«على نار هادئة» لعل هذه العبارة أفضل ما يُمكن أن تُنعت به كتابات عزت القمحاوي خصوصًا في ما يتعلق بكتبه المُجاوِزة لحدود الأنواع المعروفة، التي صدر آخرها مطلع العام الجاري 2023م عن الدار المصرية اللبنانية، وهو كتاب «الطاهي يقتل .. الكاتب ينتحر»، ولعله من سبيل المصادفة أيضًا أن يجمع الكاتبُ المُولَع بالتأني والصبر، ليس في ما يخصُّ إصداره للكتب، فليس لديه شره نشرها إلا بعد طول نظرٍ وتحكيك بتعبير شعراء الحوليات القدامى الذين كانوا يقيمون عامًا بأكمله ينقِّحون القصيدة، حتى تخرج بعد تمامِ نضجها، يُطلق على هؤلاء شعراء الصنعة، في مقابل شعراء الطبع المُلهَمين، تخرج قصائدهم من أفواههم كما يتنفسون تمامًا، دون حاجة إلى إعادة النظر، الكاتب عزت القمحاوي من أولئك وهؤلاء -وكما عبَّر في أحد حواراته- يهوى «البطء» الذي يُنضج ليس العمل فقط، ولكن كل جُملة يكتبها، فتخرج وكأنها وليدة اللحظة والإلهام.

ما بين الطبخ والكتابة

في كتاب «الطاهي يقتل .. الكاتب ينتحر» يجمع القمحاوي بين تيمتين يُظنُّ لأول وهلة بأنهما لا تنتميان إلى حقلٍ دلاليٍ واحد، «الطبخ والكتابة»، لكن مع البدء في الكتاب تبدو المشتركاتُ بينهما جليةً واضحة؛ فالطعامٌ مكوَّن من عناصر عدة، تُجمع بطريقة معينة، وبمقادير محسوبة، مع إضافة التوابل بقدرٍ، مع تضافر المهارة و«النَفَس» كما يقول المصريون، تَخرج «الأكلة» مضبوطة، على الجانب الآخر تتضافر عناصر السرد في الرواية -شخصية وزمان ومكان وحدث ولغة- من تحت يد الكاتب الماهر لتخرج في النهاية شاهدةً على إبداع كاتبها، العناصر موجودة في الطبيعة، وفي الحياة، على الجانبين، الكل يراها ويلمسها، ويتعايش معها، لكن مسُّ سحر الفن هو المزج، كيف تمزج؟ هو سؤال الإبداع دومًا.

الحيلة والذكاء من صفات الفنانين، كل شيء لديهم بقَدَرٍ وحساب معلوم، لدى الطاهي حساسية معرفة لحظات نضج الطعام، وأيضًا الكاتب يعرف متى تنتهي قصته، وكيف يختم روايته بما يناسب، لا تشغله عدد الصفحات ولا عدَّاد الكلمات في صفحات الوورد، قديمًا قبل الورق كان الكُتَّاب ينطلقون في الكتابة، حتى تنتهي الدفقة، في هذه الأيام أصبح شاغلُ بعضهم تضاعف الإنتاج، وحجم العمل، وضخامة الكعب، كلها أمور تسويقية ليس على الكاتب الانشغال بها، يمكن استدعاء الطبَّاخ التركي بوراك الذي بنى كما يقول القمحاوي شهرته على التصعيد الخيالي للدَّسَم في هذه اللحظة لتضع المقارنة كل شيء في مكانه، القيمة أم الكم؟ «محشي ورق العنب في جوف خروف»، يشير القمحاوي إلى فكرة الوفرة، المبالغة في مقادير الطبخة، سواء أكانت طعامًا أم رواية حيث تصير الأخيرة علامة على «الكيتش» الذي يعتمد في رأيه على ثلاث حشوات: الخيال والحركة المفرطة والحياة البرَّاقة ومثالها هاروكي موراكامي، والحشوة الثانية فيض المعلوماتية ومثالها دان براون، ويأتي الزهد والتصوف المُبالغ فيهما في المرتبة الأخيرة التي تُمثلها الكاتبة التركية إليف شافاق.

وسائط مُتخمة بالوفرة

نظرة إلى جدران منصات التواصل الاجتماعي نجد فيضًا من مقولاتٍ لجلال الدين الرومي التي تُشبه حِكم خبراء التنمية البشرية، لا يُزيدها ابتذال التكرار إلا ذبولًا حتى تصير مثارًا للسخرية والتهكم، على نفس تلك المنصات هناك آلاف من القراء المحتشدين لمناصرة كاتب ما، يُكرِّرون مقولات من رواياته، ويحتشدون لأي منتقدٍ أو مبدٍ رأيه في ما يكتبه، هناك أسلحة تُبرز عند صعود صوت المختلف لكتْمه وإغلاق فمه.

يرى القمحاوي أن تلك الوسائط جعلت من صورة طبق الطعام هي الحدث لا طعمه، وأيضًا «صارت صورة كتابٍ بجوار المنشفة على الشزلونج في مصيف هي الحدث لا مضمون الكِتاب»، الرداءة أو الكيتش موجود من قديم الزمان لكن الوسائط الإلكترونية عززتْ نفوذَه وجعلتْ دعاته بالملايين.

للحدْس وظيفة مهمة في إذكاء الحساسية لدى الكاتب والطاهي، وبشيء من التوسع المسموح به يُمكن القول بأنَّ أيَّ عملٍ إبداعي خالٍ من الحدْس هو عمل فقير، ينقصه شيء ما، يقول القمحاوي في هذا الشأن: «المهم هو معرفة لحظة النضج في مطبخ الكاتب والطاهي. هي لحظة رهيفة للغاية، قبلها نجد طعم النيء، وبعدها تبدأ الطبخة في التدهور. وقد يخذلنا الحدْس في تحقيق ما كنا نأمل، ومن هذا الخذلان نفسه تُولد الرغبة بالتعويض والدافع لبدء عمل جديد».

القارئ الحساس

كما أن القراءة ليست حاجة ضرورية لإزجاء وقت الفراغ، وقتل الساعات التي تمرُّ دون جدوى، بعض الكتب تُقرأ في المواصلات، يتركها القارئ عند وصوله إلى محطة الوصول كما تقول الكاتبة البولندية أوليجا توكارتشوك في كتابها «رحالة»، هناك قارئ آخر «حسَّاس»، القراءة لديه تأخذ أبعادًا أكثر عمقًا من كونها نشاطًا وظيفته سَحق الوقت، إن وَجد شيئًا ألطف منه تركه دون عودة إليه، يُشير القمحاوي إلى وظائف أخرى للطعام تُشبه وظيفة الكُتب التي يشتهيها القارئ «الحسَّاس» تلك الوظيفة تتجاوز فكرة «سد الجوع»، وملء المعدة، منها ما هو اجتماعي يُرجعها القمحاوي إلى قيم أنثروبولجية خصوصًا ببدء تعرفه على الطهي عندما اكتشف أن النار تُخيف الحيوانات فهبط من أعلى الأشجار إلى الأرض، من هنا جاءت اللحظة التي أضحتْ فيها النار أعظم اكتشاف بعد اللغة، مكَّنت البشر من العيش في مجتمعات، تستأنس بالحكي، كما تجد اللذة في الطعام، ومن هنا بزغت منذ فجر التاريخ فكرة «الاجتماع»، التي ولَّدت «الأُنس» فعاد الإنسان إلى طبيعته، مؤكَّد أن ذلك استغرق آلاف الأعوام كي تنتصب قامة البشر مع صغر المِعدة التي اكتفت بطبق صغير مطهو بدلًا من قضاء نهار بأكمله في اجترار الأعشاب، ودورانها أسفل الضروس، أو قطعة لحم نيء يشحذ الأنياب لتقوم بعملها في وقت أطول، حينها عرف الإنسان معنى فراغ الوقت من العمل صيدًا كان أم أكلًا لذاك الصيد، مهَّد طهو الطعام الفم أيضًا ليأخذ شكله المعروف الآن في حين ظلَّت الحيوانات على حالها، لم يصبها التطور الذي لحق الإنسان فجعله في أحسن صورة.

ألفُ ليلة وليلة وسرٌّ الخَلطة

على عادة القمحاوي في كتبه المُمزِّقة لإهاب النوع، الهاربة من أُطره المكرَّسة يعود لزيارات غير مُنقطعة لسفر ألف ليلة وليلة؛ الكتَّاب الأم الذي تولدت منه آلاف الروايات، والقصص، وملايين الحكايات على مرِّ الأزمان، الكاتب المفتون بألف ليلة بدءًا من القصة الإطار ثم التوالد الثري للحكايات حتى الوصول إلى الليلة الحادية بعد الألف، يقف عند المَخفي في سرد الليالي، في إشارة بديعة منه إلى أشياء ربما تُغيبُها القراءة الأولى للنص، منها كون دُنيا زاد أخت شهرزاد مقيمة معهما في الغرفة نفسها، كيف سيكون لقاء الجسد بين الملك وشهرزاد، أين ذهب والدها بعد تقديم ابنته قربانًا للملك الجائع لسفك دماء العذراوات، هناك ثغرات على القارئ أن يملأها، يقول القمحاوي: «النص المكتمل نص ضعيف»، لا بُد للكاتب أن يغلق شيئًا، بتعبير القصاصين القدامى، هناك سر وراء غرفة مغلقة، أو خلف باب مُوصَد، هناك أسرار تركها الروائيون ولم يُفصحوا عنها، خيال القارئ/الشريك يجب أن يعمل، الخيال الفقير يصلح للقصص التي تُترك في نهاية الرحلة، لا يعود الكِتاب إلى الحقيبة، في الطبخ هناك أيضًا أسرارٌ نُسميها «سر الخلطة»، يشير القمحاوي إلى سرِّ خلطة كنتاكي التي حيَّرت عشرات الطهاة، حاول بعضهم الوصول إليه، اقتربوا لكن لم تتطابق الخطى قط، بعض محلات الكشري في مصر لا تجتهد في إخفاء السرِّ في جودة الطبق، لكن طهاة المنزل يقفون حائرين أمام المنتج النهائي.

روايات مُتخمة

يميل القمحاوي إلى التقليد الغربي في تقديم الطعام، «البدء بالمُقبلِّات، وفواتح الشهية إلى الأطباق الرئيسية والمشروبات الأساسية، ثم الختام بطبق ثم القهوة..»، تكدس المائدة بكل أنواع الطعام دفعة واحدة لا يَعِد بشيء، يجعل الزهد أقرب من التوقع والانتظار، ومثلما تكون المائدة العامرة بأطايب الطعام، لا تخفي شيئًا، مستفزة حواس الطاعم كذلك الروايات المتخمة في مطلعها بالشخصيات الكثيرة، والأحداث التي تثبط همَّة القارئ، وتكدُّ من عزمه لإتمام العمل، يُذكرنا ذلك بحسن مطالع القصائد، واجتهاد الشعراء ليجعلوا من واجهة قصائدهم حافزًا للمتلقي للدخول إلى عالم القصيدة؛ ولذلك جعلوا التصريع -وهو اتفاق قافتي شطري البيت الأول- في بدء القصيدة عاملًا للجذب، نوعًا من المقبِّلات، تُثير شهية القارئ.

في الروايات يقوم حُسن المطلع أو الاستهلال بدوره في الوعد للقارئ بوجبة شهية، وقد يقوم بدور معاكس إما يُنفِّر القارئ أو يغرس مشاعر الفتور، من المطالع التي أميل إليها، ولم تُذكر في الكتاب، مطلع رواية الغريب لألبير كامي: «اليوم ماتت أمي. أو لعلها ماتت أمس. لست أدري. وصلتني برقية من المأوى: الأم توفيت. الدفن غدا. احتراماتنا»، أيضًا مطلع رواية ميرامار لنجيب محفوظ : «الإسكندرية أخيرًا ..الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع»، وهناك كثير من المطالع التي ذكرها القمحاوي، الدالة على العين الثاقبة، والذائقة المُدرَّبة، مع التحليل لتلك المقاطع المبثوثة في استهلال الروايات، وربطها بالمتن.

مزيج من الواقعي والفانتازي

يخلص القمحاوي من العجائبي في الليالي إلى العجائبي في الموصوف من الطعام في الكتب الخاصة «بشحذ آلة الذكورة» كما يُسميها، فيرى أن تلك الوصفات الغريبة المُعِينة على البَاه «مثل ملعقة من حليب لبؤة وشعرة من ذيل سبع» فيها من الطرافة والعجائبي ما يُثير الخيال مثلما تُثير الحكايات العجيبة في ألف ليلة، ويرى أن مع تقادم اللغة وبعدها عنَّا مئات القرون أغرقت أسماء الأكلات في الغرابة، أو كانت مألوفة في زمنها، ثم انمحت مع تباعد الزمان، أو اندثرت وأصبحت بلا أثرٍ، بعض تلك الأسماء لا يُوجد في المعاجم من الأساس؛ كل ذلك يؤكد استحالة توفرها، وبهذا تكون تلك الوصفات والحكايات من الأشياء التي تدخل في باب العجائبي الذي يعزُّ وجوده في العالم الواقعي الذي يُبنى على أرضه العالم الروائي المحتاج إلى التعجيب أيضًا، قفزة إلى أعلى تتجاوز الواقعي، يضرب الكاتب أمثلة لروايات مثل «مئة عام من العزلة» لماركيز، و«المسخ» لكافكا، و«الشيطان يزور موسكو» لميخائيل بولجاكوف، أيضًا في «حرافيش» نجيب محفوظ مزيج من عجينة الفانتازي مدسوسًا في واقعية الحارة «الأمثولة».

في تصور القمحاوي يتطابق الفانتازي مع السخرية؛ يضرب مثالًا لذلك التشابه بفن الكاريكاتير القائم على السخرية «عبر الإخلال بالنسب الطبيعية المتعارف عليها لأجسام البشر»، في ألف ليلة يبدو ذلك العالم الفانتازي ثريًا بما تتيحه اللغة من فتح طاقة الخيال أمام القارئ، المزاح القرين بالعجيب موجود في عالم الطهاة مثل «إميريل لاجاسي» و«هيستن بلومنثال» وغيرهما.

عالم بروست المفقود

لا تُغلق الدائرة إلا بالمرور بالليالي العربية وشبيهها الغربي «البحث عن الزمن المفقود» لمارسيل بروست حيث يطوف القمحاوي عبر مجلداته السبعة ليُعْلِي من شأن الحواس القادرة على إثارة الماضي، والإتيان به من خلال خلايا الدم التي تلتقط الروائح وتحفظها في خزائن الذاكرة، وحاستي اللمس والذوق أيضًا، كما للبصر قدرة كبيرة على حفظ الصور والذكريات، واستدعائها، «الحياة الأستقراطية» في عالم بروست مشغولة بالطعام، والتفنن في تنويعه، لكن قطعة بسكويت تسربت من بين تلك الولائم لتصير بذرة نمو هذا السفر الضخم.

كرنفالية عوالم ألف ليلة وليلة حيث الطعام بصنوفه حاضر لإسكات معدة شهريار، مثلما قامت الحكايات بنفس القدر في إسكات شهوة الدم لديه، من تلك الكرنفالية ينتقل القمحاوي من ذكر لعالم البشر من ملوك وأمراء إلى خدم وجوارٍ وعبيد وصيادين إلى عالم الجن والعفاريت إلى الكائنات الأخرى والحيوانات الحقيقية منها والخرافية، في الأرض والبحار والسماء، سياحة فكرية ومتعة يقف القارئ في نهايتها متأملًا كل ما قرأ آملًا في رحلة أخرى محفوفة بالجمال عبر قراءة الكتب التي أشار إليها والأفلام التي مرَّ عليها ليتجدد الوعدُ المُتكفِّلة بتحققه كتابات عزت القمحاوي؛ متعة الفن وحلاوة تذوقه على نار هادئة، وببطء المتأمل، وإشعال خيالٍ طموحٍ.