يمثّل الليل في التصور الإنساني العام مستودعًا مفتوحًا للأسرار، ويقترن دومًا بالخفاء والستر والظلام، كما يستدعي ذكر «كلام الليل» المثل الشعبي الدارج الذي يصف كل ما يحدث فيه على أنه دون جدوى «كلام الليل مدهون بزبده يطلع عليه النهار يسيح».

من نفس المنطلق تقريبًا تعنون الروائية اللبنانية هدى بركات روايتها الجديدة «بريد الليل» إذ تأخذ كل ما يوحي به الليل من خفاءٍ، وظلم، وظلامٍ، ومحاولاتٍ للتخفي وعدم القدرة على مواجهة الناس والحياة والمشكلات، من خلال رسائل لن ترى النور ولن يطلع عليها النهار.

من خلال خمس رسائل مختلفة، وعبر متتالية سردية متصلة منفصلة تعرفنا هدى بركات على شخصيات روايتها وعالمهم، وما عاشوا فيه من مآسٍ وما مر عليهم من مشكلات وآلام، ونحن إذ ذاك نتماس تمامًا مع حكاياتهم من خلال ذلك البوح الذي تبثه في رسائل تنحو ناحية الاعترافات التي يطلقها أصحابها في الساعات الأخيرة من الليل، أملاً في التخلص مما أرهقهم في أيامٍ أو أعوامٍ سابقة، كل ذلك قبل أن تتغيّر مصائرهم ومصائر أصحابهم، بل وربما مصير ساعي البريد «البوسطجي» الذي لا نعلم ما إن كان سيوصل هذه الرسائل إلى أصحابها في النهاية أم سيتعثر هو الآخر في رسالته.

بمهارةٍ شديدة وبقدرة عالية على التكثيف واختزال اللحظات والحالات الإنسانية الدالة نتعرّف على شخصيات الرواية المجهلة حتى من أسمائها. نحن في البداية إزاء رسالة حب مكشوفة من رجلٍ إلى امرأة يحبها، وتبدو العلاقة بينهما ملتبسة. ثم في الرسالة الثانية امرأة تنتظر حبيبًا باعدت بينهم السنون. وفي الرسالة الثالثة ابنٌ يحكي لأمه كيف تغيّر حاله بعد أن اعتقلوه، ويعترف لها بجرائمه. وهكذا، نحن في كل رسالة إزاء شخصيّة ظاهرة تحكي، وشخصيات أخرى تختبئ بين التفاصيل والسطور.

لو تأتين الآن لنسينا كل شيءٍ معًا. سأقول لك: قفي قربي وراء النافذة، ولننظر معًا عبر الزجاج إلى هذا الليل الجميل، إلى المدينة تتمطّى تحت أضوائها وتتمدد في النعاس. اقتربي مني ودعي كتفك تلامس كتفي، كأختين صغيرتين تتفرجان سرًا عن أهلهما على الليل. وقولي لي ماذا ترين؟ لا تدعي الوساوس تعذبك، فأنتِ لن ترى سوى هذا الليل، لا شيء خلفه أو فوقه أو تحته. هذا كل ما في الأمر. اخلعي حذاءك لترتاح قدماكِ الجميلتان. لا عليكِ من الوقت. خذي وقتكِ كاملاً وأنا سأبقى واقفًا ولن أتعب. ولن أقوم بحركة قد توقظكِ لو ملتِ عليَّ وغفوتِ قليلاً. سأبقى واقفًا حتى أتحلل في مكاني وتتفكك عظامي .. تمهلي قليلاً .. سأعود إليكِ

في كل رسالة حالة خاصة، وعالم وتفاصيل خاصة بها تمامًا، بل وربما لغة مختلفة أيضًا، وطريقة في الحوار مع المخاطَب بالرسالة تختلف عن غيرها. فرسالة الابن لأمه تختلف عن الحبيب لحبيبته، وكذا رسالة الابن المنبوذ إلى أبيه، وفي كل رسالة منهم تحمل همومها الخاصة وتعكس قبح ذلك العالم الذي نحيا فيه وفي تفاصيله التي تشوّه الإنسانية وتتركها نهبًا للتشرّد والهزيمة والضياع.

وعلى الرغم من قصر الرواية وقدرة كاتبتها العالية على التكثيف، فإنها استطاعت التعبير عن أبطال شخصياتها بذكاء وأن تعطي لكلٍ واحدٍ منهم صوته الخاص، سواء كان رجلاً أو امرأة، حتى أن كل رسالة من الرسائل تحمل في طياتها الكثير من التفاصيل التي يمكن أن يُبنى عليها روايات أخرى، إذ سنجد لدينا كيف يتحوّل الناس إلى مجرمين وإرهابيين رغمًا عن أنوفهم، وكيف يمكن للحب أن يؤدي للقتل، وكيف يدمر الأب أحيانًا حياة أبنائه من خلال قسوته عليهم، وغيرها من الحكايات المتصلة المنفصلة داخل الرواية.

شجّعني على الكتابة إليك رسالةُ امرأةٍ وحيدة، وحدانية ومستوحشة مثلي. رسالة كنت عثرت عليها من زمان في خزانتي الصغيرة في البار، فأنا هنا كنت أعمل آنذاك في بارٍ وليس في مطعم. إنها على الأرجح إحدى الفتيات اللواتي كنّ يعملن هنا، في التنظيف أو مجالسة الزبائن، وقد تكون دستها في خزانتي لإخفائها، فربما هي ملاحقة بسبب ما تتضمنه الرسالة. لكنها بلا عنوان وبلا إمضاء، وفيها أيضًا أنها أخفت وثيقة لأحد الناس، وقد يكون فيما أخفته إدانةٌ لها. الآن فات الأوان، وربما كان ذلك خيرًا لها.

قسّمت هدى بركات الرواية إلى ثلاثة أقسام، في الأول، «خلف النافذة» تأتي نصوص تلك الرسائل بشكلٍ مباشر، ثم نتعرّف على جوانب أخرى من علاقات شخصيات أصحاب هذه الرسائل في القسم الثاني من الرواية المعنون «في المطار». وتأتي نهاية الرواية في القسم الثالث مع «موت البوسطجي» الذي يترك مصائر هذه الرسائل كلها معلقًا، فلا نعرف هل ستصل بالفعل إلى أصحابها أم أنها ستنتهي ربما بنهايته، وربما هي النهاية الحتمية لمثل تلك الآلام والمآسي في هذا العالم الذي لا يعرف الرحمة.

في النهاية تترك «بريد الليل» في نفس القارئ أثرًا عميقًا، ليس فقط لمتعة السرد وانسيابيته، بل لمساحات الحزن الشفيف الذي يتسرّب عبر تلك الرسائل المرسلة التي تحكي عن أصحابها، فيما القارئ يعلم يقينًا أنها لن تصل، ومقدار ما عانى كل شخصٍ في الرواية فيها حتى يصل إلى بر أمانٍ لن يجده!

هدى بركات روائيّة لبنانية، تقيم بفرنسا. تكتب على مهل وبعناية، ليست حريصة على التواجد كل عام، ولكنها لا تكتب إلا الرواية التي تنجح في التعبير عن الحالة والموقف الراهن. منذ بدأت مشوارها الأدبي مع رواية «حجر الضحك» عام 1995 والتي كانت من أوائل الروايات المعبّرة عن أجواء الحرب اللبنانية، وطبيعة المجتمع اللبناني وتغيراته في ذلك الوقت، كما تلتها بعد ذلك عدد من الروايات الهامة مثل «أهل الهوى»، و«ورسائل الغريبة» التي تناول فيها حال المغتربين بعد سفرها إلى فرنسا.

تُرجمت روايات هدى بركات لعدد من اللغات، حصلت على جائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة عن روايتها «حارث المياه» عام 2001، وصلت روايتها «ملكوت هذه الأرض» إلى القائمة الطويلة في جائزة البوكر العربية عام 2013، ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة «مان بوكر العالمية» عام 2015، كما حصلت على جائزة سلطان العويس الأدبية عام 2017.

تجدر الإشارة إلى أن رواية «بريد الليل» مرشحّة على القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب، وفي الوقت نفسه هي على القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لهذا العام 2019.