عندما وضعت الحرب الكورية أوزارها عام 1953 وجدت كوريا الشمالية نفسها عالقة في خضم توازنات جيوستراتيجية بالغة التعقيد بين حليفين صيني-سوفياتي وجوار معادٍ ياباني-كوري جنوبي في معية الحاضنة الأمريكية.

خلال العقود الست التالية لنشأتها سعت بيونج يانج لاستغلال التناقضات في مصالح تلك القوى، بحثًا عن موطئ قدم في خريطة إقليم شرق آسيا. مهمة لم تكن يسيرة في ظل التطورات السلبية التي دبَّت في المعسكر الشيوعي بعد وفاة ستالين، ثم سياسات الإصلاح والانفتاح التي نقلت التفاعلات الاقتصادية في قطبه الصيني الأول إلى مربع العالم الرأسمالي، وسياسات الشفافية وإعادة البناء التي مهدَّت الطريق لأفول قطبه السوفياتي الثاني وانسحابه من خريطة القوى العظمى لصالح الوريث الجديد، روسيا الاتحادية المعولمة.

وسط تلك التفاعلات الإقليمية المضطربة سعت كوريا الشمالية إلى صوغ تعريفٍ دقيق لمهامها الوظيفية، واستثماره في الضغط على البيئة الإقليمية، تارةً للحصول على أفضلية عسكرية على الجارة الجنوبية بحيازة ترسانة نووية، وأخرى لضخ مساعدات تنموية في اقتصادها المأزوم بما يحول دون انهيار نظامها.

في نهاية المطاف نجحت كوريا الشمالية بشكل استثنائي، ليس فقط في بناء منظومتها من أسلحة الدمار الشامل، بل تجاوز مصفوفة من الأزمات المحلية العاصفة بقدر من المراوغات الدولية غير المكلفة استراتيجيًّا، إلى أن أدركت غايتها بالجلوس على طاولة مفاوضات ثنائية مع واشنطن في قمتي سنغافورة وفيتنام التاريخيتين، أين التقى ترامب بكيم يونج أون.

لم يدم الوفاق الأمريكي-الكوري الشمالي لأمد طويل، إذ انتهت القمة الثانية في فيتنام فبراير/ شباط 2019 في موعد أبكر مما تقرَّر لها، وسط خلافات حادة بين وجهتي نظر البلدين فيما يتعلَّق بمفهوم تفكيك الترسانة النووية، بين مقاربة أمريكية ترمي إلى التفكيك الفوري والشامل والقابل للتحقق، وأخرى كورية شمالية ترغب في وقف التجارب النووية والصاروخية مقابل الحصول على امتيازات اقتصادية فورية.

تدهور تجلَّى خلال الأسبوعين الماضيين مع توجيه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون انتقادات لمسار المفاوضات، وهو الأمر الذي عدَّته كوريا الشمالية بمثابة الـ «تصريحات غبية»، ولم يتوقف الأمر عند حد التصعيد الكلامي، إذ أجرى الجيش الكوري الشمالي تجربة جديدة لما وصفه بالسلاح التكتيكي في أول تجربة علنية منذ انعقاد القمة الأمريكية-الكورية الثانية في فيتنام.

في تلك الأجواء الضبابية توجَّه الزعيم الكوري الشمالي كيم يونج أون على متن قطاره المصفح أخضر اللون إلى فلاديفستوك الروسية يوم الخميس الماضي، لحضور القمة الأولى التي تجمعه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لقاء وصفته المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا بأنه «تصحيح للأخطاء التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية في سلسلة كاملة من المواضيع»، وهي الخطوة التي تؤشر على نية كوريا الشمالية توظيف الحلفاء الإقليميين كورقة ضغط على واشنطن، أملًا في الحصول على مزيد من التنازلات، قبيل انعقاد الجولة الثالثة من المفاوضات المُقرر لها نهاية العام الجاري.

الأسطر التالية تستعرض تطوُّر البرنامج النووي الكوري الشمالي، والمراوغات التكتيكية التي ضمنت لتلك الدولة الصغيرة موقعًا حيويًّا على خريطة إقليم شرق آسيا الذي يضم أقطابًا اقتصادية يصل مجموع ناتجها القومي إلى 19 تريليون دولار، ومآلات المسارات التفاوضية السابقة ومستقبل العملية الراهنة.

اقرأ أيضًا:كوريا الشمالية: ورقة الصين الرابحة لعرقلة ترامب


يونجبيون: أطول فشل دائم في سجلات المخابرات الأمريكية*

كوريا الشمالية
عرض عسكري، كوريا الشمالية

مساء الخامس عشر من يونيو/ حزيران عام 1994 استدعى الرئيس الأمريكي بيل كلينتون كُلًّا من وزير الدفاع وليم بيري ورئيس هيئة الأركان المشتركة جون شاليكاشفيلي إلى مكتبه في البيت الأبيض. هيمنت كوريا الشمالية على الجلسة السرية الطارئة، بعد أن نما إلى علم الاستخبارات المركزية اعتزام بيونج يانج نقل بعض قضبان الوقود النووي، والتي تحوى كمية من البلوتونيوم تكفي لإنتاج خمس أو ست قنابل نووية، من مفاعلها البحثي في يونجبيون إلى جهة غير معلومة.

سرعان ما طلب بيري من مساعده آشتون كارتر تقديم بدائل للرد العاجل، والتي جاءت في الأخير متمحورة حول ثلاثة خيارات؛ أولها سعي الإدارة الأمريكية إلى تمرير عقوبات جديدة على النظام الكوري الشمالي في مجلس الأمن، بيد أنه كان خيارًا محفوفًا بالمخاطر، إذ سبق أن حذَّرت بيونج يانج من أنها سوف تعتبر فرض عقوبات جديدة بمثابة إعلان حرب. ثانيها تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في الشطر الجنوبي من شبه الجزيرة الكورية، والذي دشَّنته واشنطن تدريجيًّا عقب انتهاء الحرب الكورية بترسانة اشتملت على صواريخ أونست جون أرض-أرض، ذخائر التدمير الذرية، مدفعية 8 مللي، قنابل الجاذبية للطائرات و950 رأسًا حربيًّا من تسعة أنواع، ويحتاج كلينتون الآن إلى توسيعه بإرسال 10 آلاف جندي إضافي وقاذفات قنابل بعيدة المدى.

أما ثالث الخيارات وأكثرها خطورة، فقد ارتكز على قيام واشنطن بتوجيه ضربة استباقية مفاجئة إلى كوريا الشمالية، تستهدف المواقع النووية في يونجبيون، وهي الخطة التي خُصص لها حشد من 1.1 مليون جندي، بواقع 500 ألف جندي أمريكي، 600 ألف جندي كوري جنوبي، فضلًا عن 37 ألف جندي متمركزين في القواعد الأمريكية في اليابان. تراجعت الإدارة الأمريكية بعد أن قدَّر البنتاجون سقوط 52 ألف جندي أمريكي في المرحلة الأولى من القتال، مع ارتفاع الخسائر البشرية بين المدنيين في كوريا الجنوبية إلى مليون، فضلًا عن خسائر في الاقتصاد العالمي تناهز تريليون دولار. كانت تلك المرة الأولى التي تصطدم فيها واشنطن بحقيقة مفادها، أن كوريا الشمالية أصبحت تمتلك من أدوات الردع ما يجعل الخيار العسكري في مواجهتها أمرًا مستحيلًا [1].

تعود قصة بناء القدرات النووية الكورية الشمالية إلى خمسينيات القرن الماضي. آنذاك بدأت الجارة الجنوبية في عهد الرئيس سينجمان تطوير برنامج نووي، بإصدار سلسلة من القوانين الخاصة بالطاقة الذرية، وإنشاء مكتب الطاقة الذرية التابع مباشرة لرئيس الجمهورية ومعهد بحوث الطاقة الذرية عام 1959. أعقب ذلك إنشاء مفاعل صغير للبحوث من طراز تريجا مارك-2، ثم افتتاح شركة وستنجهاوس الأمربكية أول محطة كورية جنوبية تعمل بالطاقة الذرية لأغراض سلمية عام 1978.

وسط تلك المخاوف من حيازة الجنوب الكوري السبق في إنتاج السلاح النووي، اندفعت بيونج يانج إلى توقيع معاهدة التعاون مع الاتحاد السوفياتي، والتي تمكَّنت بمقتضاها من الحصول على مفاعل بحثي من طراز آي.آر.تي عام 1965. طيلة السنوات العشر القادمة سيعكف فريق مكوَّن من 300 باحث، بقيادة العالمين دون سان روك ولونج سان كي، على إنشاء مجمع أبحاث نووي يقع على بعد ستين ميلًا من العاصمة ويحمل اسم «يونجبيون»، وبفضل مخزون ضخم من اليورانيوم يصل إلى 40 مليون طن عالي الجودة نجحت بيونج يانج في تصنيع مفاعل 5 ميجاوات، بالإضافة إلى بناء مفاعلي 50 وم 200 ميجاوات في تاكيون.[2]

نجحت كوريا الشمالية في تحقيق أعلى درجات السرية خلال تلك الفترة رغم ترسانة الأدوات التجسسية التي استخدمها سرب الاستطلاع الجوي الخامس الأمريكي المتمركز في قاعدة أوسان الكورية الجنوبية[3]. لكن بحلول أواسط الثمانينبات ارتفعت الشكوك الدولية بشأن الجهود النووية السرية لكوريا الشمالية على خلفية اكتشاف مفاعلي تشغيل البلوتونيوم وإعادة المعالجة في يونج بيون. إزاء الضغط ردَّت كوريا الشمالية بالانضمام إلى معاهدة حظر الانتشار النووي، واستمرت لمدة سبع سنوات تالية في المماطلة بشأن منح الوكالة الدولية للطاقة الذرية حق تفتيش منشآتها، وحينما قبلت، كان أوان إجهاض أحلامها النووية العسكرية قد ولَّى، إذ أصبحت تمتلك كمية من البلوتونيوم المخصب يكفي لإنتاج قنبلتين نوويتين عام 1992.

وانطلاقًا من حقائق القوة الجديدة، كفَّت كوريا الشمالية عن المراوغة وعلَّقت انضمامها إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية في مارس/ آذار عام 1993. بيد أن السنوات القادمة ستُفاجئ صناع قرارها بما يجبرهم على إعادة التموضع من جديد.


الاتفاق الإطاري: الهروب من الحصار

بورتريه للزعيمين الأول والثاني لكوريا الشمالية

جرى كل شيء بسرعة مذهلة، رتل من الجنود يتقدَّم تجاه السوق، بهدف إلقاء القبض على رجل خالف القانون، تجمعت الحشود البشرية لترقب مصيره، ولم يتأخر جواب السلطات. انعقدت محاكمة شعبية، لم تدم أكثر من خمس دقائق، وفور انتهائها استقرت رصاصتان في قلبه. الرجل كان مزارعًا، وجريمته هي سرقة كيس من الأرز، في بلد محكوم بسياسة «سونكون» التي تُمنح بموجبها القوات المسلحة الأولوية المطلقة، بما في ذلك الحصول على المحاصيل الزراعية [4].

جرت عملية الإعدام في عهد كيم إل سونج، الذي أطلق عقيدة «الزوتشي» المنادية بثورة استقلالية شاملة على محاور أربع، الفكر، السياسة، الدفاع الوطني، والاقتصاد، وفي الشق الأخير كان يتعيَّن على أبناء شعبه تحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية. كانت كوريا الشمالية منقوصة من الخبرة اللازمة، فاندفعت موسكو طيلة الثمانينيات لمساعدتها عبر توفير قروض ميسرة للحصول على الأسمدة الزراعية، وما إن انهار الاتحاد السوفياتي حتى توقَّفت كل أشكال الدعم.

أزمة القيادة الكورية الشمالية باتت مضاعفة، فقدت حليفها الاقتصادي الأول الذي أمدَّها طيلة العقد الماضي بثمانية مليارات دولار من المساعدات، وأصبحت إثر ذلك ملزمةً بشراء كل مستلزماتها من الخارج، في وقت لم تكن تتوافر على العملة الصعبة. حاولت قبل ذلك تدبيرها بإصدار قانون المشروعات المشتركة مع الأجانب، بهدف جذب الاستثمارات الخارجية، بيد أن استجابة الجيران كانت ضعيفة، إذ بلغ عدد المشروعات 79، برأس مال لم يتجاوز نصف مليون دولار للمشروع الواحد.

وفي خضم تلك الأزمات المركبة باغتت موجة من الفيضانات الكاسحة بيونج يانج عام 1994 مخلفة دمارًا هائلًا نال 15% من الأرض الزراعية. انخفض العائد الزراعي، ولجأ الزراع لتخزين جزء من محصولهم بعيدًا عن أعين السلطات، التي ردَّت بالمصادرة وتطبيق عقوبة الإعدام على المتهربين من تسليم الحصص الزراعية الكاملة. في الأخير لم يمنع إعدام ذاك المزارع ومئات غيره من وقوع الكارثة الأعظم التي شهدتها كوريا الشمالية خلال الفترة بين عامي 1994-1998 … المجاعة التي فتكت بأرواح مليوني إنسان.

لم تترك الأزمة الاقتصادية للنظام الكوري الشمالي خيارًا سوى تقديم تنازلات للمجتمع الدولي، وبالأخص للولايات المتحدة، التي سارعت لفتح قنوات اتصال علنية بزيارة الرئيس السابق جيمي كارتر، بصفته الشخصية، إلى بيونج يانج وقيادة مسار تفاوضي أسفر عن انفراجة في الملف النووي بين الدولتين بتوقيع الاتفاق الإطاري عام 1994. بموجب الاتفاق قبلت كوريا الشمالية إغلاق مفاعل الخمسة ميجاوات ومصنع إعادة معالجة الوقود، كما أوقفت العمل في بناء مفاعلي 50 و200 ميجاوات، وتعهدَّت بفتح منشآتها النووية أمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

في مقابل ذلك تعهدت واشنطن ببناء مفاعلات نووية متطورة تعمل بالماء الخفيف، بهدف توليد بلوتونيوم أقل مما ينتجه النوع الجرافيتي، وبالتالي تحجيم قدرة كوريا الشمالية على إنتاج الأسلحة النووية مستقبلًا، على أن تتكفَّل كوريا الجنوبية ب 70% من إجمالي تكلفة تلك المفاعلات. إضافة إلى ذلك تبادلت واشنطن وبيونج يانج فتح مكاتب اتصال للمرة الأولى، على أن تتركَّز مهمتها الأساسية على تخفيف الحظر التجاري على كوريا الشمالية وإمدادها بالوقود خلال عشر سنوات قبل التفكيك الكامل للبرنامج النووي. [5]

دخلت سياسة الاسترضاء مرحلة جديدة في يونيو/ حزيران 2000 عندما توجه الرئيس الكوري الجنوبي كيم داي جونج في زيارة إلى بيونج يانج استمرت ثلاثة أيام، ومن هناك أعلن إطلاق «سياسة الأرض المشرقة» والتي تهدف إلى تحقيق الوحدة، البحث عن أرضية مشتركة بين الشمال والجنوب، وتسهيل لقاء مليون أسرة تضم 7 ملايين كوري، فرَّق التقسيم شملهم. كما أنشأت كوريا الجنوبية منطقة استثمار مشترك مع كوريا الشمالية، تُدعى «مجمع كايسونج الصناعي»، وتبعد مسافة 10 كم عن المنطقة المنزوعة السلاح بين البلدين، وبها طريق بري وقطار، ويعمل بها 123 شركة من كوريا الجنوبية ونحو 50 ألف عامل من كوريا الشمالية، كما ارتفع حجم المساعدات الإنسانية لتصل إلى 3586 مليار وان.

اليابان سعت بدورها إلى التقارب مع كوريا الشمالية، فتوجَّه رئيس الوزراء كويزومي إلى بيونج يانج في سبتمبر/ أيلول 2002، وأقر للمرة الأولى حق حصول كوريا الشمالية على تعويض مقدار 10 مليارات دولار، وهو ما يُعادل مبلغ 500 مليون دولار التي صُرفت لكوريا الجنوبية في الستينيات، مقابل اعتراف كوريا الشمالية باختطاف 11 مواطن يابانيًّا، ومقتل 7 منهم، وتعهدها بعدم تكرار تلك العمليات مستقبلًا.[6]

وما إن تمكَّنت كوريا الشمالية من تجاوز مجاعتها القاتلة حتى اندفعت إلى التخلي عن المناورة مع العواصم المعنية الثلاث، واشنطن، سيول وطوكيو. في عام 2002 زار مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشئون الآسيوية كوريا الشمالية وواجه مسئوليها بمعلومات حصلت عليها وكالة الاستخبارات المركزية بشأن مواصلة بيونج يانج تخصيب اليورانيوم، وامتلاك برنامج سري لتطوير الصواريخ، فما كان من كوريا الشمالية إلا أن أوقفت عمل بعثة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأزالت أختام الوكالة وكاميراتها في يونجبيون، وأعادت تشغيل مفاعل 5 ميجاوات، وأعلنت أنها لن تستمر في احترام وقف اختبارات إطلاق الصواريخ بعيدة المدى.

برهنت على ذلك بإجراء سبعة اختباراتٍ لصواريخ باليستية متوسطة وطويلة المدى من طراز هواسونج، وتفاخرت للمرة الأولى بوجود برنامج لتخصيب اليورانيوم وبناء قوة ردع نووية، ولم تمتلك القوى الغربية من رد سوى أنها أوقفت نصف مليون طن من وقود الزيت الثقيل، الذي كانت تحصل عليه كوريا الشمالية، تعويضًا عن توقف توليد الطاقة من المفاعلات. ثماني سنوات من عمر الاتفاق الإطاري كانت كافية لحصول كوريا الشمالية على 4 ملايين طن من الوقود ومليوني طن من الحبوب ومليار دولار من المساعدات، تتجاوز بها مجاعتها الخانقة. ثماني سنوات كانت كافية أيضًا لمراوغة تكتيكية عادت بعدها إلى المربع الأول … قوة نووية لا تتنازل عن سلاحها مقابل مساعدات مالية وطاقاوية.


شرق آسيا: جغرافيا التحالفات المتناقضة

على بعد 92 ميلًا بحريًّا شمال شرق مدينة كيلونج بتايوان تقع إحدى بؤر التوتر الساخنة بين الصين واليابان، وهي عبارة عن سلسلة من الجزر التي تُطلِق عليها الصين اسم «دياويو» بينما تُسميها اليابان باسم «سينكاكو». وبينما تدَّعي اليابان أحقيتها في السيادة على الجزر، استنادًا إلى رواية مفادها أن البحرية الإمبراطورية اليابانية بسطت سيطرتها عليها عام 1895 في وقت لم تكن فيه مأهولة، فإن الصين تمتلك سردًا مغايرًا يرتكز إلى إعلان القاهرة عام 1943 الذي طلبت بموجبه لندن وواشنطن وبكين من طوكيو إعادة الأراضي المحتلة ومن بينها تايوان التي تقع الجزر ضمن نطاق منطقتها الاقتصادية البحرية الخالصة المُقدرة وفقًا للقانون الدولي بمائتي ميل بحري.

لا يمكن فهم الأهمية الاستراتيجية للجزر التي لا تتجاوز مساحتها 7 كم مربع، بمعزل عن أمرين، أولهما: أنها تُشكِّل نقطة ارتكاز في بحر الصين الشرقي الذي يضم في باطنه ثروات طاقاوية مُقدَّرة ب 160 مليون برميل نفط وتريليوني قدم من الغاز الطبيعي، وثانيهما: أن السيطرة عليها يضمن للصين بلوغ أقرب نقطة ممكنة من قاعدة فونتيما الجوية أين تتمركز القوات الأمريكية في أوكيناوا. أهمية دفعت طوكيو إلى تجاوز خط أحمر صينيًّا عندما أعلنت تأميم الجزر عام 2012، فردَّت بكين بإعلان إدخال الجزر ضمن السيادة الجوية الصينية، وإلزام كل الطائرات المحلقة بإعلان هويتها، وإلا أصبحت في مرمى نيران الدفاعات الجوية. جزر دياويو/ سينكاكو لا تُشكل رغم ذلك الهاجس الصيني الأوحد من اليابان[7].

في فبراير/ شباط عام 1995 نشرت الإدارة الأمريكية استراتيجيتها لشرق آسيا. أكدت الاستراتيجية المعروفة كذلك باسم تقرير ناي ضرورة تعزيز التحالف الأمني بين واشنطن وطوكيو عبر الإبقاء على وجود عسكري أمريكي في المحيط الهادي يُقدَّر بمائة ألف جندي، مع توفير اليابان الدعم اللوجيستي لتلك القوات، فضلًا عن التعاون في البحوث المشتركة من خلال برنامج الدفاع عن المسرح ضد الصواريخ المعروفة اختصارًا ب «تي. إم.دي».

إثر ذلك شرعت اليابان في بناء نظام دفاع صاروخي باليستي منذ عام 2003، فأدخلت ست سفن من طراز آيجس.بي.إم.دي، وأربع رادارات مثبتة من طراز إف.بي.إس 5، وست مجموعات صاروخية للدفاع الجوي من طراز باك-3، كما طوَّرت مع الولايات المتحدة إنتاج قذيفة اعتراض متطورة من طراز إس. إم بلوك 3، إضافة إلى ذلك رخصت طوكيو للبنتاجون نشر سفن حربية في قاعدة يوكوسوكا البحرية ووحدات باتريوت في قاعدة كايدنا الجوية ومحطة أرضية تكتيكية مشتركة في قاعدة ميساوا الجوية[8].

إلى جانب المخاوف من الدفاع الصاروخي، تخشى الصين أيضًا من القدرات النووية الكامنة لدى اليابان، والتي تؤهلها لتصبح القوة النووية الثالثة في العالم، إذا ما اتخذت قرارًا باستخدام الطاقة النووية لأغراض عسكرية، حيث تمتلك اليابان احتياطات من البلوتونيوم المنشطر تٌقدّر ب 47,9 طن، يوجد منها في الداخل 10,8 طن والباقي خارج اليابان، كما أن اليابان تواصل العمل على فتح منشأة لإعادة المعالجة في روكاشو، يمكن أن تبلغ طاقتها القصوى في إنتاج البلوتونيوم ثمانية أطنان سنويًّا، وهي كمية تكفي لإنتاج ألفي رأس حربية نووية. اليابان، رغم ذلك، ليس التحدي الصيني الأوحد في شرق آسيا.[9]

في العام الأول من اندلاع الحرب الكورية حسم ماو تسي تونج قراره بالانحياز إلى كوريا الشمالية. لم تقتصر محددات السلوك الصيني على تقاسم بكين وبيونج يانج التوجهات الأيديولوجية نفسها، بل امتدت إلى إدراك حقائق التاريخ القريب التي تُشير إلى أن شبه الجزيرة الكورية شكَّل دومًا رأس حربة للقوات الأجنبية في غزوها للصين. لم يكن بمقدور ماو السماح لواشنطن بإلحاق الهزيمة الكاملة بالقوات الشمالية، بما يعني حيازة الأرتال الأمريكية موطئ قدم على الحدود الصينية-الكورية الشمالية المشتركة والتي يبلغ طولها 416 كم، وما يصحب ذلك من احتمالية تعرض الصين لغزو أمريكي في وقت لم تكن الجمهورية الشعبية، المفتقدة لاعتراف دولي من القوى الغربية، تمتلك قوة ردع نووية.[10]

في الأخير دفعت بكين بمليون ومائة ألف من المتطوعين عبر نهر يالو للقتال في صفوف القوات الشمالية، ونجحت بعد أن تكبَّدت كلفة بشرية هائلة بنصف مليون جندي، في تجنب خبرتها التاريخية المؤلمة مع الغزو، وتأمين الحد الأدنى من مصالحها عبر تقسيم جغرافيا شبه الجزيرة الكورية إلى شطرين، أحدهما موال لها. بعد عشرين عامًا من الحرب دخلت العلاقات الأمريكية-الصينية مرحلة من الانفراج والتطبيع بزيارة الرئيس نيكسون إلى بكين ولقائه ماو تسي تونج، إلا أن ذلك لم يغيِّر من موقع كوريا الجنوبية في الاستراتيجية الأمريكية كنقطة ضغط متقدمة على الصين، إذ يتمركز 34 ألف جندي أمريكي في 33 قاعدة عسكرية في كوريا الجنوبية، آخرها معسكر هامفريز المؤلَّف من 513 مبنى، تمتد على مساحة 14.7 مليون متر مربع، بطاقة استيعابية بشرية تصل إلى 43 ألف عسكري ومدني.

في تلك البيئة الصراعية تشكَّل موقع كوريا الشمالية الحيوي في الاستراتيجية الصينية، كنقطة ضغط متقدمة على اليابان من جانب، وكمنطقة عازلة بين القوات الأمريكية المتمركزة في كوريا الجنوبية والأراضي الصينية من جانب آخر، وهو الموقع الذي أمَّن لكوريا الشمالية مكاسب جمة خلال العقود الأربع الأولى من نشأتها. على الصعيد الدفاعي وقَّعت بيونج يانج وبكين معاهدة الصداقة والتعاون والمساعدة المتبادلة، التي تضمن توافر مظلة عسكرية صينية لكوريا الشمالية حال تعرضها لهجوم عسكري. أما على الصعيد الاقتصادي فقد اعتمدت كوريا الشمالية التي لا يتجاوز حجم اقتصادها 28 مليار دولار على الصين كسوق يستوعب 85% من صادراتها، وكمستثمر تبلغ حجم أصوله في بيونج يانج 6 مليارات دولار.

بيد أن انتهاء الحرب الباردة حمل تطورًا مهمًّا بتقارب الصين وكوريا الجنوبية بعد توقيع معاهدة تطبيع العلاقات عام 1992، والتي فتحت باب التبادل التجاري بين البلدين على مصراعيه، ليُسجل خلال عقدين 300 مليار دولار، جعلت كوريا الجنوبية ثالث أكبر شريك تجاري للصين. هذا التطور دفع بكين إلى سلوك مسارين متوازيين، أولهما: التحلل جزئيًّا من الأكلاف الاقتصادية المتزايد لاعتمادية بيونج يانج بتقليص المساعدات التنموية وخفض العجز التجاري، وثانيهما: تخفيف التوتر بين الكوريتين من خلال عقد مائدة سداسية تبحث سبل إيجاد تسوية سلمية. وتأكيدًا لملامح التغير سمحت بكين جزئيًّا لوسائل التواصل الاجتماعي الناطقة بالماندارينية بنشر التعليقات التي تنتقد القيادة الكورية الشمالية دون تدخل، ووافقت على ثلاثة قرارات أممية تستهدف فرض عقوبات على بيونج يانج في يونيو 2009، يناير 2013، ومارس 2016.[11]

رغم ذلك، فإن المقاربة الصينية المعدَّلة لا تستهدف سوى تقليم النزعات الصدامية لدى قادة كوريا الشمالية بغية الحفاظ على منظومة السلام الحذر في إقليم شرق آسيا وبالتبعية سلامة الحدود الصينية من تدفق ملايين اللاجئين من كوريا الشمالية وسيولة المسارات البحرية التي تعتمد عليها ثلاثة أرباع التجارة الصينية، دون أن تندفع بكين إلى التماهي مع الأجندة الأمريكية الرامية إلى التفكيك الفوري والشامل والقابل للتحقق للترسانة النووية الكورية الشمالية، لأن في ذلك تعجيلًا بأسوأ كوابيس الصين في فنائها الشرق آسيوي … يابان آمن، كوريا موحدة وأمريكا متمددة.


عودة التحالف القديم: الأخ الأصغر يروض رفاقه

كوريا الشمالية
كوريا الشمالية

مرّت العلاقات الصينية-السوفياتية بطور من الصعود خلال فترة وجود ستالين على رأس السلطة في موسكو وتقديمه دعمًا واسعًا للصين إبان الحصار الذي فرضته عليها الأمم المتحدة عقب الحرب الكورية، أعقبه طور من الهبوط في فترة حكم خروتشوف الذي رمت سياساته إلى اجتثاث الستالينية وإعادة صوغ الماركسية الليننية على نحو أثار اعتراض الزعيم الصيني ماو تسي تونج.

ظلّ التوتر الأيديولوجي مكتومًا إلى أن اختار عام 1969 للإفصاح عن نفسه بأكثر الوسائل عنفًا، إذ اندلعت مواجهات عسكرية محدودة للمرة الأولى بين الحليفين السابقين على خلفية نزاع حدودي على جزيرة دامانسكي في نهر إيشوري [12]، لوّحت موسكو على إثره باستخدام السلاح النووي، فأعادت الصين صياغة المبادئ التوجيهية لاستراتيجيتها العسكرية، التي أصبحت تُعرف الاتحاد السوفياتي بأنه الهدف الرئيسي للعمليات الدفاعية.

كانت الصين تُدرك اختلال ميزان القدرات النووية لصالح موسكو، وتركّز موقفها على الحفاظ على القدرة على شن ضربة ثانية بعد ضربة سوفياتية أولى لتجريدها من قوتها العسكرية، ومن أجل تلك الغاية قامت الصين بتطوير قذائف داف-4، وداف-5 ونقلها إلى شنجهاي ومواقع أخرى في شمال غربي البلاد، ليكون بمقدورها استهداف عمق روسيا، التي اكتفت بمحاكاة سيناريو الحرب وتنفيذ هجمات على أهداف نووية صينية وهمية.

وجدت كوريا الشمالية نفسها في مأزق بين حليفين شيوعيين، الصين التي ساهمت بمجهودها العسكري في الحرب الكورية للحؤول دون سقوط كوريا الشمالية، والاتحاد السوفياتي الذي وفّر غطاءً ماليًا بـ15 مليار $ خلال عقدين مصحوبًا بظهير عسكري في الشرق الأقصى لحماية النظام الشمالي. وإزاء ذلك حافظت كوريا الشمالية على مسافة واحدة بين الصين والاتحاد السوفياتي، وتمكّنت من حصد مساعدات الطرفين، إلى أن بدأت سياسات الجلاسنوست والبيروسترويكا في عهد جروباتشوف، الذي أعاد صياغة المبادئ السوفياتية تجاه الصراع الكوري، على نحو يميل إلى مصالح الشطر الجنوبي، من خلال طرح تخفيض الوجود العسكري في الشرق الأقصى، والتفاوض بشأن منطقة منزوعة السلاح في كوريا، وقيام علاقات اقتصادية قوية مع كوريا الجنوبية.

جنت موسكو ثمار موقفها التعديلي بتدفق المساعدات الفنية والمالية من سيول، بينما اتهمتها بيونج يانج بالخيانة والعمل على عزل كوريا الشمالية، وكان ذلك إيذانًا بانهيار الدور الروسي في شبه الجزيرة الكورية، وانحسار أطرافه إلى معسكرين، صيني منفرد، وأميركي مدعوم بكوريا الجنوبية واليابان.

وبقدر ما أسفرت حقبة التسعينيات عن تغيرات جوهرية في علاقات روسيا وكوريا الشمالية، بقدر ما أفرزت تقاربًا بين روسيا والصين، حيث خفتت مسببات الصراع على قيادة المعسكر الشيوعي مع بداية التحول الاقتصادي في روسيا نحو الخصخصة والاندماج في المنظومة الرأسمالية العالمية، وهي الخطوة التي سبقتها إليها الصين قبل عقد ونصف مع إطلاق دينج شياو بينج سياسات الإصلاح والانفتاح. إفراغ الصراع الأيديولوجي من مضمونه ترافق مع جملةٍ من الأحداث الدولية التي سرّعت من تقارب الجانبين، حيث وجدت الصين نفسها معرضة لعقوبات أميركية مالية وعسكرية على خلفية مجزرة الميدان السماوي، بينما أضيفت إلى أعباء فشل التحول الاقتصادي في روسيا، فاتورة استراتيجية كبيرة بفقدان النفوذ العضوي السلافي-الأرثوذكسي في البلقان بعد حربي البوسنة وكوسوفو.

كان التقارب الروسي-الصيني حتميًا، إذ سارع الرئيس الصيني جيانج زيمين إلى موسكو لإبرام اتفاقية عسكرية مدتها خمس سنوات، فتحت الباب أمام مبيعات أسلحة روسية إلى بكين قيمتها مليارات الدولارات، بينما قدّمت الصين مساعدات عاجلة للاقتصاد الروسي عام 1998 بقيمة 540 مليون دولار عقب أزمة الروبل وخسارة 6 مليارات دولار من احتياطي العملة الأجنبية والتخلف عن سداد الديون المحلية.[13]

سرعان ما انتقلت العلاقات من مربع التضامن القسري إلى الشراكة الطوعية، حيث اعترفت موسكو بسيادة الصين على تايوان، واعترفت بكين بمحلية المشكلة الشيشانية، واتفق الطرفان على إعادة نشر قواتهما بعيدًا عن الحدود المشتركة عام 1996، حيث أعادت موسكو نشر قواتها بالقرب من الحدود الغربية تعبيرًا عن القلق إزاء توسع الناتو شرقًا، بينما أعادت بكين توجيه قواتها إلى مناطق عبر مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي.

ومع ارتفاع منسوب الثقة وقّع البلدان معاهدة حسن الجوار والتعاون الودي في يوليو/تموز 2001 والتي تنص على عدم ممارسة الضغط بين البلدين باستخدام الأدوات العسكرية أو الاقتصادية وحل خلافاتهما سلميًا في كل الأوقات. واستمرت الشراكة الاستراتيجية في التطور إلى أن بلغت مستوى قياسيًا في عام 2014 بتوقيع صفقة بقيمة 400 مليار$ تقوم بموجبها جازبروم الروسية بتزويد شركة البترول الوطنية الصينية بـ38 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا، بعد أن تقوم بتشييد خطوط أنابيب بقيمة 55 مليار دولار أمريكي.

طيلة تلك الفترة من التقارب الحذر وصولًا إلى الشراكة الاستراتيجية، لم تتدخل روسيا في الملف الكوري سوى من البوابة الصينية، إذ كانت موسكو تترك لبكين مهمة تمثيل المصالح الكورية الشمالية والدفاع عنها في المحافل الدولية، بينما احتفظت بسقف علاقات مع بيونج يانج، بدا متطورًا نسبيًا عن فترة قطيعة جورباتشوف، لكنه ظل دون المستوى الذي بلغته علاقات الطرفين إبان وجود الاتحاد السوفياتي.

ظلّ الأمر على حاله إلى أن اختارت بيونج يانج التعبير عن غضبها من مقاربة الصين التعديلية بقطع الاتصالات على المستويات الحكومية العليا، وإعدام أكبر حلفاء الصين داخل الحكومة الكورية الشمالية، جان سونج سك. في الأثناء كانت كوريا الشمالية إحدى الدول القلائل التي أبدت تأييدها علنًا للموقف الروسي في غزو أوكرانيا واحتلال القرم عام 2014، وهو الأمر الذي دفع موسكو، منفردة، للتصدي لمبدأ تشديد العقوبات على كوريا الشمالية في مجلس الأمن خلال نفس العام. لم يتوقف الأمر هنا، إذ سعى الطرفان لتطوير التعاون الاقتصادي عبر طرح مشروع «بوبيدا» والذي يمنح الشركات الروسية حق استغلال المناجم الكورية الشمالية، في مقابل استثمارات في بنية السكك الحديدية بقيمة 25 مليار دولار.

أربع سنوات من المراوغة بالورقة الروسية أسفرت في الأخير عن تعديل الموقف الصيني في لقاء جمع الرئيس شي جين بينج ونظيره الروسي بوتين في يوليو 2017، والذي انتهى إلى إصدار بيان تأسيسي لرؤية الطرفين لحل النزاع الكوري تستند إلى «مبدأ التجميد المتبادل» بإيقاف التجارب النووية والصاروخية الكورية الشمالية في مقابل إيقاف التدريبات العسكرية الأميركية -الكورية الجنوبية المشتركة.

بفضل تلك المراوغة تمكّنت كوريا الشمالية، ليس فقط من إعادة إحياء التحالف الثلاثي الكوري الشمالي-الصيني-الروسي، بل انتزاع تأمين نهائي لمقاربتها، في مواجهة سعي الإدارة الأمريكية الحالية إلى تفكيك كامل ترسانتها النووية.. تجميد مقابل تجميد، وفك للحصار مقابل تطبيع، وبينهما كوريا الشمالية الدولة المعترف بعضويتها في النادي الدولي، والتي ليس سلاحها موضوعًا للمساومات.


وختامًا يُدرك صناع القرار في كوريا الشمالية أن القيمة الاستراتيجية لبلادهم سوف تنتفي حال قبول المدخل الأميركي بتفكيك كامل الترسانة النووية، حتى وإن كان المقابل ضخ استثمارات مليارية. يستوي في ذلك الولايات المتحدة التي لن تجد مبررًّا للوفاء بالالتزامات الاقتصادية الموعودة، بينما النظام الشمالي محكوم بالانهيار في ظل تآكل شرعيته المستندة إلى مواجهة واشنطن، وكذلك الصين وروسيا اللتان توفران مظلة أمان دولية للنظام الشمالي، طالما أدّى وظائفه الحيوية في منع إعادة تشكيل جغرافيا عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

لا يوجد ما يُضطر كوريا الشمالية إلى اجترار تلك التنازلات، التي سبق ورفضتها، حينما كانت في أمس الحاجة إلى دعم اقتصادي دولي في أواسط التسعينيات، خصوصًا إذا ما كان بمقدورها تحصيل قدر أكبر من المكاسب إن احتفظت بموقعها النووي، وانتزعت اعترافًا دوليًا بشأنه، وأعادت تعريف أدوارها الوظيفية بالقدر الذي يسمح لها بالجمع بين الأضداد.

حجر عثرة صيني في مواجهة التمدد الأميركي في شرق آسيا والمحيط الهادي، واقتصاد منفتح محكوم بقبضة حديدية يسمح للولايات المتحدة بالانصراف عن أخطار المواجهة المباشرة في شبه الجزيرة الكورية إلى احتواء التمدد الصيني في بحر الصين الشرقي، وحديقة خلفية روسية تخوّل لموسكو استعادة دورها في إقليم شرق آسيا بعد قرن من الانهيار عقب الهزيمة العسكرية أمام اليابان في مطلع القرن العشرين، والانحسار إبان الحرب الباردة، والاختباء خلف الصين بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.


* توصيف استخدمه دونالد جريج، السفير الأمريكي السابق لدى كوريا الجنوبية.
المراجع
  1. The Last Time the US was on the Brink of War with North Korea, Amanda Erickson, The -١ Washington Post, August, 2017
  2. السلاح النووي بين مبادئ الشرعية وحتميات القوة: دراسة مقارنة للسياسات النووية لإيران وكوريا الشمالية، رانيا محمود طاهر، المكتب العربي للمعارف
  3. وسائل كوريا الشمالية العسكرية في حربها مع الولايات المتحدة، الهان هو ساك، سبتمبر ٢٠٠٣
  4. القائد العزيز، جان جين سونج، الدار العربية للعلوم ناشرون، الفصل الثالث: بلدتي الأم تغيرت، ص:ص ٦٩-٧٠
  5. الأرض المحرمة، كوريا الشمالية، تفاعلاتها الداخلية والخارجية، ستار جبار علاوي، دار العربي للنشر والتوزيع، الفصل الثالث: القدرات العسكرية لكوريا الشمالية، ص:ص ١٤٢-١٤٩
  6. المرجع السابق، الفصل الرابع: العلاقات الإقليمية لكوريا الشمالية، المبحث الثالث: العلاقات الإقليمية مع الأعداء، ص:ص٢١٨-٢٣٣
  7. العلاقات الصينية-اليابانية بين المتغيرات السياسية والثوابت الاقتصادية، باهر مردان، مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، جامعة بغداد، العدد ٥٧، أبريل ٢٠١٤، ص:ص١٩٧-٢٢٢
  8. صعود الصين، كتاب محرر، المركز القومي للترجمة، الجزء الثاني: الصين وأمن آسيا والمحيط الهادئ، الفصل الأول: المعضلة الأمنية الصينية-اليابانية وتحديات السياسة الأمريكية، ص:ص٢٧١-٢٧٦
  9. تطوير قوى الردع النووي في الصين: الدوافع والقضايا الرئيسية بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مؤسسة راند، الفصل الخامس: معضلات أمنية متداخلة ورؤية الصين للقوى النووية الأخرى (بخلاف الولايات المتحدة الأمريكية)، ص:ص٩٠-٩٥
  10. Small State, Big Influence, China’s North Korea Policy Dilemma, Tianyi Wang, Program of Asian Studies, Georgetown Uni, 2014
  11. تطوير قوى الردع في الصين، مرجع سبق ذكره، المشكلات القائمة بين كوريا الشمالية والصين، ص:ص٨٧-٩٠
  12. الشراكات الاستراتيجية في آسيا، توازنات بلا تحالفات، فيديا نادكارني، مركز الإمارات للبحوث والدراسات الاستراتيجية، الفصل الثالث: الشراكة الصينية-الروسية، ص:ص ٩٣-١٤٥
  13. المرجع السابق ذكره
  14. The China-Russia Entente and the Korean Peninsula, Jaewoo Choo,Youngjun Kim,Artyom Lukin and ١٤- Elizabeth Wishnick, The National Bureau of Asian Research, March, 2019.