في عام 2009 شهدت حياة مصمم الأزياء الشهير «توم فورد» وصاحب ماركة العطور والأزياء ذائعة الصيت، والمسماة باسمه، تحولاً كبيرًا حينما قرر الدخول لعالم السينما وقام بكتابة وإخراج فيلم «a single man» الذي لاقى نجاحًا نقديًا ﻻ بأس به، وتوارى عن الأنظار إلى أن عاد هذا العام محولاً رواية الكاتب الأكاديمي «أوستن رايت» ذات المسارات المعقدة «Tony & Susan» لفيلم سينمائي بعنوان «Nocturnal Animals». عُرض الفيلم في العديد من المهرجانات الدولية منها مهرجان «فينيسا»، وبدأ هذه الأيام عرضه الجماهيري، ومن المتوقع أن ينافس في موسم الجوائز نظرًا لجودته الفنية، وهنا نستعرض ثلاثة أسباب تجعل من هذا العمل أحد أفضل أعمال العام.

ثلاثة مسارات سردية

من فيلم "Nocturnal Animal"
من فيلم «Nocturnal Animal»
ربما يكون التحدي الأكبر الذي واجه «توم فورد» في كتابة هذا الفيلم هو سرديته المعقدة، إذ تدور أحداثه في ثلاثة مسارات مختلفة في الزمان والمكان؛ المسار الأول وهو الحياة الآنية لسوزان «أيمي آدمز» وهي سيدة ذات أصول برجوازية من أسرة محافظة، تمتلك معرضًا فنيًا لعرض المقتنيات النادرة. تعاني سوزان من زوجها، رجل الأعمال المشغول دائمًا والذي لا يهتم بها، وفي نفس الوقت تكتشف خيانته لها، ولكن كبرياءها يجبرها على تجاهل الأمر كأن لم يكن. يأتيها طرد من زوجها السابق وحبيبها الأول إدوارد «جاك جيلنهال» ويخبرها أنه كتب رواية يريد منها أن تقرأها.المسار الثاني وهو قصة الرواية المسماة «حيوانات ليلة» وهو نفس الاسم الذي اعتاد إدوارد إطلاقه على سوزان. تدور أحداث الرواية في إطار العنف والجريمة، حيث يتم الهجوم على الأسرة المكونة من لورا «إيزلا فيشر» وابنتها وزوجها توني «جاك جلينهال» من رجال مجهولين أثناء ذهابهم لرحلة صحراوية، ويقومون باغتصاب الزوجة وبنتها وقتلهما. يلجأ توني لمحقق الشرطة «بوبي أندز» الذي يحاول مساعدته في القبض على القتلة.المسار الثالث ويدور في فترة شباب سوزان وإدوارد حيث نتعرف على قصة حبهما ونتعمق في أصول سوزان البرجوازية بشكل أكبر، وطباعها الحادة المتغطرسة، ورأيها في توجه إدوارد لكتابة الروايات، وأسباب طلاقهما بعد قصة حب ملحمية.ثلاثة مسارات بثلاثة أساليب مختلفة في السرد، كل مسار يدور في مكان وزمان وطبقة اجتماعية ودرجات نضج مختلفة للشخصيات. نجح توم فورد ككاتب سيناريو في عرضها بسلاسة بدون أي فقدان للتوازن في عرض المسارات الثلاثة، أو تعدي مسار على أهمية الآخر، وهنا نتعرف على توم فورد ككاتب سيناريو متمكن لم يفشل في تحويل رواية معقدة بهذه القيمة لسيناريو مفهومة مساراته المختلفة حتى لو صعب تفسير دلالتها. صعوبة تفسير دلاﻻت القصة ناجمة من رمزية الأحداث واعتمادها على المعنى الخفي والسيكولوجي، وهنا يكون على المشاهد دور الربط بين دلالة الرواية وطباع سوزان في الحقيقة، وبين طباع توني في الرواية ونظرة سوزان له في الحقيقة، وبين اسم الرواية نفسه الذي له دور مركزي في تفسير الأحداث. وهنا نجد أننا أمام نص معقد في دلالاته ويستلزم لفهمه تحليلاً سيكلوجيًا لكل شخصيات الفيلم لاسيما سوزان، بل وتحليل كل إشارة وجملة حوارية. ترشيح مستحق لفورد لجائزة النص في الجولدن جلوب وترشيح متوقع لجائزة النص المقتبس في الأوسكار.

ثلاث رؤى بصرية

من فيلم "Nocturnal Animal"
من فيلم «Nocturnal Animal»
لم يختر فورد تقديم رؤية بصرية واحدة لكل مسارات الفيلم، بل خصص رؤية بصرية مميزة ومتفردة لكل مسار، كأننا نرى ثلاثة أفلام لثلاثة مخرجين مختلفين، حيث غلب على صورة المسار الأول رؤية هادئة قلقة في نفس الوقت، والألوان المشبعة القاتمة «saturated» والملابس الأنيقة. ونجح فورد في هذا المسار في دمجنا مع شخصية سوزان البرجوازية المتغطرسة التي تشعر بخيبة الأمل من زوجها الحالي وحنينها لزوجها الماضي وحبيبها الأول إدوارد، وانعكاس القلق عليها وهي تقرأ الرواية. وغلب على هذا المسار الطابع الفني للديكورات، حيث نرى لوحات غامضة ومريبة في أركان الصورة ساهمت في عكس حالة القلق والارتباك على المشاهد، واستخدام الإضاءة ذات اللون الأزرق الأحادي والنور البارق المفاجئ في وجه الممثلة (مشهد السيارة أثناء دخولها الحديقة)، هذه ملامح تأثر واضح بأسلوب المخرج «ديفيد لينش» حيث لم يجد فورد أفضل من أسلوب لينش في تحويل كل مكونات المشهد في أفلام النوار لدلالة سيكولوجية معقدة.المسار الثاني وفيه قدم فورد الرؤية المعتادة في أفلام الغرب الأمريكي حيث العنف والقتل، واستخدام نور الشمس كمصدر للإضاءة والألوان غير المشبعة والدموية المفرطة، وكأننا في أحد أفلام الغرب الأمريكي الحديثة التي أخرجت علي يد «الأخوين كوين». أما المسار الثالث وهو فترة الحب وزواج إدوارد وسوزان واستُخدمت الإضاءة المزدهرة والألوان الفاتحة في مشاهد الحب، وعكسها في مشاهد الصراع بينهم.وسيطر على رؤية المسار الأول والثاني الطابع «ما بعد الحداثي» في تكوين الصورة، فمن أول مشهد يعلن فورد الرغبة التمردية حتى على مهنته الأصلية كمصمم أزياء وعلى الرؤية الكلاسيكية للجمال. ففي المشهد الأول وهو العرض الفني المسئولة عنه سوزان، تظهر نساء عاريات بأجساد بدينة يلبسن القبعات والأحذية فقط، واللوحات والصور السريالية على حواف الصورة. وأخيرًا تقديم الجريمة العبثية المفتقدة للدوافع الواضحة وحالة فقدان الأمان باستخدام الرؤية البصرية لأفلام الكاوبوي.

ثلاثة أدوار تمثيلية

من فيلم "Nocturnal Animal"
بوستر فيلم «Nocturnal Animal»

من العلامات الواضحة في الفيلم تميز طاقم التمثيل، وليس المقصود بطاقم التمثيل الأبطال الرئيسيين فقط، بل كل من ظهروا في الفيلم ولو لمشهد واحد. وهذا يوضح حسن اختيار فورد لفريق التمثيل وقدرته على قيادتهم. «مايكل شانون» تميز في تأدية دور ضابط البوليس المعتل صحيًا الذي لا يهمه سوى تحقيق العدالة حتى لو بعد سنوات، لا يهمه مخالفة القانون إذا وقف حائلاً أمام تحقيق العدالة، لم يظهر شانون سوى في أحداث الرواية وفي مشاهد قليلة ولكنه استطاع وضع نفسه ضمن أبطال العمل بتميز تجسيده.أما «أيمي آدمز» فعلى الرغم من أن كل الأحداث تدور حولها، فهي التي تقرأ الرواية وتتخيل أحداثها، ونعود معها للماضي لنعرف قصة حبها مع إدوارد، ونعيش معاناتها مع زوجها الحالي. ولكن كانت مشاهدها الملحمية قليلة، فهي لم تتواجد في أحداث متفجرة أو في مباريات تمثيلية مع أبطال آخرين كثيرًا، ولكنها صنعت هذه المشاهد المتفجرة في مشاهدها المنفردة، فأغلب مشاهدها الهامة كانت وحيدة ولم تكن مطالبة إلا بمحاولة عكس مشاعر الارتباك والحزن وخيبة الأمل وهي تقرأ الرواية أو وهي تتذكر الماضي أو وهي ترى زوجها لا يهتم بها، استطاعت تأدية هذا الدور المعقد ببراعة شديدة، وصنع لحظات تمثيلية خاصة بها.أما «جاك جلينهال» نستطيع القول إنه الممثل الأكثر تميزًا، فعلى الرغم من أنه يؤدي شخصية أقل أهمية من شخصية سوزان، ولكن بموهبته التمثيلية المتفجرة استطاع جلينهال أن يجعلنا نتخيل أنه بطل العمل الأول والأوحد في لحظات عديدة. فبرغم تميز جميع الممثلين إلا أنه كان الأكثر تميزًا، كل تحولات الشخصية رأيناها تنعكس على وجهه، مشاعر الخوف والضعف والغضب والقوة والانتقام والإرهاق رأيناها في نظرات عينه فقط، كل المباريات التمثيلية بينه وبين بقية الممثلين فاز بها. جاك جلينهال يستحق ترشيحًا لجائزة أفضل ممثل إن لم يكن هو مستحق الجائزة، وهو يثبت كل عام أنه من أكثر أبناء جيله موهبة.فيلم «Nocturnal Animal» يعد أحد أهم أفلام العام، نجح فيه «توم فورد» كمخرج وسيناريست، وإدارة مميزة لطاقم التمثيل واختيارات متقنة على مستوى الصورة. لم ينقص من قدر الفيلم سوى نهايته الغامضة، فهي ليست غامضة بالمعنى الإيجابي بل بالمعنى السلبي، فتظهر على النهاية علامات الارتباك وكأن فورد فُرض عليه إنهاء الفيلم وعدم استكمال الأحداث. بالتأكيد للنهاية معنى ولكن الارتباك الواضح في تنفيذها لم يجعل في يد المشاهد الكثير من المفاتيح للوصول لمعناها أو حتى معانيها المحتملة.