منذ طفولتي كنت مخلصًا للوحوش، لقد أنقذوني وحرروني، لأني أومن أن الوحوش هي رعاة شعورنا بعدم الكمال.

لطالما ارتبط اسم المخرج جييرمو ديل تورو بالوحوش، امتلأت بهم سينماه ولطالما عرف جيدًا كيف يصيغهم كمجازات للحالة الإنسانية وكهوس شخصي بانعدام الكمال، حتى أنه أهدى جائزة الجولدن جلوب التي فاز بها عام 2018 عن فيلمه «شكل الماء – The Shape Of Water» للوحوش أصدقاء طفولته، لكنه لم يلجأ في فيلمه الأخير «ممر الكوابيس – Nightmare Alley» بشكل مباشر لتلك الكائنات التي تستحق التعاطف والخوف معًا ولم يتناول قصة مغرقة في الثقافة اللاتينية مثل أفلامه الأشهر، بل اختار أن يصنع نسخة جديدة عن رواية أمريكية تم اقتباسها في الأربعينيات كفيلم نوار، وعلى الرغم من أمريكيتها الشديدة وبعدها عن الخيال الذي يشتهر به ديل تورو فإنها لا تخلو من الوحوش الآدمية.

تعتمد المتعة الرئيسية في أفلام ديل تورو على المفاجأة، ليس المفاجأة في التواء الحبكة أو الأحداث غير المتوقعة لكن في كيفية تناوله للحكايات البسيطة الشبيهة بالفلكلور، سواء التناول البصري أو القصصي، فالعنصر الأبرز الذي يشاركه فيه فريق من المصممين الملهمين هو تصميمات الكائنات الأسطورية والجو البصري العام لأفلامه، الذي عادة ما يملك ثنائية ما بين عالمين سفلي وعلوي، في «متاهة بأن – Pan’s Labyrinth» على سبيل المثال تدخل أوفيليا عالم مليء بالوحوش والجنيات عن طريق باب خفي في غرفتها، لكن ذلك العالم أكثر دفئًا وجمالًا من العالم الكولونيالي المرعب الذي تعيشه فوق الأرض، حتى شره أكثر رحمة من شر البشر، في ممر الكوابيس يصعب أن نعتمد على عنصر المفاجأة لأنه ليس قصة أصلية لديل تورو فالمفاجأة تكمن في تناوله المختلف لذلك التراث السينمائي الأمريكي وإضفاء أسلوبه عليه فكيف ظهرت نسخة صانع الوحوش والجنيات من القصة الأربعينية؟

الفيلم نوار/ المضمون

الفيلم نوار Film Noir هو أحد أكثر الأنواع السينمائية تعقيدًا في تعريفه، فهو ليس نوع بالتحديد، بل هو mode أو وضع توجد به مجموعة أفلام وتتبع مجموعة سمات متكررة، أبرزها سمات بصرية ثم تأتي بعدها سمات متعلقة بالشخصيات والحبكة، يرتبط النوار بفترة زمنية محددة جدًا وأمريكية جدًا وهي سينما ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبوعي أو من دونه عكست تلك الأفلام حالة من القلق وعدم الاستقرار سادت المجتمع الأمريكي في تلك الفترة، توارت الشخصيات الرئيسية الرومانسية الواضحة أخلاقيًا وحلت محلها شخصيات غامضة ذات ماض غامض ودوافع ملتبسة، بعض أفلام النوار نالت صيتًا عالميًا وشهرة ومكانة في تاريخ السينما بسبب تأثيرها البصري على الأفلام التي تلتها، وبعضها كان أكثر هدوءًا وتواريًا في الظلال مثل ممر الكوابيس Nightmare Alley 1947 من إخراج إدموند جولدينج.

مشهد من Nightmare Alley 1947

يمكن بسهولة فهم أسباب اختيار جييرمو ديل تورو لذلك النوار تحديدًا ليصنع منه نسخة جديدة، فالقصة تبدأ في سيرك متنقل يحوي كل أنواع البشر، يتم استعراض رجال بالغي قصر القامة أو بالغي الطول، ويظل العرض الأكثر جماهيرية هو رجل محدب الظهر يأكل الدجاج الحي ويصرخ ولا يملك القدرة على التواصل الإنساني، تبدو تلك نماذج جيدة لتكون وحوش ديل تورو الإنسانية إضافة بالطبع للبطل، الرجل الجذاب الذي يبدأ صغيرًا حتى يصل لأقصى حدود الثراء بل ويشعر في لحظة ما أنه أصبح إلهًا لكنه في حقيقة الأمر أصبح وحشًا.

مشهد من Nightmare Alley 2021

يتبع الفيلم في نسخته الجديدة ستانتون كارلايل (برادلي كوبر) الرجل الهارب كما نرى في المشاهد الأولى من جريمة قتل غامضة، يلجأ لفريق سيرك متحرك ويحصل على وظيفة هناك وبالتدريج يترقى ويستولي على تقنية اخترعها وأتقنها أحد الشخصيات الرئيسية هناك بيتر (دافيد ستراثنير) وصديقته شينا (توني كوليت) المهتمة بالطالع والتاروت، يقع ستان في حب أو يستغل حب فتاة شابة في السيرك تدعى مولي (روني مارا) ويقنعها بالهروب واستخدام تقنية بيتر وشينا لخداع الجمهور لكن على نطاق أوسع في الفنادق والمجتمعات الراقية، ينجح ستان عن طريق ارتكاب جريمة أخرى ويصل لما يريد، حتى يقابل من تساويه مكرًا وهي الطبيبة النفسية ليليث (كيت بلانشيت)،  معها يصل لمكان لم يتوقعه، فهو يستغل أسرار الجميع لكي يصنع خدعته السحرية الماكرة، حتى يصل به الأمر لتصديق أن له بالفعل قدرات إلهية قادرة على منح الأمل وسلبه.

يضيف ديل تورو تفاصيل بسيطة على شخصيته الرئيسية مستعينًا بالرواية لكي يجعلها أكثر اكتمالًا  يصنع له ماضيًا ملموسًا وجريمة واضحة يهرب منها، يحدد علاقته المرتبكة مع والديه، كراهيته وحبه لوالده وتدميره له في النهاية في حين أن فيلم إدموند جولدينج يترك ماضي ستانتون في الماضي فتصبح شخصيته أكثر غموضًا وإثارة للاهتمام، نعلم أنه ذو ماض غامض يرتبك حين تأتي سيرة الآباء، يرى أنه بلا أحباب وأنه يتيم في هذا العالم، نسخة ديل تورو تجعل كل الدوافع أكثر مادية وحضورًا، ستان يكره أباه ويكره كل نموذج أبوي لذلك يرتكب جرائم بشعة في حق تلك النماذج كما يريد أن يكتسب قدرة وسيطرة على من هم أكبر سلطة، ينزع ذلك الكشف عنه كل الظلال التي تجعل النوار نوارا ويخرج ما هو غير واضح إلى النور مما يزيل الشكوك ويحول ستانتون من ضد بطل إلى شرير.

الفيلم نوار/ الشكل

يصيغ ديل تورو ممر كوابيسه على خطى الفيلم الأربعيني لكن بمدة أطول وإضافات أكثر لخلفية الشخصيات والأحداث، يجعلها أكثر قتامة ورعبًا، لكنه ينتقص من الغموض وشعور الاغتراب المرتبط بأفلام النوار، بخاصة أنه اختار أن يتبع مود mode  النوار كما هو، لكنه انتقى منه أكثر سماته سطحية ووضوحًا مثل المرأة الفاتنة القاتلة femme fatale المتمثلة في شخصية دكتورة ليليث، والفترة الزمنية نفسها أي أنه لم يجعل الأحداث في زمن أكثر حداثة بل احتفظ بها في الأربعينيات فاكتسب أفضلية الاستدعاء الجاهز الذي تصنعه الأزياء، ففي معظم أفلام النوار يرتدي الرجال القبعات والبدلات الأنيقة ومعاطف المطر، وترتدي السيدات الأطقم موحدة اللون ويموجن شعرهن في لفائف دائرية، تجعل الفترة الفيلم أوتوماتيكيًا فيلم نوار، أمعن ديل تورو في إثبات ذلك بإصدار نسخة بالأبيض والأسود من فيلمه، هو معجب بالفترة وجمالياتها لكنه تعامل معها بشكل أقل عمقًا مما هي عليه.

مشهد من Nightmare Alley 2021
Christina’s World. Andrew Wyeth 1984/ source: MoMA

لا يمكن اعتبار ممر الكوابيس 1947 أحد أكثر أفلام النوار تأثيرًا أو تميزًا بصريًا، لكنه يملك السمات الرئيسية ويستخدمها لصالحه، يستخدم الظلال الداكنة التي تستدعي غموض الماضي وأشباحه التي يصعب التخلص منها، ويستخدم السمات الشكلية المرتبطة بالنوع (الجندر) ، ستانتون رجل قاتم قليل الكلام يرتدي ملابسه الرسمية والسيدتان إحداهما متلاعبة أنيقة والأخرى مفرطة الأنوثة  تنخدع بقوة وسيطرة ستانتون، يقتبس ديل تورو تلك الجماليات في عالم مليء بالألوان والأزياء الدقيقة كما يستدعي أحد أكثر الفنانين تأثيرًا في أفلام النوار الملونة وهو الرسام الأمريكي إدوارد هوبر، بخاصة في بعض مشاهد البداية المصورة خارجيًا التي يقع في خلفيتها منزل ريفي قوطي وسط القمح والحشائش والذي يظهر فيه أيضًا تأثير فنان أمريكي آخر وهو أندرو وايث ، إضافة لتصميم شخصية ليليث المتأثر بشقراوات هوبر الذي يقال إن نساء لوحاته يمثلن الإلهام الرئيسي لتصميم شخصية femme fatale  في أفلام النوار لكن ولأن فيلم ديل تورو ملون فإن ذلك التأثير أكثر بروزًا كما تؤطره الإضاءة المتباينة الدافئة.

كيت بلانشيت في Nightmare Alley 2021
New York Movie. Edward Hopper 1939

عودة وحوش ديل تورو

تظهر النتيجة النهائية لفيلم Nightmare Alley أقرب لأفلام الفترة period drama الهوليوودية الأنيقة أكثر منها إلى أفلام النوار الكلاسيكية أو الحديثة، فعلى الرغم من أسلوبيته العالية فإنه منمق أكثر من اللازم، لامع ورقمي حتى في أحلك مشاهده وأحداثه، فيتحول مشروع النوار الحديث إلى فيلم إثارة جاذب للجوائز يفتقد إلى روح ديل تورو الأصلية ويفتقر رغبته في صناعة نوار خاص به بعيد عن أسلوبه المعتاد على الرغم من لجوئه إلى بعض الخيارات الشكلية التي تخرج الفيلم من كونه اقتباسًا باردًا للفيلم الأصلي وتقربه من أسلوب المكسيكي الشهير حتى ولو بشكل محدود.

مشهد من Nightmare Alley 1947
Woman with A parasol. Edourad manet 1875 / source: NGA

تظهر لمسة ديل تورو المميزة نحو ذروة الفيلم في أحد المشاهد التي تستدعي ادعاء شخصية مولي أنها شبح فتاة متوفاة منذ زمن، يتعامل فيلم جولدينج مع المشهد مثل طيف رقيق، شبح فتاة بثوب من مطلع القرن العشرين ذي طبقات متعددة ومظلة تجعلها أشبه بشخصية من لوحة لمانيه في نهار صيفي ناعم، تتحرك في الظلام ببطء مع موسيقى رومانسية، لكن ديل تورو كونه محب الوحوش وأنماط الرعب يحول المشهد إلى مشهد في فيلم قوطي ذي منازل مسكونة وأشباح دموية يستدعي للذهن فيلمه crimson peak ، تظهر مولي في ثوب أبيض يتضاد مع شعرها الأسود الفاحم، وتصبغ يداها وملابسها باللون الأحمر الدموي في اختلاف واضح عن المشهد الاصلي، يستدعي المشهد الكثير من الإحالات السينمائية والأدبية من ضمنها ليدي ماكبث وحتى كاري من فيلم Carrie 1976 لبريان دو بالما. ربما يكون ذلك الاختيار الأكثر إثارة للاهتمام في تلك النسخة، وهو ما يجعلها تتأرجح بين النوار وأفلام الرعب القوطية إضافة للعنف الجرافيكي الواضح في مشاهد القتل الواضحة الدموية التي لم يكن من الممكن تخيلها في الأربعينيات.

روني مارا في Nightmare Alley 2021
روني مارا في Nightmare Alley 2021
سيسي سباسيك في Carrie 1976
سيسي سباسيك في Carrie 1976

Nightmare Alley فيلم أنيق، يملك أسلوبًا بصريًا مثيرًا للاهتمام و أداءات تمثيلية جيدة لكنه لا يملك أي عنصر فوق المتوسط كما أنه يصنع من قصة بالغة الإثارة سريعة الإيقاع فيلم أكثر مللًا، ويضمه إلى مجموعة أفلام تضم أكبر نجوم الصف الأول تضعهم في ملابس فترات أقدم لكي يصبح كل شيء أكثر جدية، لكن لولا الخيارات القليلة التي تذكرنا أن ذلك فيلمًا لجييرمو ديل تورو المخرج ذي الرؤية المتفردة كان من الممكن بسهولة تصنيف ذلك الفيلم بأنه طُعمًا أوسكاريًا فارغًا.