في موسم رمضاني مختلف اعتبره الكثير متخمًا وواعدًا، ما إن ظهرت الحلقات الأولى وتابع المشاهدون عددًا من مسلسلاته حتى بدأت تظهر التعليقات السلبية، كان مسلسل «قصر النيل» يغرد بعيدًا، ليس فقط في الزمان، فالعودة إلى الماضي والحنين إليه أصبح مألوفًا في الأعمال الدرامية الرمضانية، ولكن أيضًا في طريقة الحكي والقصة والتفاصيل التي تعتمد على عنصر الإثارة والتشويق البوليسية، والتي كنا قد اعتدنا في السنوات الماضية أن تكون مقتبسة عن أصولٍ أجنبية سواء كانت بوليسية مثل جراند أوتيل 2016ـ أو اجتماعية مثل ليالي أوجيني 2018.

لكن المسلسل هذه المرة لمؤلف مصري، هو محمد سليمان عبد المالك الذي ارتبط اسمه بروايات الإثارة والتشويق من قبل، كما كتب عددًا من الأعمال التلفزيونية الناجحة التي تراوحت بين الاجتماعية والتاريخية والبوليسية. يعود هذا العام إلى الدراما التي يبدو متميزًا فيها من خلال حكاية عائلة فهمي السيوفي الارستقراطية، الذي يمتلك قصرًا على النيل ومصنعًا للغزل والنسيج، تأتي ثورة يوليو 1952 لتقلب حياة هذه الأسرة رأسًا على عقب، ولكن قبل ذلك بقليل تأتي (كاميليا) دخيلة على هذه الأسرة، ونكتشف أن فهمي السيوفي قتل والدها منذ سنوات وها هي تعود لتنتقم من أبنائه.

بناء محكم للشخصيات

تبدو الحكاية وكأنها دوران حول القاتل، ولكن بناء المسلسل اعتمد بشكلٍ أساسي على بناء الشخصيات، فما إن ندخل القصر، حتى نتعرّف على شخصيات شديدة التباين والخصوصية، هم أبناء السيوفي الثلاثة وزوجاتهم، ثم أخوه منصور السيوفي الذي يتزوج كاميليا، بل ويمنحها القصر هدية لها، ولكنه سرعان ما يلقى حتفه في نفس الليلة في أجواء غامضة.

نتعرف على نبيل السيوفي أكبر الأبناء الغارق في حياة اللهو ولعب القمار، وحسين السيوفي الشاب الذي يجد أن حياته خارج أسوار هذا القصر، وينخرط في تنظيمات الشيوعيين مبتعدًا عن ثراء عائلته ونفوذها، وأخيرًا فوزي السيوفي الذي نتعرف عليه في البداية كمريض نفسي، ونكتشف فيما بعد كيف تحولت حياته من مهتم بالمسرح والفن إلى أسير لهذا القصر وهذه العائلة. في مقابل الأولاد الثلاثة نجد شخصيتين نسائيتين هما عايدة الخزندار زوجة نبيل، وسعاد زوجة فوزي، نرى في كل واحدةٍ منهما شخصية مختلفة، فالأولى قوية ومسيطرة، تسعى للتحكم في أفراد العائلة وإدارة القصر وفقًا لقوانينها الخاصة، فيما تتكفي الأخرى بمحاولة كسب ثقة زوجها والخروج بأقل الخسائر من هذه العائلة الغريبة.

لعل أكثر ما يلفت الانتباه في بناء شخصيات المسلسل هو اعتماد الكاتب على الحوار أساسًا لتعريفنا بالشخصيات، إذ يضع كل شخصية من شخصيات العمل في موقف وبمجرد إدارة الحوار يتضح لنا طبيعة كل شخصية ودوافعها، وكيف تتحرك وتفكر وتتصرف، ولعل هذا هو ما يجعل شخصيات العمل أكثر حيوية وثراءً، وهو الأمر الذي لم يقتصر على شخصيات العمل الرئيسية، بل كان واضحًا مع كل الشخصيات حتى من بدا منهم ثانويًا.

ثغرات درامية مقصودة

منذ الحلقات الأولى سيلاحظ المتفرج عددًا من الثغرات الدرامية، خصوصًا تلك المتعلقة بجريمة القتل وكيفية تنفيذها وتفاصيلها، لا سيما أن الحكاية يرويها المحقق وفقًا لتخيله لتصرفات الشخصيات، ولكن ما إن تأتي الحلقة الرابعة عشرة حتى يكشف المسلسل واحدًا من ألغازه الكبرى، والذي يقلب الحكاية رأسًا على عقب، لنكتشف أن كل تلك الثغرات كانت مقصودة تمامًا لتضليل العدالة، وربما المشاهد أيضًا. يحافظ المسلسل على تصاعده الدرامي حلقة بعد حلقة، من دون الإخلال بخط سير الأحداث، ودون أن يدخل في تفاصيل جانبية أو تفاصيل لا علاقة لها بقضية المسلسل الرئيسية، على العكس من ذلك، تسير كل الخيوط مهما بعدت لتلتقي في النهاية عند فهمي السيوفي وعائلته.

‏أنا مش نفس بتاعت امبارح.. مبقاش قلبي خلاص بيسامح
أنا وحشَاني، دي حقيقة
الطفلة الهم كَسرها.. دلوقتي بقيت أنا غيرها مُش هيا..
اللي فاضلي مني ملامح.. ذكرى بعيدة لزمن رايح هو أنا ظالمة؟ ولا بريئة
السكينه بتسرقني.. بحرق غيري وبحرقني بإيديا
ومابنختارش.. بتاخدنا ساعات الدُنيا ومابنختارش
ونحاول نرجع تاني زي زمان.. ومابنقدرش.
من تتر مسلسل قصر النيل – أمير طعيمة

في انتظار النهاية

عادة ما يؤجل كتاب السيناريو الكشف عن أسرار حكاياتهم البوليسية حتى الحلقات الأخيرة من المسلسل، وذلك ضمانًا لجذب انتباه المتلقي حتى الحلقة الأخيرة، ولكن الأمر يختلف هنا مع قصر النيل، إذ فوجئ الجميع في الحلقة الخامسة عشرة بكشف أسرار المسلسل كلها دفعة واحدة، وبقي أن ننتظر كيف ستكون النهاية بعد ذلك، ولأن المسلسل اعتمد بشكل أساسي على عدد من الخيوط، ولم يقتصر الأمر على حكاية جريمة القتل وكشف غموضها، فإن المشاهد سيكون شغوفًا بمتابعة المسلسل للتعرف على التفاصيل الأخرى لهذه الشخصيات، التي أصبح متورطًا مع حكايتها بين التعاطف أو الغضب.

ليست مجرد فكرة واحدة

كما ذكرنا سابقًا، ربما تكون جريمة القتل والبحث عن القاتل هي الفكرة الرئيسية التي ستجذب انتباه المشاهدين للمسلسل، ولكن المسلسل يحمل بين جوانبه العديد من الأفكار التي تدور في إطار علاقتنا بالماضي والحاضر، وكيف يمكن أن تؤثر الأخطاء القديمة جدًا على حياتنا، ذلك ما نجده واضحًا في رحلة بطلة الحكاية (كاميليا) بين الانتقام من قتلة أبيها، وسعيها للنجاة بنفسها، وعلى قربٍ منها نجد (عايدة) التي تسعى عائلتها ذات الأصول التركية إلى انتشالها من عالم القصر والأسرة، ولكنها ترفض بإصرار وترى حياتها ومستقبلها بين هذه العائلة حتى لو آلت إلى زوال!

كما ترصد محاولات رجال السلطة السيطرة على الحراك الشعبي، وكيف تمكنوا من تجنيد عدد من الأفراد داخل الخلايا الشعبية، لكي يحكموا قبضتهم عليهم في الوقت المناسب، وهو ما قام فيه الضابط (خالد نوح) مع حسين السيوفي ابن صاحب المصنع الكبير من جهة بعد أن قبض عليه في خلية للشيوعيين، ومع أحد زعماء هذه الخلية من جهة أخرى لمعرفة تفاصيل اجتماعاتهم والتأثير عليهم بشكل غير مباشر.

من جهة أخرى يكشف المسلسل بوضوح ألاعيب رجال السلطة والنفوذ ومحاولاتهم الدؤوبة في تزييف الحقائق حتى يحصلوا على كل ما يريدون، حتى لو وصل بهم الأمر إلى قتل المعارضين أو الوشاية بهم ليتم سجنهم. وهو الذي قام به البرنس علاء مع عدد من الشخصيات الثانوية في المسلسل حتى يتمكن من السيطرة على أفراد عائلة السيوفي وأملاكهم.

في النهاية يصعب التكهن بما ستؤول إليه الأمور في «قصر النيل» فلا تزال الأحداث في ذروتها، وما زلنا متعلقين بشخصيات القصر ومن حوله، متابعين بشغف كيف ستنكشف بقية الخيوط، وإلى من ستنتهي ملكية القصر وحياة أفراده.

المسلسل من إخراج خالد مرعي في عودةٍ للدراما التلفزيونية بعد غياب ست سنوات، حيث كان آخر ما قدمه مسلسل العهد، وقد استطاع أن يتحكم في تفاصيل العمل من حيث التصوير والديكور واختيار الشخصيات، ويقدم رؤية بصرية تتناسب مع زمن المسلسل إلى حدٍ كبير. كما جاءت موسيقى أمين أبو حافة متناسبة مع أجواء الزمن الماضي من جهة، وتتصاعد حدتها لتناسب أجواء الحكاية البوليسية في أحيان أخرى.