قد آن يا كيخوت للقلب الجريح، أن يستريح

أقف في المكان الذي اتفقنا على اللقاء عنده، أمام أحد بوابات مطار القاهرة. لا أجده. لا يتأخر في مواعيده أبدًا؛ فأتأكد أن الخطأ خطأي. أتصل به ليخبرني أن أظل في مكاني ليأتي ويلتقطني. يبدو عليه التحفز. يخبرني أن أظل بالقرب منه دائمًا.

نركب الطائرة سويًّا. يطمئنني مازحًا أننا لن نستغرق سوى 25 ساعة – فقط – ما بين السفر الفعلي والترانزيت.

تأتي المضيفات، بعد الإقلاع بقليل، لإخبارنا بما نفعله في حالة تعطلت الطائرة أو اضطررنا لأي هبوطٍ اضطراري بأي درجة من الدرجات.

دون أن ينظر لي يقول: «أنا مش فاهم إزاي بيبتسموا وهمَّ بيقولوا لنا نتصرف إزاي لو غرقنا؟!»

صدَّقته. يبدو الأمر متناقضًا بالفعل. إنهن يدعوننا لأن نطمئن، من خلال ابتسامتهن، وأن نستقبل موتنا غرقًا بصدرٍ رحب. وكأن الأمر لن يكون مؤلمًا بالقدر الذي نتصوره!

الترانزيت الأول كان في دبي. لم نخرج من الطائرة لمدة ساعة. ظللنا بالداخل بينما أتى منظفو الطائرة ليقوموا بعملهم. من دبي ذهبنا لسنغافورة. كانت الرحلة الأطول في المسار. لا أتذكر كم مرة نمنا واستيقظنا.

ما بين كل صحوٍ واستيقاظ كنا نتجاذب أطراف الحديث. كان ينظر لي على أنني ابنه الصغير. عمري بالفعل أقل من نصف عمره، لكنني ضعف حجمه طولًا وعرضًا.

في سنغافورة نزلنا بالمطار ولم نخرج منه كذلك. الخروج ممنوع من المطار.

انتظرنا لمدة 3 ساعات أذكر منهم لقطتين:

الأولى: يمر أمامنا الرجل المسؤول عن تجميع السِلال – سلال التسوق الكبيرة – وهو يقوم بسحبهن خلفه. تتصل السلال بعضها البعض بما يشبه قطع المغناطيس الصغير، دون أدنى احتمال للانفصال أو حدوث ما قد يعطل مسيرة القائد. يتولى ذلك الرجل قيادة الطابور بينما يقف على آلة متحركة بعجلتين فقط.

كان في ستينيات العمر. مرَّ أمامي فاندهشت من طول القافلة. بينما نظر له علي مبروك قليلًا. وبعد دقائق قال لي:

«يمكنك أن تتأمل في الكيفية التي يقف بها الرجل. كان فاردًا ظهره. ناظرًا أمامه. يشعر بالفخر كجندي في حرب. إنه يثق أن ما يفعله يُحدِث الفارق هنا، والآن … يثق بأنه – كفرد أو كذات – يتمتع بقيمة أمام نفسه وأمام بلاده». يتحدث علي مبروك هنا عن أن يشعر الإنسان، بحق، أنه فاعل إيجابي في اجتماعه.

يكمل: «نهضت سنغافورة في أقل من عشرين سنة. المعادلة – معادلة الحداثة أو النهضة – ليست مستحيلة. لا يُشترط أن تكون طويلة الأمد. يمكننا أن نحققها. لكن يلزمنا إدراك الشروط الأوَّلية للوصول لها. كفانا استباقًا لنضج الأشياء قبل أن تأخذ وقتها أو أن نفهم وصفتها وتكوينها وكيفية تركيبها … لقد عبرت سنغافورة من خلال «الشرط الاقتصادي». كان الاقتصاد هو قوتها وبدايتها ووسيلتها. هل نحن أيضًا نحتاج للاقتصاد بشكل أساسي باعتباره صاحب الدور الفاعل والأبرز؟ ربما! الأمور معقدة بحق وتحتاج لهدوء في التناول والتحليل والتفكيك».

المشهد الثاني: تمر سيدة لجمع القمامة في مساحة محددة من المطار. تسير وهي تحمل كيسًا بلاستيكيًا أسود اللون. تقف، تنحني، تلتقط ورقة أو ما شابه ثم تقف لتكمل مسيرتها.

بينما تقف، يقترب منها فتى. في يده ورقة يريد التخلص منها. عادت السيدة للانحناء مرة أخرى. انتظرها الفتى، ممسكًا بالورقة في يده. حينما اعتدلت، نظر لها، وألقى بالورقة في الكيس.

لم يكن أسيويًا من الأساس، ناهيك عن أن يكون من سنغافورة بالتحديد. كان يُمارس بدرجة من درجات الثقافة – أو «المعيشي/ اليومي» – تتناسب مع وعيهم بالسياق الذي يحيون فيه. لاحت لي مصطلحات كالحرية الفردية، واحترام الآخر، وتساوي الجميع أمام كود أخلاقي حداثي.

أدركت بداخلي أن المعادلة مُركَّبة. يلزمها امتلاك وعي على مستوى الفرد – بما هو محض فرد – وعلى المستوى الاجتماعي كذلك.

قبل أن نصل لجوجاكارتا، هبطنا بمطار وسيط بين سنغافورة وهناك. أوقفونا للتفتيش بحزم. مررت قبل علي مبروك. أخذوا اللاب توب ووضعوه في ماكينة التفتيش. عبرت أول مرة بدون أي معادن على جسدي أو في جيوبي. أطلق الجهاز صافرة. كان من يفتشوننا من آسيا بشكل عام. كانت ملامح الوجوه جادة ولا توحي بأي مهادنة من أي درجة. عدت مرة أخرى لا أعرف أي الأشياء أتنازل عنها لأمر. أشار إلى منطقة الخصر وقال: «Lose your belt» خلعت الحزام ومررت. انطلقت الصافرة مرة أخرى. حاولت أن أعود لأجد دكتور علي ينظر لي ويضحك. هتف من بين ضحكاته: «شِد حيلك يا إسلام … هانت».

أضع يدي في أحد جيوب البنطال الخلفية لأفاجًا بعملة معدنية بقيمة خمسة وعشرين قرشًا. أضعها على الطاولة. أمرُّ. أنجح في العبور هذه المرة.

بالطبع لم تكن هناك أية شكاوى أو إعلانات بالتذمر من قِبَلِ الواقفين والواقفات خلفي.

بينما أرتدي حذائي قبل المغادرة. ينظر لي الرجل بشبه جدّيَّة. أشير لأحد جواربي بإشارة تفيد أنني قد أخلعه هو أيضًا لو تطلَّب الأمر ذلك. تعلو وجهه ابتسامة ترحيب ومودة حقيقية.

في طريق عودتنا، مررنا بنفس المطار. انتظرنا قليلًا. كان الجميع ملتزمون باصطحاب حمولة أقل من الحد الأقصى، والتي يمكن أخذها على الطائرة. كان الاستنثاء الوحيد رجل وزوجته معهما طفل صغير. وقفت معهما سيدة من العاملات بالمطار. حاولت جاهدة أن تثنيهما عن اصطحاب حمولة أكبر من القصوى. رفضا بشدة.

بينما تبتعد عنهما هتفت الزوجة لزوجها بصوتٍ لم نستغرق الكثير لنفهم كلماته: «متقلقش … حنِطْلَع بالحاجة غصب عنهم».

وأنا – فقط – أطرقت بوجهي للأرض.


وصلنا لجوجاكارتا. الجو خانق في المطار، والحرارة مرتفعة. الهواء لا يتحرك حتى تكاد تشعر بأنه يتكثَّف في مساحت شبه كروية متباعدة. أجاهد كي أصل لمنطقة الظل.

نلتقي رفيق سفرنا، أستاذ في الفقه الإسلامي. يصطحبنا من المطار. يظل معنا في جميع انتقالاتنا من جامعة لأخرى لزيارة أماكن سياحية … إلخ. لم يتركنا أبدًا. كانت روحه المرحة تنسينا عناء الحرارة المرتفعة. كان خفيف الدم ويجيد الغناء كذلك. كنا نتحدث بالإنجليزية حصريًا.

تحدثت معه كثيرًا عن اشتغال نصر أبو زيد على الإمام الشافعي. كان يستمع لي باهتمام. كان يخالف نصر في الكثير من استنتاجاته، لكنه، لم يقم ولو لمرة بالتهجم على نصر أو فكره. وأكَّدَ أنه يحترم الأطروحة برغم اختلافه معها.

من جوجاكارتا انتقلنا جميعًا لريمبانج. التقينا بالعديد من أبناء المنطقة يتراوح إيمانهم من التعصب الإسلاموي الشديد لمسحاتٍ من الليبرالية. أقول الليبرالية ولا أقول العلمانية. العلمانية تكاد تتحول إلى شبه اتهام في هذا الجغرافية.

في بداية جلوسنا مع أهل ريمبانج. التقينا برجلِ ظريف هناك. أخبرنا، بلغة مصرية عامّيَّة لا تصدر إلا من خبير: «اسمي … للأسف … أحمد نظيف … مش بس أحمد … لأ … ونظيف كمان». ينفجر ضاحكًا. «كل ما أجي مصر بعد 2011، الناس يقولولي: أحمد نظيف أهه». ثم يعود للغة العربية الفصحى: «لقد جعلتموني – أيها المصريون – ألوم أبي على اسمه والاسم الذي اختاره لي».


في منتصف ذلك اليوم، أجلسني الدكتور علي بجانبه، مع رجل يدعى الشيخ حسين.

كان نحيفًا للغاية. يرتدي قبعة ذات ثقوب منتظمة على رأسه. كانت أسنانه أبعد ما تكون عن البياض. يدخن كثيرًا ويشرب الشاي والقهوة أكثر.

كنا نجلس على الأرض وحدَّثني عن نفسه بالعربية الفصحى: «أحب جمال البنا كثيرًا … ليتك تبعث لي شيئًا من كتبه حين تعود لمصر، خصوصًا ما يتعلق منها بقضايا المرأة في الإسلام». أعده بأن أفعل ذلك، فيكمل: «أسَّست مؤسسة لحقوق المرأة بريمبانج. أنا أرفض تمامًا أن تُضرب الزوجة. لا تقل لي ضربًا خفيفًا أو غير مؤلم. الضرب ضرب وهو يحقق الإهانة للمرأة بصرف النظر عن مدى قوته أو ضعفه».

كان ينتقل بين موضوع وآخر من خلال إطلاق زفرة رضا من صدره. ثم بانحناءة خفيفة يلتقط الكوب ويرشف رشفة ثم يعود للخلف ويقول: «نعم … نعم» وكأنه شيخ يتهيأ لترتيل شيء من القرآن الكريم.

بعد أن حدثته قليلًا عن محمد عبده وفكره الاجتماعي. وافقني في بعض ما قلت ورفض بعضًا آخر. ثم قال قبل أن نوَدِّع بعضنا: «يا صديقي … هذه الأمور اجتهادات. ويجب على تأويلنا للنص أن يوافق واقعنا واحتياجاتنا، لا العكس. النص يعمل لنا لكننا لا نعمل من أجله».

أخبره بأننا نعاني ممن يفرضون حقيقتهم على الآخرين، فيقول لي: «يا إسلام … (كل من حار وصل .. والذي اهتدى انفصل). كلنا – فقط – نحاول … ليس إلا»[1].


التقينا في سورابايا باثنين من الباحثين العرب. أحدهما كان جزائريًا. يقومان بتحضير أطروحات الدكتوراه. جلسنا معًا بصحبة أساتذة من إندونيسيا مثل الدكتور/ الإمام الغزالي (هكذا اسمه … بالظبط) وغيره من الأساتذة.

كان علي مبروك يدير نقاشًا فلسفيًا حول الكيفية التي يمكن من خلالها لقراءاتنا أن تكون منتجة. بدأ الباحث الجزائري يقاطعه: «نعم … أتفق معك. ولكننا لا بد بأن نضع حدودًا لما نقوم به … لا يصح أن نقرأ كل شيء أو نقبل كل شيء … هناك حدود … وتراثٌ عربي/ إسلامي كبير قد يغنينا عن دراسة الفلسفة الغربية من الأساس، ناهيك عن أن نتبنى أي شيء منها».

دُهشت في الحقيقة عندما سمعت تلك الكلمات من فم باحثٍ أكاديمي. تساءلت – في قلق – عن مصير طلابه في المستقبل.

تيقنت أنني قد اندهشت قبل الأوان حينما أكمل: «لا بد أن تكون هناك كتابات عربية فلسفية تجعلنا نُقيِّم إنجاز الآخر الفلسفي … كتابات الدكتور يوسف القرضاوي يمكن لنا أن نتخذها مرجعًا لنا في قراءة الفلسفة الغربية». يبدو أنها كانت محاولة يائسة منه ليوضح لنا أن بداخله القليل من الباحث الأكاديمي!

حافظ علي مبروك على هدوئه المعتاد. لا يبدو على وجهه أي ردٍ من ردود الأفعال، لا بالموافقة ولا بالتأييد.

كان الباحث يتحدث بخوف حقيقي. الأمر يتجاوز الأبعاد البحثية الأكاديمية ليصل إلى الحالة النفسية، ويخترقها للا-وعي كذلك [2].

حاول علي جاهدًا أن يشرح له التباينات بين المنظور الفلسفي والمنظور الذي يمارس من خلاله القرضاوي خطابه. بدا عدم الاقتناع على وجه الباحث، كأن حائطًا يقف بين كلمات علي وعقله. في نهاية حديثه أخبره علي: «اقرأ كما تشاء ولا تخف. القراءة تُصحح مسارها ذاتيًا».


جلسنا سويًا في مطعم الفندق بجوجاكارتا. إندونيسيا، على الأقل في الأماكن التي ذهبنا إليها، لا تعترف بأي نوع من أنواع الجبنة كطعام مُحبَّب، ولا بالخبز كذلك! المعادل الموضوعي للخبر هنا هو الأرز الأبيض الذي لا تسأم من تناوله ولا تشعر بأي امتلاء حقيقي مهما أكلت منه!

أخبرني علي في المرة القادمة أن نأخذ معنا القليل من الجبنة البيضاء لأننا – حقًا – نفتقدها.

أخبرني بينما نجلس بفندق المطعم: «اعترض أحد أساتذتنا الكبار على بحثٍ قمت بتقديمه لمجلة ألف بالجامعة الأمريكية. كانت الدراسة تتعرض للإمام الشافعي. نُشرت هذه الدراسة – على ما أذكر – في كتاب «تأسيس التقديس» الذي صار اسمه في الطبعات الجديدة «ما وراء تأسيس الأصول». كان اعتراض ذلك الأستاذ مبنيًّا على أنني قد أخذت أعمال نصر أبو زيد وقمت بنقل الكثير منها».

يكمل: «وقد أرسل لي رده هذا على الإيميل. وللأمانة، فأنا لم أرد. .. وعلى أي حال هناك لجنة تقرأ البحث وتقوم بتقييمه لترى هل هو صالح للنشر بالمجلة أم لا … التقيت نصر بعد أن تم نشر الدراسة بالفعل. وأخبرته بكل ما جرى …

نظر لي، وأطلق ضحكته المميزة. وقال لي: «يا علي … أنا كنت من أفراد اللجنة الذين وافقوا على نشر الأطروحة … ولقد استمتعت بها … وبيني وبينك يعني أنا كنت عارف إنه أنت من أسلوب الكتابة … وبجد والله … الدراسة طيبة جدًا وتعرضت للشافعي من زوايا جديدة».

توقف عن الحديث قليلًا ثم أكمل: «حين كنت أتى لإندونيسيا مع نصر وابتهال، كنا نجلس سويًا لأوقات طويلة. قد تتركنا ابتهال لترتاح قليلًا وأجلس مع نصر نتسامر، نتناقش. كان نصر حكاءًا حقيقيًا وأحب أن أستمع له.

كنا في إحدى جلساتنا حين قال لي في شبه ارتياب: «هو أنت يا علي لو قلت لك تعمل نقد لشغلي، حتعمل نقد جذري برضه؟».

قلت له: «آه طبعًا … سأنقدك وبشدة».

يكمل: «نظر لي نصر بوجهه الطفولي وارتسم على وجهه شيءٌ من القلق … شعر بأنني أتحدث بكامل الجدية … لكنني كنت أحب رؤية ردود أفعاله».

يشيح بوجهه بعيدًا عني، ومن أعمق مكان بداخله يقول لي: «نصر مشي يا إسلام … وأنا مفتقده».


فاحفر هنا قبرًا ونم

وانقش على الصخر الأصم:

«يا نابشا قبري، حنانك، ها هنا قلبٌ ينام،

لا فرق من عامٍ ينامُ وألف عام،

هذي العظام حصاد أيامي فرفقًا بالعظام.

أنا لست أُحسَب بين فرسان الزمان

إن عد فرسان الزمان

لكن قلبي كان دومًا قلب فارس

كره المنافق والجبان

مقدار ما عشق الحقيقة».

من ديوان: لزوم ما يلزم، نجيب سرور


[1] النص من الفتوحات المكية لابن عربي.[2] ربما يمكننا هنا عرض رأي كارل جوستاف يونج C. G Jung حين كان يحاجج بأنه يجب على إنسان العصر الحديث اكتساب الوعي الحقيقي بذاته من خلال الاشتباك مع «اللا-وعي» بالإضافة للاشتباك مع ما أسماه بالنفس غير المُكتَشَفَة The undiscovered self أو الطبيعة الجوّانية الحقيقية للفرد. وحينذ فإنه يمكننا كأفراد أن نكتسب «معرفة بالذات – أو النَّفْس – تقف في المقابل تمامًا من التعصب الإيديولوجي». ويبدو لي أننا نحتاج، وبشدة، لمعرفة ذواتنا ومخاوفها. وما صديقنا الباحث إلا أحد تجليات هذه الأزمة؛ أزمة الإنسان العربي على الصعيدين العقلي والنفسي. وهي عقلية الانهزام في تجليها الأبرز، والانهزام يستتبع معه الخوف من الآخر دون أي محاولة لفهمه بحق.