هل يجب أن يكون للفن هدف أو غاية؟

سؤال قديم جديد مللنا -كمحبين للفن- الإجابة عليه، ولكنه يعود للتكرار لا لشيء إلا لاستمرار أسبابه. من بين هذه الأسباب يبرز في زماننا هذا وفي الحالة المصرية الدور السياسي للمنتج الفني، حيث يرى البعض أن الفن لابد وأن يقدم خلفية سياسية لمجتمعه وبلد منشئه، أو حتى لمحات ستظهر دون قصد طالما كان الفن حرًا. هنا يظهر الفن المصرى وكأنه «تحت الحراسة»، أو بمعنى أدق محاصرا أمام اختيارين فإما أن يكون منزوع السياسة تماما، وإما ملتزمًا بالسردية الرسمية التي أقرها النظام المصري للأوضاع الحالية.

قد يكون الطرح ظالما إن حملنا أهل الفن وحدهم مسئولية نزع السياسة من فنهم، خصوصا وأننا نعيش جميعا تحت نفس الحصار الجبري، هذا الحصار الذي حجب حتى منبرنا الإلكتروني هذا في عالم افتراضي واسع. فما بالك بفن يلزمه مواقع حقيقية، وأموال ومعدات ومجاميع وأبطال وقنوات لتحويل نص إلى صورة يتلقاها أهل مصر في البيوت. من هنا جاء تقييمنا للمحتوى السياسي -بمفهومه الواسع- في مسلسلات رمضان من باب التوثيق لحجب الحريات في هذا الزمان، بجانب النقد الفني لفقر المحتوى وسطحيته عند البعض، وليس من باب المزايدة بأي حال من الأحوال على فنانين مغلولة أيديهم حتى ولو خوفًا.


كلبش وأخواته: حينما يسقط «باشا مصر» في حفرة النكران

تعود الشرطة المصرية التليفزيونية للظهور مرة أخرى هذا العام في دراما رمضان، مرة أخرى تظهر الشرطة بشكل أحادي سطحي، دون تجسيد حقيقي أو فك لخيوط معضلة اجتماعية ونفسية ربما تكون الأكثر غموضا في المجتمع المصري، خصوصا وأننا نعيش في دولة قامت فيها ثورة محركها الرئيسي هو عطب جهاز الشرطة، انقلبت الدنيا ومرت الأعوام وانتكست الثورة، وبقيت الشرطة «محلك سر» وكذلك بقي تناول الدراما لها. فإما يظهر الشرطي كبطل مغوار يعبر عن المؤسسة الوطنية، أو شرير فاسد دخيل عليها، يتغير الأمر بالطبع وفقًا للمزاج العام.

اقرأ أيضا:الشرطة في دراما رمضان بين الملائكية والحالات الفردية

لا شك أننا نعيش اليوم عصر ما بعد عودة الشرطة لعرشها، يتزامن هذا مع توجه عام من السلطة لتصوير الأمر في مصر وكأنه حرب بين النظام والإرهاب. رجل الشرطة في مصر حسب الرواية الرسمية له إذًا ثلاثة خصوم إرهابي أو ناشط أو بلطجي. هكذا أصبح الجو مهيئاً مرة أخرى لباشا مصر كما يسمى الضابط «سليم الأنصاري» الذي يجسده «أمير كرارة» بشارب كث ينافس شارب ستالين.

سليم هو بطل الشرطة المغوار الأسطوري الذي يواجه خصومه الثلاثة النمطيين للغاية، فإما إرهابي لا يتردد في الاختباء خلف أمه التى تصلي حتى يقتل رجال الشرطة المهذبين، وإما بلطجي تحتفل الحارة بهزيمته النكراء في معركة فردية مع الضابط الهمام، وإما ناشط ساذج حتى لو كان طيب النية. وتبدو سخرية القدر مكتملة حينما تصبح النتيجة الأهم في أحداث المسلسل لتعذيب ومقتل هذا الناشط ليس تركيز الضوء عليه وعلى قضيته، ولكن تهديد مستقبل باشا مصر الذي تورط في دمه ظلمًا ولسوء حظه.

يقدم المخرج «بيتر ميمي» مسلسلاً جيدًا على مستوى التشويق وخصوصا في مشاهد المطاردات، كما أنه يقدم شريرا جيدا وغير نمطي ومختلف وهو «دياب» في دور زناتي أمين الشرطة الذي لا يتردد في التربح والتعذيب والتلفيق طالما سيصل في النهاية لمكاسب تخرجه من بؤس الحياة في حارة فقيرة يعيش فيها حياة مضطربة مع زوجته.

ولكن المشكلة الأبرز هنا أن المسلسل يتبنى بشكل كامل سردية وزارة الداخلية المعتادة والتي ترى الجميع في قوالب مصمتة ولا تتقبل أن هناك خطًا رئيسيا ومتجذرا مؤمنا باستخدام التعذيب كإحدى وسائل التحقيق، فترمي بحالات التعذيب المفضوحة دائمًا في خانة الحالات الفردية وتحملها دائمًا لأمناء الشرطة وتبرئ الضباط والقيادات بشكل دائم، وكأن هؤلاء الأمناء نبتوا بشكل شيطاني داخل الجهاز.

لا تتقبل الوزارة أيضا أن غالبية ضباطها وقياداتها يجهلون قيمة حقوق الإنسان الحقيقية التي لا يمكن التنازل عنها في مقابل فرض الأمن، ببساطة لأنه لا وجود للإنسان الذي سيستمتع بهذا الأمن دون حقوقه. ولا يبدو الأمر مجرد تكهنات حينما يعبر أمير كرارة بصراحة تامة في أحد تصريحاته عن ذلك قائلا إنه أراد التعبير عن وجهة نظر ضباط الشرطة من خلال المسلسل!

لا يمكن أن تستمر دولة دون جهاز شرطي يحمي العدالة ويشرف على تنفيذ القانون بالطبع، ولكن هذا الجهاز لن ينصلح عن طريق محتوى دعائي غارق في حالة من النكران، حتى إذا تم تقديم هذا المحتوى في قالب ممتع.


الجماعة 2: وحيد حامد يصارع قدامى العسكر والإخوان

يحتوي مسلسل «الجماعة 2» وبلا شك على المحتوي السياسي الأكثر وضوحًا وتكثيفًا ومباشرةً في دراما رمضان هذا العام، ولكن الأمر للأسف تحول لمفاجأة غير سعيدة لبعض محبي المؤلف «وحيد حامد» قبل كارهيه.

حامد كباقي أبناء جيله من صناع الدراما المصرية يملك دون شك بوصلة سياسية وأفكاراً -اتفقنا أو اختلفنا معها- يريد أن يعبر عنها من خلال فنه، وهذا ما يميزه هو وجيله عن صناع الدراما المصريين الشباب الذين يبدون تائهين بلا بوصلة، ولا مشروع فني أو فكري.

ولكن المفاجأة غير السعيدة في «الجماعة 2» أن حامد حول المسلسل لنشرات وثائقية يتم التنقل بينها دون مشاعر، ومجموعة اسكتشات تنقل مواقف تاريخية بنفس الحروف والكلمات والوقفات من مجموعة مراجع ذكرها حامد في تتر النهاية.

أفقدت هذه الطريقة المسلسل من نقطة قوته الفنية الأهم في الجزء الأول حينما قدم حامد معالجة درامية تربط الحاضر بالماضي، معالجة تقدم أحداثا تاريخية في سياق إنساني ثم تنتقل للواقع لتعرض إثارة. معالجة لطالما تميز بها حامد، فقدم منتجا فنيا جديرا بالمشاهدة والنقد حتى ولو اختلفت مع الأفكار التى يقدمها.

صاحب هذا العطل الفني خلل أهم على مستوى المحتوى السياسي، فبينما كان الجزء الأول ملامسا لروح عصره حينما عُرض في 2010 مع الأنفاس الأخيرة لدولة مبارك، يبدو على العكس تمامًا الجزء الثاني خارج نطاق الزمن هو وصراعاته التى تشبه الآن لقاءات قدامى الأهلى والزمالك في الدورات الرمضانية.

يعتمد المسلسل على رؤية تاريخية تنقل العلاقة بين ضباط يوليو وجماعة الإخوان المسلمين في بدايتها، تلك العلاقة التى تأرجحت بين الود الشديد والعداوة القاتلة. من الأكيد أن حامد لا يتلقى تعليمات لسرد رواية السلطة في مصر، ومن حقه أيضا أن يقدم معالجته الدرامية التي تعبر عن أفكاره، ولكن ما ننتقده هنا هو هذا التصوير الكاريكاتوري لقيادات الجماعة والضباط الأحرار على حد سواء. وفي كل الأحوال يبدو المحتوى كدرس تثقيفي مفيد، ولكنه ممل ومثير للضحك لمباشرته في أحيان كثيرة. فلا عسكر اليوم هم ضباط يوليو حماة الدولة القومية، ولا إخوان اليوم هم سيد قطب والهضيبي.


تاريخ وخيال: أقرب انعكاساتنا في واحة قديمة أو كفر خيالي

حينما تبتعد مسلسلات الدراما الاجتماعية عن الواقع وتُنزع منها السياسة نزعا، أو تقحم فيها رواية دعائية، يصبح أمام المشاهدين في البيوت اختيار واحد، وهو تخيل هواجسهم ومعاناتهم اليومية في حكايات قديمة أو خياليةـ حتى ولو لم يكن فيها شيء يدعو للخيال. تكررت هذه الحالة مرتين في مسلسلات رمضان، الأولى في مسلسل «واحة الغروب» والثانية في مسلسل «كفر دلهاب».

في «واحة الغروب» للمخرجة «كاملة أبو ذكري» عن رواية الأديب الكبير «بهاء طاهر»، استغل المشاهدون التشابه بين حكاية ثائر مهزوم في زمن الثورة العرابية وحكايات ثورة يناير المغدورة، وجد جيل يناير وما بعدها ضالتهم وما يشعرون به من خلال شخصية «محمود عبد الظاهر»، الضابط الذي تعاطف مع ثورة عرابي ثم ما لبس أن تبرأ منها بعد فشلها خوفا من مصير الثائرين.

وفرت مقاطع بهاء طاهر عن وهن ما بعد الهزيمة ممدا إضافيا لتغذية هذه الروح، وحينما سرد محمود عبد الظاهر الذي جسده «خالد النبوي» مقطعا من خطبة «عبد الله النديم» أثناء الثورة العرابية، انتفض جيل يناير لأنهم وجدوا المحتوى السياسي الأقرب لمشاعرهم في عام 2017 قادما من محتوى يتناول أحداث وقعت منذ ما يزيد على 130 عاما.

أما في «كفر دلهاب» للمخرج «أحمد نادر جلال»، والكاتب «عمرو سمير عاطف» فالأمر مختلف قليلا، فالمسلسل الذي تدور أحداثه في مكان خيالي وزمن غير معلوم، قوبل بمساحة ضخمة من تخيلات المشاهدين وإسقاطاتهم حتى فسروا كافة أحداثة وكأنها سرد للواقع السياسي المصري الحالي.

فحينما ظهرت لعنة في كفر دلهاب بسبب عدم القصاص من قاتلي فتاة تسمى «ريحانة» خرجت تحليلات بعض المشاهدين لتفسر أن الكفر هو مصر، وريحانة هي الثورة وشهداؤها، واللعنة هي ما يحدث لمصر الآن، وامتد الأمر لتشبيه شخصيات المسلسل بشخصيات حقيقية ومنها شيخ الغفر الذي يمثل السلطة العسكرية في الكفر. لم يجد مشاهدو الكفر ما يعبر عن معاناتهم وواقعهم في أي من مسلسلات الدراما فتخيلوا إسقاطات فاجأت حتى مخرج العمل ومؤلفه!


لا عسكر في شوارع هذه المدينة

هكذا إذا وجدنا المحتوى السياسي في دراما رمضان. بين مسلسلات دراما اجتماعية منزوعة السياسة بشكل قسري، ومسلسلات تتبنى الرواية الرسمية لضباط الشرطة بشكل مكتمل، ومسلسلات تنقل مباراة مسجلة لقدامى السياسيين في مصر، وخيالات عن إسقاطات غير موجودة أو استعادة لأحداث مر عليها مئات السنين.

ليبقى حدث وحيد هو ما لم نذكره وهو ما لا يذكره أحد، أن مسلسلات رمضان كافة، ونقصد هنا ما تدور أحداثها في إطار درامي واقعي معاصر، تبتعد بشكل مكتمل عن أي ذكر لضباط الجيش وقيادته من قريب أو بعيد، بمن فيهم بالطبع من يحكم مصر في هذه الأيام العجيبة، وكأننا نحيا في دولة لا يحكمها أحد، وكأن الجميع بمن فيهم المؤيدون المخلصون يخشون من نقل صورة لا تعجب الجنرال الذي يضيق بأي عمل به قدر من التفكير خارج الأوامر لا يتردد في الشخط والصراخ في من يوجه له أي حديث من أي نوع.

لذا فقد كانت اللحظة الأكثر صدقا وبلا شك في دراما رمضان هي اللحظة التي كسرت فيها الدراما هذا الحاجز الذي يبدو معه وكأن لا عسكر في شوارع هذه المدينة، ونحن نقصد هنا بالطبع الكادر الشهير من إحدى حلقات مسلسل «لا تطفئ الشمس» حينما رأينا في الخلفية حائط يحمل عبارة معتادة تمامًا لساكني مصر موجهة للجنرال بشكل شخصي.

لا نعلم إن كان الكادر مقصودًا أو أنها كانت مجرد لحظة عفوية، ولكن في الحالتين فهذا ما نقصده بأن العمل الفني الحقيقي من المفترض أن يحمل خلفية سياسية عن بلد منشئه حتى ولو كان ذلك دون قصد من صناعه، طالما أنه لم يتعرض للرقابة والحذف – مثلما تم مع هذا الكادر الوحيد بعد عرض الحلقة للمرة الأولى بوقت قصير.