عالم من الخراب؛ اقتصاديات مهدمة، بلاد على حافة الفقر وأخرى على شفير الهاوية، آلاف اللاجئين والمشردين يشكلون أزمةً للعالم أجمع، ثمة معسكرين متعاظمين متناطحين في الشرق والغرب، إعلان لعهد جديد من العالم ثنائي القطب، الاتحاد السوفييتي بقيادة المعسكر الشرقي، والولايات المتحدة في صدارة المعسكر المقابل.سنوات من التصدع الدولي، تلك التي أعقبت الحرب العالمية الثانية (1939-1945م)، فالعالم لم يعتد قبلها أن يكون بين خيارين لا ثالث لهما. ومع اختلاف التوجهات والمصالح بين كلا المعسكرين توسعت رقعة الشجارات حتى غطت خريطة العالم جميعها عدا طرفي الصراع الرئيسيين، ما عُرف بالحرب الباردة، فثمة حرب سوفييتية-أمريكية في ألمانيا وهناك في كوريا الجنوبية، ناهيك عن حصار برلين وأزمة الصواريخ الكوبية، وكان الأمر أشبه بملاحقات كلا الطرفين لأصدقاء الآخر في أي منطقة بالعالم، يقابله دعم غير محدود من الطرف الآخر. لكن أية مواجهة مباشرة لم تندلع وحرب عالمية ثالثة لم يشتعل فتيلها، فالعالم كان قد تعلّم كم هي مأوساويةٌ الحروب العابرة للقارات.بقي العالم على حاله في الفترة ما بين 1947م و1991م، عندما قادت الكثير من الضغوطات الأمريكية الاتحاد السوفييتي بقيادة ميخائيل غورباتشوف لتبني سياسات أكثر شفافية مرفقة بالكثير من الإصلاحات الاقتصادية ما كان إيذانًا بتفكك الاتحاد السوفييتي، وهو ما حدث في ديسمبر/كانون الأول 1991م. وبدأ العالم عهدًا جديدًا كانت فيه الولايات المتحدة الأمريكية هي القطب الأوحد لهذا العالم.اختصارًا لهذه الفترة من عمر العالم، نشهد اليوم صعودًأ روسيًا على الساحة السياسية، وتدخلًا في العديد من الأزمات التي تتقاطع مع مصالحها القريبة والبعيدة، والتي ربما لا تتقاطع مع مصالحها إذا ما أعرضت بنفسها عن لعب دور فيها. في السطور القادمة سنحاول تسليط الضوء على آخر المشكلات التي لعبت فيها روسيا الاتحادية دورًا محوريًا جعلها في مواجهة بالوكالة أمام الولايات المتحدة الأمريكية، في حربٍ باردة جديدة، فمنذ مطلع الشهر الحالي باتت الكثير من مناطق أوروبا في مرمى صواريخ روسيا.


صواريخ روسية على حدود أوروبا

http://gty.im/614599738

في الأيام الأولى من أكتوبر/تشرين الأول، أكدت وزارة الخارجية الروسية تمكنها من نقل جزء من ترسانتها الصاروخية لمقاطعة كالينينغراد الحدودية غربي روسيا، وهي المقاطعة الروسية الوحيدة التي لا تتصل بعموم الأراضي الروسية بل تفصلها عنها بيلاروسيا وليتوانيا. وقد أثارت الحركة كثيرًاا من ردود الفعل الغربية المعادية للتوجه الروسي، إذ أعرب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ ، عن عميق قلق الدول الحلفاء إزاء التحركات الروسية.التحركات لم تكن فجائية، بل امتد الحديث الإعلامي عنها قبل أشهر، لكن ما صعّد من حدتها التحركات الروسية الكثيرة والمتلاحقة في أنحاء كثيرة من العالم في مواجهة المصالح الأمريكية وحلفائها، وهو ما لم يعهده العالم منذ بداية تسعينات القرن الماضي.الجانب الروسي قدم تفسيرًا للخطوة، مستنكرًا قلق الأوروبيين إزاء روسيا، فالتحرك الروسي جاء ردًا على تحرك أمريكي مماثل. في مايو/آيار الماضي حضر مساعد وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية لشئون مراقبة التسلح فرانك روز إلى رومانيا للإشراف على منظومة الدرع الصاروخية الأمريكية في القاعدة العسكرية ديفيسيلو في رومانيا، المزودة بصواريخ اعتراضية طراز Standard Missile 3، وأيضًا ليضع حجر الأساس لقاعدة مماثلة في بولندا؛ ما يعني أن البنتاغون بدأ رسميًا بنشر منظومته في أوروبا. هذه المنظومة اعتبرتها وزارة الدفاع الروسية تهديدًا أمريكيًا واضحًا، وعدت حينها باتخاذ إجراءات مماثلة للرد، الذي لم يتأخر كثيرًا.


الرؤوس النووية الروسية رهن الإشارة!

الاعتراض الأوروبي إذن لميكن بالأساس على ماهية التحرك الروسي، فالتخوف الأوروبي حقيقةً يكمن في نوعية الصواريخ التي استخدمتها روسيا في الرد. تُعد منظومة «إسكندر – أم» للصواريخ العملياتية التكتيكية سلاحًا روسيًا ذكيًا فائق الدقة، يمكنها أن تطلق صواريخ باليستية ومجنحة حسب المهام الموكلة إليها. هذه الصواريخ بالإمكان تزويدها برؤوس تقليدية ونووية على حدٍ سواء، وبوسعها تدمير أهداف تبعد 500 كم عن موقع الإطلاق. ويعني ذلك أن تهديدها يغطي كامل الأراضي البولندية وليتوانيا ولاتفيا، وحتى برلين التي تبعد 527 كلم عن مدينة كالينينغراد الروسية (موقع الإطلاق).ويقول الخبراء إن المنظومة بوسعها تجاوز أنظمة الدرع الصاروخية والأنظمة المضادة للجو، فالصاروخ المطلق من منصة المنظومة يحلق في مساره، الذي من الصعب جدًا التنبؤ فيه مسبقًا، علمًا بأنه يقوم بمناورات نشيطة عند إطلاقه من المنصة المتحركة. ومنظومة «إسكندر» قادرة على ضرب الأهداف الصغيرة والكبيرة الحجم بدقة عالية، والحفاظ على السرية لدى تجهيزها للإطلاق، وذلك في ظروف استخدام العدو لوسائل الحرب الإلكترونية. وتعتبر المنظومة من المنظومات ذاتية الحركة.

لمعرفة المزيد:الولايات المتحدة وروسيا تستعدان ليوم القيامة وينصب على كل منصة متحركة صاروخان؛ الأمر الذي يسمح بزيادة القدرة النارية لكتائب الصواريخ. وتمتلك منظومة «إسكندر- إم» قدرة نارية عالية تمكنها من ضرب هدفين مختلفين بفاصل زمني لا يزيد عن دقيقة واحدة، ويبلغ وزن الصاروخ لدى إطلاقه 3800 كيلوغرام، ويعادل وزن العبوة الحربية 480 كيلوغرامًا. ويتم التحكم في الصاروخ على مدى التحليق كله. وتتضمن المنظومة، إلى جانب المنصة المتحركة، عربة النقل والشحن التي تحمل صاروخين أيضًا، وعربة الصيانة، وعربة القيادة، وطقم التجهيزات والوسائل الخاصة بتدريب الأفراد.

الأزمة الصاروخية لا يمكن تناولها أيضًا بمعزل عن الخلاف الموسع بين موسكو وواشنطن، هذا ما أكّده وزير الخارجية الليتواني لوكالة فرانس برس، عندما أعرب عن قلق بلاده البالغ إزاء التحركات العسكرية الروسية على حدود بلاده، موضحًا أن التحركات الروسية هذه المرة إنما جاءت بغرض الحصول على تنازلات أمريكية وأوروبية في الملفين الأوكراني والسوري. كذلك، في حواره مع شبكة سي إن إن بالعربية، أوضح العسكري الروسي المتقاعد يفغيني بوجينسكي، وهو من عسكريي الحرب الباردة، أن «روسيا تحارب سيطرة الولايات المتحدة على العالم، الأمر لا يقتصر فقط على سوريا أو أوكرانيا، في أوكرانيا كان هناك انقلاب مدعوم من الولايات المتحدة. لدينا رؤية محتلفة لما يجري في العالم»، ما يحدث اليوم بين روسيا والولايات المتحدة مجرد لمحات عن حرب أكثر شمولية.


من الذاكرة: أزمة الصواريخ الكوبية

التصعيد في الموقف الروسي لا يمكن التعليق عليه بمعزل عن الخلافات الروسية-الأمريكية الموسعة إزاء القضية السورية والأوكرانية.

لدى روسيا رغم كل ما تمر به من أزمات اقتصادية خانقة ترسانة صواريخ متطورة، تجيد اللعب بها وفرض رؤيتها على طاولة المفاوضات متى وصلت مع الأطراف الأخرى إليها. هذا ليس جديدًا بشأن روسيا، فهي من قبل، أثناء الحرب الباردة أرغمت الولايات المتحدة على سحب ترسانتها الصاروخية من تركيا بافتعال أزمة الصواريخ الكوبية 1962م.لمعرفة المزيد: أمريكا وكوبا: الحكاية كاملة تعمد روسيا إلى المضي قدمًا لحجز موطئ قدمها بالقوة العسكرية ثم تذهب في طريق المفاوضات، والحقيقة أن الفرصة لم تكن مواتية لروسيا -للمضي قدمًا في إنفاذ مصالحها وطرح نفسها كبديل للولايات المتحدة- في أي وقت مضى منذ التفكك السوفييتي كما هو الحال الآن. اتحاد أوروبي هزيل، تراجع للدور الأمريكي عالميًا في ظل إدارة أوباما، وتماديه في سياسة العقوبات الاقتصادية التي لا تؤتي ثمارها على الأمد البعيد. جاكوب ليو وزير الخزانة الأمريكية كان له تصريح مردّه لجريدة الحياة اللندنية، يحذر فيه الإدارة الأمريكية من الاستخدام المفرط لسلاح العقوبات الاقتصادية لأنه بالتبعية يضعف الموقف القيادي للولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي كما يقلل من فاعليتها.


روسيا اليوم تطرح نفسها بديلًا للولايات المتحدة، تدافع عن مصالحها في شبه جزيرة القرم في أوكرانيا، وتفرض حلول أحادية الجانب، كذلك الحال في سوريا، تعلن مؤخرًا مساندتها الصين في نزاعاتها في بحر الصين الجنوبي، تخطب ود أردوغان الناقم على أمريكا وأوروبا من جراء دعمهم محاولة الانقلاب الفاشلة التي دُبرت ضده في منتصف يوليو/تموز الماضي، تتوارد أنباء غير مؤكده بشأن قاعدة عسكرية في مصر. أزمة صواريخ إسكندر هذه، جعلت أغلب أراضي أوروبا في شباكه، هي إذن حرب باردة جديدة!.