في 19 ديسمبر/كانون الأول 2018 أعلن الرئيس الأمريكي عن سحب قوات بلاده من سوريا بشكل كامل وفوري، معللًا ذلك بأن مبرر وجودها الوحيد قد انتهى بهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، ذلك القرار الذي لم يُفهم منه سوى أنه ضوء أخضر للجيش التركي ببدء عمليته العسكرية التي كان قد أعلن عنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل أسبوع من تصريح ترامب، تلك العملية التي كانت تستهدف منطقة شرق الفرات ومنبج بالداخل السوري – وهي المنطقة التي تُسيطر عليها القوات الكردية المتحالفة مع واشنطن في الحرب على تنظيم داعش – للقضاء على من أسماهم أردوغان بالإرهابيين، ومؤكدًا أنها لا تستهدف القوات الأمريكية. وعقب الإعلان الأمريكي مباشرة بدأت تركيا في إرسال تعزيزات عسكرية تمهيدًا لبدء الهجوم.

كان قرار ترامب بمثابة التخلي عن حلفاء واشنطن من الأكراد لصالح تركيا، حيث إن الوجود الأمريكي المُقدَّر بألفي مقاتل من قوات العمليات الخاصة الأمريكية كان بمثابة الحامي للقوات الكردية من غضب تركيا عضو حلف الناتو الذي يعتبر تلك القوات الكردية امتدادًا لحزب العمال الكردستاني العدو اللدود لتركيا، والذي تُصنفه تركيا كتنظيم إرهابي، وقد وصفت قوات سوريا الديمقراطية «الكردية» إعلان الانسحاب بالخيانة وطعنة في الظهر، بالإضافة لإظهاره حالة التخبط الأمريكي خاصة أن ذلك القرار جاء بعد يومين فقط من وصول تعزيزات عسكرية ولوجستية وآليات للقواعد العسكرية في منبج.

كما أحدث ذلك القرار سخطًا كبيرًا داخل واشنطن، والذي عبرت عنه استقالات كل من وزير الدفاع الأمريكي جيم ماتيس ومبعوث واشنطن للتحالف الدولي لمحاربة داعش بريت مكغورك، اعتراضًا على هذا الانسحاب الذي يتعارض مع الرؤية الاستراتيجية للبنتاجون، لتُحدث تلك الاستقالات سخطًا كبيرًا داخل واشنطن وخاصة داخل الكونجرس، وتبدأ الإدارة الأمريكية في التراجع عن قراراها شيئًا فشيئًا، لتنقلب لهجة خطاب ترامب فجأة ضد تركيا قائلًا: «سندمر اقتصاد تركيا إذا ضربت الأكراد»، ثم سرعان ما تعود مرة أخرى ليُشيد بالنجاحات التي حققتها الشراكة مع تركيا في محاربة داعش ووجود إمكانية كبيرة لتوسيع نطاق التنمية الاقتصادية بين البلدين.


التخبط الاستراتيجي

منذ اعتلاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مقعد الرئاسة في يناير/كانون الثاني 2017، وهناك حالة من التخبط والتردد تحكم السياسة الأمريكية بشكل عام، تلك السياسة التي انعكست بشكل أوضح على الوجود والتحركات الأمريكية في الشرق الأوسط، فبين تهور إدارة ترامب واندفاعها المحكوم بقلة الخبرة والانحياز الشديد في بعض الملفات وبين الحسابات الاستراتيجية للمؤسسات والطبيعة الخاصة لبعض القضايا الجوهرية غابت الرؤية لشكل الوجود والتدخل المستقبلي فضلًا عن التعامل مع الأحداث الجارية، ذلك التخبط الذي نتج عنه زيادة الارتباك والفوضى بالمنطقة وإحداث فراغات تحاول الكثير من القوى ملأها.

لم يكن التردد والتخبط في الملف السوري وبقاء القوات الأمريكية في سوريا أو رحيلها هو الجانب الأوحد، ولكن التعامل المتهور والمنحاز في الملف الفلسطيني-الإسرائيلي كان جانبًا أوضح لهذه السياسة الخاطئة، فقد تبنت إدارة ترامب سياسة الانحياز الكامل للجانب الإسرائيلي ومحاولة تجييش الأنظمة العربية المتحالفة مع واشنطن خلف الجانب الإسرائيلي لإنهاء القضية على حساب الحقوق الفلسطينية بإسقاط حق العودة للشتات والتنازل عن القدس وإقامة شبه دولة متقطعة الأوصال منزوعة السلاح والسيادة والذي يُطلق عليه إعلاميًّا «صفقة القرن» مبهمة التفاصيل رسميًّا.

وقد كان من أهم وأخطر القرارات التي اتخذها ترام في ذلك الشأن قرار نقل سفارة واشنطن لدى حكومة الاحتلال إلى مدينة القدس في ديسمبر/كانون الأول 2017، وهو ما أدى إلى اندلاع موجات عنف شديدة في عدة عواصم عربية واندلاع المظاهرات ومسيرات العودة في قطاع غزة المحاصر، والتي لم تتوقف حتى الآن، ورغم كل تلك الفوضى التي أحدثها ترامب لم يخرج حتى الآن ليُعلن عن تفاصيل أو ملامح خطته للقضية وتأجيل ذلك الإعلان عدة مرات.

رأى كثير من المتابعين في خطاب وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بالجامعة الأمريكية بالقاهرة معبرًا عن سياسة الإدارة الأمريكية في المنطقة، والتي تتمحور حول دعم إسرائيل بشكل مطلق، ومواجهة إيران، ومحاربة التنظيمات المتطرفة ودعم الأنظمة الحاكمة، في مقابل التجاهل والتخلي عن قضايا الديمقراطية أو حقوق الشعوب، إلا أن ذلك معبرًا آخر عن حالة التخبط الأمريكي.

فتزامنًا مع تلك الخطبة كانت الشوارع السودانية تمتلئ بمئات الآلاف من المتظاهرين في مواجهة نظام البشير دون أي تعليق من الإدارة الأمريكية التي رفعت العقوبات عنه أخيرًا، وكانت قوات حركة «أنصار الله» – المعروفة بالحوثيين – في اليمن، والمدعومة إيرانيًّا تقصف عرضًا عسكريًّا للقوات الحكومية اليمنية المدعومة من التحالف السعودي المشاركة فيه واشنطن بطائرة دون طيار أدت إلى مقتل عدة قادة بينهم رئيس الاستخبارات العسكرية اليمنية، وهي كلها تفاصيل تأتي داخل الاستراتيجية التي حددها بومبيو، ولكن دون وجود أي رؤية واضحة خاصة بعد قرار مجلس الشيوخ الأمريكي وقف الدعم للتحالف السعودي في اليمن في مواجهة قوات الحوثي.


من يملأ الفراغ؟

حالة التخبط تلك فتحت الباب لتوغل قوى أخرى مثل روسيا وتركيا وغيرها في الشرق الأوسط، فالتحركات الروسية في الداخل السوري ومحاولات التغلغل الأمني والمجتمعي مثل المشاركة في نقاط التفتيش الأمني وبعض المصالح الحكومية والأمنية تشي ببقاء طويل الأمد لروسيا داخل سوريا ما بعد الحرب، بالإضافة إلى التدخل في ملفات أخرى بالمنطقة مثل ليبيا والسودان الذي استقبلت رئيسه مرتين، مرة تم الإعلان عنها في يوليو/تموز الماضي، وأخرى سرية، تبعها زيارة البشير لسوريا بضغوط روسية تدل على النية الروسية لحضور أكبر في السودان.

وفي الملف الليبي، استقبلت موسكو الرجل الأكثر حضورًا فيه،الجنرال خليفة حفتر، أكثر من مرة مع تقارير تُشير إلى دعم لوجستي وعسكري له، بالإضافة للحضور الكبير في مصر التي تنوي روسيا إقامة مفاعل نووي على أرضها خلال التقارب الكبير مع رئيسها عبد الفتاح السيسي، إضافة لصادرات السلاح التي ازدهرت بقوة ووجدت طريقًا لها في كل من تركيا والسعودية ومصر وعُمان والكويت وقطر.

وهناك الصين أيضًا التي باتت لاعبًا قويًّا في المنطقة اقتصاديًّا ومن ثم سياسيًّا، بل توغل داخل مناطق النفوذ الأمريكي الأصيلة مثل الحصول على حق إدارة المواني الإسرائيلية، حيث ستتولى مجموعة شانغهاي الدولية مهمة تطوير ميناء حيفا وإدارته باتفاق يمتد 25 عامًا بتكلفة ملياري دولار، بجانب اتفاقية أخرى لإدارة ميناء أسدود.

علاوة على ذلك، تؤكد الصين حضورها القوي في دول الخليج بعد تفوقها على الولايات المتحدة في استيراد النفط الخام منذ عام 2013، إلى جانب الحضور القوي و المتجدد في السودان اقتصاديًّا وعسكريًّا من جديد حيث كانت الملاذ الوحيد للنظام السوداني في سنوات الحصار الأمريكي، إضافة إلى استثمارات وقروض ضخمة لمصر وأخرى في العراق، حتى بلغ حجم التجارة بين الصين والمنطقة العربية عام 2016 مبلغ 171.4 مليار دولار، بينما بلغ حجم الاستثمارات الصينية المباشرة في الدول العربية 31.9% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والتي ازدادت بشكل أكبر في السنوات القليلة الماضية.

اقرأ أيضًا:مفعول ترامب: الصين تعود إلى السودان من بوابة النفط

بل إن سياسة التخبط الأمريكي تلك قد أتت على عكس الاستراتيجية التي تتحدث عنها إدارة ترامب وليس هناك أوضح من التغلغل الإيراني داخل المنطقة أكثر وأكثر في ملفات كل من سوريا والعراق واليمن ولبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة التي باتت إيران لاعبًا رئيسيًّا فيها، سواء عسكريًّا أو سياسيًّا عبر القوى المسلحة التابعة لها مثل قوات الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان ومثلها في العراق بجانب وجود عسكري مباشر وقوي في سوريا.

لعل أهم ما في ذلك التراجع الأمريكي الناتج عن سياسة التخبط تلك هو السيناريوهات المستقبلية الناتجة عنه وهي المزيد من توغل القوى الدولية سالفة الذكر بشكل أكبر وأعمق مع اشتداد حدة الغضب والحنق الاجتماعي داخل الدول جرَّاء الدعم المطلق للأنظمة المستبدة والانحياز الفج للاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يدعم فرص انفجار الأوضاع من جديد على غرار موجة الربيع العربي عام 2011، وربما بصورة أشد وأكثر عنفًا، وزيادة مساحات التطرف والعنف والمواجهات المسلحة والتي ستُساهم فيها تدخلات القوى الأخرى التي تحمل أجندات ومصالح متضاربة ومتصارعة ستؤدي إلى مزيد من الفوضى في المنطقة.