايدن وغيرهما من كبار المسئولين في الحزب الديمقراطي يرفضون هذا التغيير الجذري في خطاب الحزب والذي يعتقدون أنه يساهم في تفتيت الحزب، ومن ثم فالهدف الأساسي هو الحفاظ على داعمي الحزب من المليارديرات الكبار واستمرار سيطرة الحزب على المدن والولايات الغنية مثل كاليفورنيا.

وعلى الرغم من أن خطاب الحزب المتعلق بسياسات الهوية واستقطاب النساء من أجل التصويت لهيلاري كلينتون في الانتخابات جلب الكثير من الأصوات لكن الوضع قد تغير، فأمريكا فقدت حلمها الأمريكي، ولم تعد أمريكا أرض الأحلام كما كانت في فترة الخمسينيات والستينيات بفعل نمو الاقتصاد الأمريكي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

أصبحت الطبقة الوسطى الأمريكية التي كانت في السابق تمثّل الأغلبية من سكان المدن في خطر حقيقي بفعل التغيرات التي لحقت بالاقتصاد الأمريكي منذ الثمانينيات وحتى الآن.

أعطى صناع السياسة الأمريكيون من الثمانينيات دورًا أكبر للبنوك في الاقتصاد عن طريق تقليل القواعد الرقابية، فتوسعت تلك البنوك في مختلف أنواع القروض، حتى أصبحت ديون القطاع العائلي في أمريكا اليوم تقدر بـ 14 تريلون دولار. تلك الديون مولت قدرات الطبقة الوسطى الأمريكية الاستهلاكية في ظل تراجع نمو الأجور، واستطاعت تلك الطبقة الوسطى أن تستمر في تملك المنازل وشراء السيارات كما في الستينيات عبر تلك القروض، بالتالي أصبحت أكثر إدمانًا على الديون.

تلك الديون هي حديث الساعة في الانتخابات الأمريكية اليوم، خاصةً ديون الطلاب التي وصلت لـ 1.4 تريلون دولار. وبجانب أزمة الديون فإن أزمات أخرى تؤرق الجيل الأمريكي الحالي مثل اللا مساواة الاجتماعية. اليوم يحصل أغنى 1% من الأمريكيين على 20% من الدخل القومي في الولايات المتحدة، بعدما كانوا يحصلون على 5% من هذا الدخل في بداية الثمانينيات. كذلك انخفض نصيب الـ 50% الأفقر في الولايات المتحدة إلى 13% من الدخل القومي فقط، بعدما كان أكثر من 20% في بداية الثمانينيات.

تلك التغيرات الاقتصادية الكبيرة بجانب تغيرات السياسة والديموغرافيا في الولايات المتحدة تضع عبء التحول على الحزب الديموقراطي في الوقت الذي تصر فيه نانسي بيلوسي وغيرها من قيادات الحزب على رفض تغيير سياسات الحزب وجعلها أكثر جذرية من خلال دعم الأصوات الجذرية في الداخل مثل ساندرز ووارن.

ذلك الرفض العميق للتغيير يتضح بشكل كبير في تقرير حديث نشرته النيويورك تايمز قالت فيه إن 93% من كبار مسئولي الحزب سيرفضون التصويت لبيرني ساندرز في المؤتمر القادم للحزب إذا لم يحسم الانتخابات التمهيدية، وأنهم سيصوتون لمرشح آخر فيما قد يهدد تماسك الحزب الهش في الوقت الحالي. أيضًا تتعامل وسائل الإعلام الداعمة للحزب الديمقراطي مع ساندرز وتصوره بمظهر الرجل الذي يهدد بانقسام الحزب، بينما بيلوسي ورفاقها من يفعلون ذلك. 

تستمر نانسي بيلوسي في حربها ضد ترامب، وفي رفضها وغيرها التخلي عن السياسة التقليدية للحزب الديمقراطي، بينما يستمر العالم في التغير من حولها.

تبدو المرأة كديناصور يرفض الانقراض، تعتقد أنها ما زالت تعيش حلمها الأمريكي وأن أمريكا ما زالت أرض الفرص والأحلام كما كانت في الخمسينيات وحتى السبعينيات من القرن الماضي. تستمر معها أزمة الحزب الديمقراطي والسياسة الأمريكية ما قد يجعلنا نرجّح أن ترامب سيستمر لفترة رئاسية جديدة، ما سيعمق بدوره أزمة الحزب الديمقراطي الحالية.