أتعلم تلك اللحظة، عندما ترى حادثًا مروّعًا على قارعة الطريق، يُبطيء سيل السيارات حد التوقف، الجميع لا يقاوم اختلاس نظرة للحدث وتوثيقه، أردت أن أصنع فيلمًا عن تلك اللحظة.
جوردان بيل

يبدأ فيلم NOPE بمشهد مُقبض لأستوديو تصوير مُحطم، جُثث مُسجاة، فوضى مُخيفة يتوسطها قرد ودود أمام الكاميرا، يكسو الدم وجهه ويديه، وفردة حذاء تقف مُنتصبة مثل مُعجزة سيئة.

ننتقل لمزرعة خيول يُديرها الأب «أوتيس هايوود» وولده «أوتيس جونيور»، لا يوجد أستوديو أو كاميرا هنا لكن لا يخلو السياق من لمحة هوليوودية، نعلم أن المزرعة تُزود أستديوهات هوليوود بالخيول اللازمة للتصوير، تسقط شظايا من السماء في عاصفة مُفاجئة، من ضمنها عملة تجد طريقها بشكل سحري لتخترق جمجمة الأب ويموت على إثرها، فيما يُشبه أيضًا المُعجزة السيئة، تتطور الأحداث ليجد الابن «أوتيس» وأخته «إميرالد» أنفسهما يُديران عمل المزرعة وسط أزمة مالية تقودهما لبيع أحد خيولهم المٌفضلة لـ«ريكي جوب» الذي تقوم مزرعته المُجاورة بعروض ترفيهية ويحتاج لشراء الأحصنة.

يحقق «جوب» وصال المٌشاهد مع الحبكة الأولى المُبهمة أو مشهد القرد الدموي، نعرف أنه في طفولته كان بطلًا لعرض تلفزيوني يُشاركه فيه قرد مُحبب للجمهور يُدعى «جوردي»، قرد جن جنونه يومًا وقتل الممثلين وكل من جرؤ على النظر له خلال تصوير إحدى الحلقات، لم ينج من المذبحة سوى «جوب» الطفل الذي اختبأ أسفل المنضدة وأشاح النظر عن القرد وتعلق بصره بفردة حذاء تقف منتصبة كأنها تتحدى الجاذبية مثل معجزة سيئة، لكنها معجزة أنقذته في النهاية. 

تتطور الأحداث بظواهر خوارقية تحدث في سماء مزرعة آل أوتيس، تصل ذروتها بمخلوق فضائي يشبه الطبق الطائر يبتلع بجاذبية مخيفة الخيول والأحياء وكل من يجرؤ على النظر لأعلى وبعدما يُنهي هجماته الافتراسية، يختبئ في غيمة تجثم فوق المزرعة دون حراك. 

تزخر السينما الهوليوودية بأفلام UFO أو تيمات الغزو الفضائي التي تنتهي عادة حبكتها بعقد وصال أو صداقة مع الكائن الفضائي مثل ARRIVAL وE.T أو بطولات فردية للبشر في الفرار أو القضاء على الغزو الشرير مثل WAR OF WORLDS وCowboys & Aliens

في NOPE  لا يفر الأخوان أوتيس من الجحيم، لا يٌصادقاهن، لا يواجهانه، بل يُفكران في تصوير المخلوق لأجل الربح والأضواء، صورة تضمن لهما مقعد استضافة في برنامج أوبرا الشهير، صورة تُغير حياتهما للأبد!

هوليوود وحشًا مجازيًا

وَأَطْرَحُ عَلَيْكِ أَوْسَاخًا، وَأُهِينُكِ وَأَجْعَلُكِ عِبْرَةً
سفر ناحوم-العهد القديم

يُجيد المخرج «جوردان بيل» صنع سردية تُشبه عروس الماتريوشكا الروسية، كل حبكة تُخفي في طياتها حبكة أكثر عمقًا، يتشارك المخلوق الفضائي بطل الحبكة الرئيسية والقرد بطل الحبكة الثانوية شعور واحد هو الاغتراب، كلاهما كائن مُفعم بالحياة والصدق وعدم التصنع لكنه مؤمم ومُستلب بالكامل لصالح عرض لا يفهمه، كلاهما خارج السياق الدموي والوحشي الذي يُصاحب حضورهما يُمارسان كينونتهما لا أكثر يحاولان النجاة والتغذي وخلق مساحة هيمنة مثل التي يحاول خلقها أسد محاصر في قفص، كينونة مرتعدة أمام مسرح لا تفهمه وبيئة لا تشبهها أضواؤها غامرة، كل الكاميرات والعيون مصوبة عليها.

في حبكة قوامها مخلوق فضائي وقرد متوحش يجعل بيل منطق هوليوود الذي اختزل كل شيء في مدى جودة العرض الاستعراضي المُمكن توليده منه، هي الوحش المجازي الأهم في الحكاية والأكثر خفاءً.

يُقدم «جوردان بيل» الأخوين أوتيس باعتبارهما من الشغيلة، هوليوود خلية نحل، نجومها هم ملكة النحل، وعروضهم هي العسل المُقطر، لكنها ككل خلية نحل تحتاج الشغيلة المجهولين، المُصورين ورجال المؤثرات والمُخاطرات وعمال الأستوديو وصولًا لقاع هرم الشغيلة، عمال الخيول الذين يُعاملهم الجميع بمزيج من الازدراء وعدم الاكتراث.

يحيا الأخوان على أسطورة تعويضية لموقعمها المتدني في هيراركي هوليوود، أنهما يأتيان من نسل الرجل الأسود الذي قاد حصانه في أول صور متحركة صنعها  Eadweard Muybridge عام 1878، في إشارة مجازية لهوليوود التي قامت على أكتاف شغيلة لم نعرف حتى أسماءهم، لم نهتم كمشاهدين عبر العصور سوى بمشهدية الحركة في الصورة القديمة ونسينا أن نتذكر اسم المؤدي فيها الذي يتسيد الكادر، تُحاول الأخت إميرالد أن تستغل الدقيقة التي تشرح فيها كيف يعامل الممثلون الخيول في طرح أسطورة عائلتها والترويج لنفسها كفنانة وراقصة، تحاول تقديم كينونتها كاملة كعرض ترفيهي في إيقاع متسارع عسى أن يراها أحد وينتشلها من قاع الخلية لشهد الملكة، لكنها تفشل ولا تنال سوى نظرات تستهجن قدر إلحاحها المثير للشفقة لتنتمي لهم.

لذا لا ترى «إميرالد» في حضور مخلوق فضائي لعالم المزرعة خطر وجودي، بل فرصة مثالية لدخول عوالم الشُهرة، صورة واحدة له تكفي ليحتفي بهم عالم الأضواء، ليتوقفوا عن أن يكونوا شغيلة للأبد، وينتموا للنُخبة التي يُمكن تعريفها على الطريقة الأمريكية بأبسط تعريف ممكن، «أن تستضيفك أوبرا وينفري»، أيقونة الشهرة التي تُعمد ضيوفها على طريق النجومية للأبد.

في عام 1952 قدم «إرنست هيمنجواي» إحدى روائع الأدب «العجوز والبحر» التي تدور حول صراع صياد عجوز مع سمكة متوحشة في عرض البحر، صراع يغيب عن شهوده الجميع، نحن مأسورون طوال الرواية لمُحادثة صادقة بين الإنسان والطبيعة في خلاء غير منظور، تنتصر إرادة الصياد ويٌخضع السمكة ويربطها بقاربه لكن في رحلة العودة تنهش لحمها القروش الجائعة، يصل الصياد لجزيرته بهيكل السمكة، لا دليل على عنفوانها وقوتها السابقة، لا شاهد يوثق معجزة اصطياده لها، يذهب الصياد لمنزله ويسقط في نوم راض غير عابئ، يغط الصياد في النوم وقد أثبت لنفسه أنه لم يمت بعد، كان صيد تلك السمكة تحققه الإنساني الأمثل. 

تأتي قصة «جوردان بيل» لتقلب هذه القصة التي تحتفي بالإنسان رأسًا على عقب، الأخوان أوتيس على مدار الحكاية لا يُحاولان اصطياد الوحش دفاعًا عن أنفسهما أو الآخرين ولا يحاولان حتى الهروب وتحذير الجميع في استجابة إنسانية سخية تخلو من الأنانية، إنما يُحاولان الاستئثار بمجد لقطة مع الوحش حتى أنهما يجتهدان في إحاطة محاولاتهما بالسرية عن عيون الشرطة والصحافة وفني الكاميرات الفضولي الذي يحاول أن يفهم ما يفعلونه، لم يهتم الصياد في القصة باستقبال قريته له أما كل ما يهم الأبطال هنا هو العودة بمجاز عن الصيد، بصورة، باستعراض، هذا ما يصنع وحشية هوليوود كجنة تُغري الجميع في سبيل الانتماء لها أن يطرحوا جوهر إنسانيتهم جانبًا، أنها جعلت مجاز التحقق الإنساني، ليس ما يمكنك تحقيقه، ليس ما هو صائب، بل ما يمكنك عرضه ومشاركته. 

ندرك من سياق الأحداث أن «جوب» كان يعلم كذلك بالمخلوق الفضائي، ليس ذلك وحسب بل إنه يُدمجه في عرضه الترفيهي، جوب الذي خسر مجده الهوليوودي في طفولته بقرد مجنون أنهى مسيرته لكنه منحه نجاة هوليوودية كذلك، يظن نفسه مُميزًا كفاية ليُعيد الكرة ويروض الوحش، يدير جوب عرضًا ترفيهيًا في مزرعته بطلها مخلوق مُرعب يسكن غيمة.

ينتهي العرض كل مرة بتقديم الخيول كوجبة للمخلوق الفضائي وسط تصفيق جمهور مٌنتش، لا يفكر جوب أن ما أنقذه في الماضي ربما براءته كطفل، ربما قدرته على خلق تواصل أكثر صدقًا مع الحيوان الذي تم استلابه وتدجينه لصالح كاميرا، وسط المذبحة حاول القرد أن يصافح جوب الطفل بالقبضة المضمومة كأنه يمنحه امتنانه لبشري واحد رآه على حقيقته، كأن طفولة جوب البريئة كانت هبة منحته القدرة على وصال الوحش بحقيقته دون اصطناع هوليوودي، لكن يكبر جوب ليتخلى عن تلك الفرادة الإنسانية، يُعيد تأويل تلك الهبة بما يفرغها من إنسانيتها ويؤمم مخلوقًا أكثر روعًا لصالح عرض رخيص يشبه أطلال مسلسله الشهير، يُحضر فتاته، التي ندري من دمامة مظهرها أنها زميلته في العرض التلفزيوني التي أحبها في طفولته التي مزق القرد وجهها خلال جنونه، لتراه نجمًا من جديد حتى لو في عرض ويسترن بمزرعة صحراوية.

 لكن ينتهي العرض بالمخلوق الفضائي وقد ابتلع المشهد بأكمله، المتفرجون والمُقدم الترفيهي والمسرح في استعادة أكثر روعًا لمشهد القرد، لم ينجُ جوب تلك المرة، لم تحضر معجزة سيئة لإنقاذه ولم يُظهر له الوحش رحمة لأنه لم يُظهر للوحش وجهًا رحيمًا كوجه طفولته.

لذا يبدأ «بيل» فيلمه باقتباس مخيف من العهد القديم:

سأقذف قذارة مقيتة عليك، سأجعلك حقيرًا
وأيضًا سأمنحك عبرة ومشهدية.

الوحوش في تلك الحكاية صادقة، مطيعة لما جُبلت عليه من غرائز بدائية، أما البشر في تلك الحكاية فتخلوا عن إنسانيتهم، لصالح وحش مجازي هو هوليوود وقبلوا صفقة فاوستية هم فيها أكثر حقارة، لكنها صفقة ستمنحهم المشهدية والمشهدية هي كل ما تدور حوله هوليوود، أن تقدم عرضًا خلابًا يأسر المتفرجين مهما كان ثمنه ومهما استلب كينونة مُقدميه.

هوليوود جمالية لا تبلى

الفيلم عن هوليوود بشكل كبير وكيف تظهر الميثولوجيا خاصتها؟ نحن نحيا معجزة سيئة…لكنها معجزة.
جوردان بيل

يقول أحد أبطال الفيلم «براندون بيريا» أن المخرج طلب منه قبل قراءة النص مٌشاهدة أفلام مثل jaws وClose Encounters of the Third Kind و001: A Space Odyssey وno country for old men 

يضيف جوردان بيل أنه فكر في صناعة nope في لحظة كانت فكرة الرجوع للسينما محل سؤال، أراد أن يصنع فيلمًا spectacle مشهديًا يُجبر الناس على العودة لسحر السينما.

لذا يقدم Nope في تنفيذه تحية لجونرات شتى مثل رعب الفك المفترس وعوالم سبيلبرج وكوبريك الفضائية وكل تراث الويسترن، لو كانت هوليوود إنجيلًا فهو يقدم كل أنبيائها، وهذا ما قاله في تصريح بالفعل أن الفيلم يستعيد ميثولوجيا هوليوود في صورة كاوبوي أسود البشرة يُطارد أطباق طائرة.

هنا نفتح الماتريوشكا ونتعمق في مستوى آخر من التحليل، هل الفيلم يُدين هوليوود بشكل خطابي وحسب؟ لو كانت هوليوود وحشًا ما الذي يجعلها كذلك؟

 نرى الوحش الفضائي في لمحة أكثر اقترابًا في النهاية وفمه يشبه حركة الكاميرا، حركة جذابة يصعب أن يقاومها الضحايا، كأن الوحش بنظرة أخرى هو السينما ذاتها، كيان عملاق في مركزيته فوهة كاميرا تنفتح وتنغلق ومع حركتها تتخلق الحكايات.

 لا يُدين بيل هوليوود كوحش قبيح وحسب، إنما كذلك يمنحها حقها كوحش جمالي يفيض سحرًا ولذا لا يُمكن مقاومته، كأنه يقول إن السينما قوة جمالية لها وحشيتها لكنني لم آت للإدانة الإنجيلية والأخلاقية إنما لاستعراض تلك المشهدية، مثلما يبتلع الوحش الجميع في جاذبية لا تقاوم، سيحضر المشاهدون لهذا الفيلم الذي يحتفي بكل ما جعل هوليوود وحشًا جذابًا، يقدم الفيلم الإدانة والمشهدية معًا. في زمن صارت فيه عودة السينما لطبيعتها جديرة بالمساءلة يُخاطر جوردان بيل بتقديم ذاكرة هوليوود كاملة في قالب رعب مُثير، ستظهر السينما على شاشته كوحش يزأر حتى يبتلع بسحره كل المتلقين ليوقنوا أنه خالد ولن يزول.

المشهد المثالي لتحقق تلك الرسالة هو المخرج «انتلرز هوست» الذي استقدمه الأخوان لتصوير ما سماه اللقطة المٌستحيلة، يُحطم الوحش الفضائي في حضوره المجال الكهربي لكل ما حوله، وهذا يجعل التقاطه بكاميرات المراقبة أو الديجيتال محاولة مُستحيلة، لذا يأتي المخرج بشغف جنوني وكاميرا بدائية ويصور الوحش بخطة جهنمية يعرض فيها الجميع حيواتهم للخطر في سبيل مجد اللقطة المستحيلة، لكنه عند معاينة حضور الوحش الخلاب لا يكتفي، يُضحي المخرج بنفسه ويُغري الوحش ليأتي له حتى يبتلعه كثمن قليل للقطة مثالية هو فيها وجهًا لوجه معه، يموت المخرج سعيدًا والكاميرا على كتفه وهو يصور لقطة مُستحيلة لجوف الوحش، يعلم أن أحدًا لن يراها، أو على حد قوله لا أحد يستحق أن يراها، هنا المجاز في صورته الكاملة عن هوليوود أو الفن كرسالة تحقق، تبتلع حتى أفرادها. الأفراد هنا لا يصنعون سينما تُسليهم بل الجميع ضحية وقربان عرض مثالي، حتى لو لم يشاهده أحد. مثل خلية نحل تفرز عسل في صحراء، لن يأتي أحد لتذوقه، لكن كمال تحقق النحل هو تقديم عرض مذهل نهايته العسل. 

هنا جمالية جوردان بيل في تقديم ماتريوشكا تدين السينما على سطح وتدافع عن جماليتها في عُمق آخر كوحش من العهد القديم، كمال ألوهيته في تحطيم كل ما حوله ليثبت فرادته.

هوليوود سحر لا يموت

قوة القصة السينمائية أكبر بكثير من قوة المُحادثة المنطقية.
جوردان بيل

في نهاية الفيلم نتابع كفاح الأخوين لالتقاط الصورة المثالية، نلهث خلفهما، نتمنى أن يتحقق هدفهما غير الإنساني بالأساس، تأسرنا الحكاية حتى نصير جمهور مُتحمس لها، تلك لحظة مجازية يبتلعنا فيها وحش غير مرئي، هو جمالية الحكاية، تلك المشهدية الكبرى لـnope أنك بينما تستمتع بحكاية تحوي باثولوجيا أو هاجس مرضي واضح أنت تقدم نفسك كضحية مستمتعة لوحش عملاق هو السينما. ذلك القربان لا ينتهي وهو ما يراهن عليه بيل في الدفاع عن السينما كشيء لن يزول.

في الأساطير اليونانية توجد «ميدوسا» الوحش الأسطوري الذي لو نظرت له ستصير حجرًا، ينتصر عليها  المُحارب «برسيوس» بأن يراقب تحركاتها في انعكاس درعه دون النظر لها، يقدم لنا بيل الحياة كوحش لا نقاوم النظر له إلا عبر انعكاس هو السينما، السينما هنا وسيلة نجاة، لكنها وسيلة هلاك كذلك لو استعبدنا هذا الانعكاس حتى نسينا أن الحياة لا تحدث إلا خارجه، تلك جمالية nope أنه فيلم يقدم السينما وهوليوود في عنفوان جمالها ووحشيتها، وسيط إلهام وإنقاذ، كذلك وسيط إهلاك وغرق، في قوة مشهديتها التي قد يكون ثمن صنعها هو جوهر مقيت استلابي غير إنساني، فيلم يقدم تحية للسينما وإدانة، وبينهما متعة يصعب ألا تستسلم لها.