هناك في عالم صناعة السينما الاحترافية، تحديدًا في علم الإخراج، ما يسمى بـ«التتابع»، وهو تفاصيل استمرارية المشاهد، على سبيل المثال يمكن أن تكون تصفيفة شعر بطلة المشهد على جانب رأسها من اليمين في أحد المشاهد، فلا يمكن أن تنتقل لليسار في المشهد التالي طالما الراكور لم يتغير بعد، ولذلك فيجب أن يكون هناك «ذاكرة» للمخرج تحافظ على تلك التفاصيل الصغيرة الكثيرة من حركة الممثلين والإضاءة وتفاصيل الديكور والملابس وغيرها.

هذا العمل تقوم به – في الغالب – فتاة، وظيفتها أن تكون بشكل أو بآخر «ذاكرة المخرج»، ولذلك تسمى وظيفتها بـ«فتاة التتابع» أو «فتاة السيناريو»، هذا لما تتمتع به الفتيات من عين تعرف كيف تلتقط التفاصيل وكيف تهتم بها، وحتى في الحياة العادية بعيدًا عن صناعة الفن فإن النساء يشقين بحبهن للتفاصيل، وغالبًا ما كانت التفاصيل هي السبب الرئيسي في الصراع الأبدي بين النساء والرجال، بل بين النساء والحياة.


بدءًا من التتر

https://www.youtube.com/watch?v=z_hwYBrFMso

يقتنصك مسلسل «سابع جار» ليس منذ حلقته الأولى، بل منذ التتر، مشاهد صامتة مفرغة من الأشخاص لشقق البناية التي تدور فيها الأحداث مع خلفية موسيقية لأغنية «من حبي فيك يا جاري» بتوزيع جديد، الإضاءة وأماكن قطع الأثاث والبراويز وتمايل الستائر مع الهواء، سفرة عليها إفطار وقطعة قطن بها بقايا ماكياج وقلم أحمر شفاه، مطبخ تتصاعد الأبخرة من أوانيه وراديو، تفاصيل تفاصيل تفاصيل، ثم مع آخر لقطة في التتر تعرف أن المسلسل إخراج ثلاث نساء، فتفهم كل شيء، وتعرف لماذا سرقك التتر هكذا وكيف سيطرت عليك تفاصيله.

نعم، القصص التي تدور داخل شقق البناية في الحدوتة التي يرويها المسلسل ليست جديدة على الإطلاق، الأسرة المودرن التي فقدت الدفء بسبب الزوجة المهووسة بتفانيها، والأرملة التي تتمنى لبناتها الزواج، والفتاة التي تخطت الثلاثين دون زواج، والأخرى المتخبطة التي لا تعرف من أين تبدأ، الأم التي تحمل مسئولية البيت كون الزوج ليس أهلًا لذلك، والأرمل الذي يجحده ابنه، الفتاة ذات الماضي المشين والأخرى التي لا يمكنها الفكاك من علاقة مسيئة، كلها قصص نعرفها جميعًا وربما رأينا طرفًا منها في الشارع أو على الشاشة من قبل، ولكن في سابع جار أنت تراها بعين ثلاث نساء لم يخرجن المسلسل فقط، بل تشاركن في الرؤية الدرامية للحلقات أيضًا.

«أيتن أمين» و«نادين خان» و«هبة يسري»، ثلاث نساء استطعن أن يستخدمن شيطان التفاصيل الذي يسيطر على جنس النساء لمصلحتهن، فجاء المسلسل مغرق في الحميمية والذكاء، كل التفاصيل منتقاة بعناية، وكمًا كبيرًا من التركيز أنفقوه كي تخرج تفاصيل المسلسل بهذا النجاح، حتى المفارش المربعة البيضاء التي توضع بشكل مثلث على ظهر الكنب لم يغفلوه في شقة سيادة اللوا.


المجد للنساء

النساء جريئات، تلك حقيقة لا يمكن أن ينكرها سوى جاحد، ولذلك يمكنك أن ترى ذلك في اللغط الدائر حاليًا على السوشيال ميديا عن المسلسل متسائلًا عن ماهية الطبقة الوسطى التي يدور حولها المسلسل، والتي فيها فتاة تقيم علاقة مع شاب متزوج دون خوف أو مداراة، والفتاة الأخرى التي تريد أن تنجب دون زواج وتتفاوض مع الرجل المعجب بها على أن تتزوجه صوريًا لغرض الإنجاب بالتلقيح الصناعي، ينددون بأخلاق المصريين التي يريد المسلسل أن يشهر بها غير عالمين أن هذا يحدث بالفعل، بل يحدث كثيرًا جدًّا، وكانت الثلاث النساء اللاتي أخذن على عاتقهن إنتاج المسلسل أجرأ من هذا المجتمع الذي يمارس الإنكار على نحو شاسع في أن يقلن بوضوح: نعم هذا يحدث وفي دوائركم القريبة جدًّا.

المسلسل جاء واقعيًا جدًّا وينقل ما يحدث حرفيًّا حتى فروق الأجيال بين الأمهات وبناتهن في المسلسل نقله بأمانة، ويمكنك أن تعرف هذا عندما تستمع لنقاشات جمهور المسلسل الحقيقي داخل البيوت، كل الأمهات تقريبًا يستنكرن رغبة إحدى الفتيات في المسلسل في أن تقوم بالتلقيح الصناعي أو أن تتزوج بغرض الإنجاب فقط، بالضبط كما لا تتفهم أمها في المسلسل ذلك، وترى كل الشابات الصغيرات يدافعن عن اختيار الشخصية في المسلسل ويسقن الدلائل لأمهاتهن في المنازل على أحقيتها في أن تفعل هذا، تستنكر الأمهات متابعات المسلسل تدخين إحدى الشخصيات للسجائر والحشيش، بينما تجد بناتهن يبتسمن «من تحت لتحت» ويعرفن تمامًا أن هذا يحدث، بل ربما يحدث في بلكونة منزلهن بالذات.

تلك الفروقات بين جيل الأمهات وجيل الشابات، والذي كان ربما مقصودًا جدًّا تعريته في المسلسل لا يخرج بهذه النعومة إلا من النساء، النساء اللاتي يعرفن كيف يزرعن الفكرة في رأسك ويجعلنك تراها وكأنها فكرتك الخاصة، ثم يثنين على ألمعيتك في الإتيان بها، لذلك وللمرة الألف نكرر أن هذا المسلسل لم يكن ليأتي بكل ذلك الصدق لو لم تكن صانعاته نساء.


ثم التمثيل بالطبع

رغم تمكن فريق الإخراج من الإلمام بكل تفاصيل العمل تقريبًا، إلا أن نجاح العمل التليفزيوني يلزمه فريق تمثيل محترف وصادق كي ينقل هذا للعمل للمشاهد، ولذلك فقد كانت كل الأدوار في «سابع جار» تستحق الإشادة، كل الممثلين قاموا بأدوارهم بذكاء وتمكن، بل رأينا مساحات لم نكن نعرف أنها موجودة عند بعضهم مثل «شيرين» مثلًا، والوجوه الجديدة التي تمكنت من الأداء في المسلسل مما يحقق لهم نجاحًا سوف يسهل لهم خطواتهم المقبلة.

ترى جودة أداء الممثلين لأدوارهم عندما يقفز في ذهنك موقف عايشته في منزلك مع أفراد عائلتك عندما ترى «دلال عبد العزيز» تسب ابنتها الوسطى أو تدعو للكبرى، أو عندما تشاهد «صفاء جلال» تشاهد الشيف الشربيني، أو تستفزك نبرة صوت «هيدي كرم»، وهي تؤنب زوجها أو يستفزك «هاني عادل» بمجرد ظهوره على الشاشة دون أسباب واضحة.

وحتى في التمثيل يجب ألا نغفل أن المسلسل معظم شخصياته الأساسية من النساء، لذلك فأنت محاصر بكم هائل منهن، يجعلك توقن أن نجاح هذا المسلسل يرجع لهن بالتحديد، فقد استطاعت النساء في «سابع جار» أن يثبتن بالدليل القاطع أن «الستات بطلات بتعمل معجزات» كما يقول الإعلان الدعائي الشهير.