يعود ميلان كونديرا في روايته الجهل إلى الجذر اللغوي للحنين، حيث نوستالجيا اليونانية مشتقة من المفردتين (نوستوس وألجوس) اللتين تعنيان «معاناة العودة». يكتب كونديرا أن النوستالجيا هي (المعاناة الناتجة عن الرغبة غير المشبعة في العودة). تظل الرغبة في العودة لما تحن إليه غير مشبعة حتى بعد العودة، لأن كل شيء تغير.

في أوديسة هوميروس، تنقضي الملحمة المؤسسة للحنين في الثقافة الغربية، في رحلة عودة عوليس إلى وطنه إيثاكا، في أشواق ما قبل العودة وتكاد تنتهي بعودته. لا يتوقف هوميروس كثيراً أمام ألم العودة، رغم أننا نعرف أن عوليس عاد كالغريب وقد أنكره حتى أقرب الناس إليه، زوجته وابنه.

يبدأ الإيطالي ماريو مارتوني أحدث أفلامه المعنون Nostalgia والمأخوذ عن رواية للكاتب أرمانو ريا من حيث انتهت الأوديسة. يعود بطله (فيليشه لاسكو) أو فيلي إلى مدينته نابولي غريباً كما عاد عوليس إلى إيثاكا، بعد أربعين عاماً من التيه بعيداً عن مدينته تنقل فيها من بلد لآخر حتى استقر في القاهرة. وفي التيه وجد لغة جديدة وإلهاً جديداً، اعتنق الإسلام وتزوج من مصرية وأسس شركته الخاصة، وها هو يعود أخيراً لرؤية والدته العجوز التي لم يرها طيلة زمن غيابه.

ثمة صدمة أولى تنتظره حين يعود إلى شقة طفولته، إذ يجدها مسكونة من غرباء، وحين يسأل عن والدته يعرف أنها تقيم في قبو البناية وأن أوريستي صديق صباه هو من فعل ذلك. يعود فيلي في لحظة صار فيه حيه لا سانتيتا في قبضة الكامورا، غارقاً في الفقر والجريمة والعنف المجاني. كل شيء قد تغير لكن عينيه الغارقتين في الحنين تنكران ذلك.

يبني مارتوني سرده عبر الجدل المتواصل بين تداعيات الماضي عبر ذاكرة الحنين وواقع اللحظة الراهنة، مستكشفاً الحنين هنا كفخ ومضيئاً الجانب المظلم لهذه العاطفة الخطرة.

طقوس العودة

يبدو فيلي في المشاهد الأولى كسائح غريب عن المدينة وغير منسجم مع المكان أو الناس. يضعه المخرج بعيداً داخل الكادر أو على أطرافه، لا شيء يشي بأنها مدينته أو أنه في بيته. في نهاية الليلة الأولى التي يتجنب فيها العودة إلى بيته، نشاهده واقفاً أمام بيته في آخر الليل وبابه مغلق أمام وجهه كأنه لم يعد بعد، حتى بعد اللقاء بوالدته ودموع لم الشمل، يظل هناك إحساس بشيء مفقود بينهما.

هناك طقوس يجب أن تؤدي ليستعيد العائد هويته السابقة، روابطه القديمة بالمكان والناس. لا بد من فعل طقوسي كالذي فعله عوليس في الأوديسة. يقتل عوليس خطاب بينلوبي الذي حاصروا قصره في غيابه مطالبين بيد زوجته. فعل القتل كان إعلاناً عن عودته واستعادته علاقته بزوجته.

هنا في فيلم مارتوني، يأتي الفعل الطقوسي حميمياً، حيث يقوم فيلى بتحميم والدته بعد ممانعة. «ما زلت طفلك الصغير» يخبرها كي تلين. طول زمن المشهد، تفاصيله الدقيقة ومزاجه البصري يحمل المشهد بما يتجاوز الفعل المادي. أنهما يستعيدان دفء العلاقة بينهما وإن تبدلت الأدوار. يذوب البعد بينهما شيئاً فشيئاً ويستعيدان اللمسة المفقودة بينهما. سرعان ما يخطف الموت الأم. يقرر فيليشه بعد وفاة الأم أنه سيبقى في مدينته. تستمر طقوس العودة باقتناء دراجة بخارية، نفس الماركة القديمة التي امتلكها في صباه ونشاهده معها في ذكرياته. يبدأ التجول بها في نفس الحارات والأزقة القديمة وكأنه يسير نفس الخطى مجدداً من أجل استعادة ما فقد.

الوحش في قلب المتاهة

من فيلم نوستالجيا - إخراج ماريو مارتوني
من فيلم نوستالجيا – إخراج ماريو مارتوني

-يوجد هنا حرق للأحداث-

نحن من صلب الماضي، نصفنا اختراع والنصف الآخر ذاكرة.
بورخيس

واحد من الأسئلة التي تلح على المشاهد كلغز منذ البداية هو لماذا لم يعد فيلي إلى نابولي ولو لمرة واحدة خلال العقود الأربعة الماضية؟ يؤجل مارتوني الإجابة عن هذا السؤال حتى منتصف الفيلم تقريباً، حين يعود فيلي من إحدى جولاته الليلية فيجد دراجته البخارية محترقة وعلى جدار مسكنه مكتوب «اختفي». إنه يعرف تماماً من فعل ذلك ويدرك الآن أن عليه أن يخطو إلى قلب المتاهة التي تناديه للدخول منذ عودته.

تأتي الإجابة على شكل اعتراف إلى دون لويجي القس المحلي الذي توطدت علاقته بفيلي بعد وفاة والدته وهو الوحيد الذي يقف في وجه الكامورا ويحاول مساعدة أهل الحي. يذكرنا على نحو ما بقس إليا كازان في (رصيف الميناء). نعرف أن فيلي وأوريستي في صباهما اشتركا في سطو مسلح، نتج عنه مقتل صاحب البيت محل السطو. لم يكن (فيلي) هو المسؤول عن القتل، بل (أوريستي). هرب فيلي من مكان الجريمة وبعدها بشهر غادر إيطاليا كلها ولم يعد غير الآن. بينما أوريستي صار زعيم الكامورا في الحي. صار الآن يلقب بالرجل السيئ ويهابه الجميع. إنه الوحش الذي يقبع في قلب المتاهة الخاصة بماضي فيلي.

يعرف فيلي أن تيهه لن ينتهي الا بملاقاة أوريستي والتحديق مباشرة في جرح ماضيه. ماضي الإنسان كالمتاهة كما يقول بورخيس، لا أحد يفلت منه، حتى لو تحركت بعيداً عنه واتخذت المسار الصحيح كما فعل فيلي، ستظل هذه الأصوات بداخلك تناديك لتدخل مجدداً للمتاهة.

واحدة من الأشياء المثيرة في شأن عودة فيلي هو أنه عاد بإلحاح من زوجته، لكن بعد عودته نجده غير راغب على الإطلاق في الرحيل. يمكننا أن نفهم بأنه كان يمتلك حدساً شبه يقيني بأنه حين يعود لن يتمكن أبداً من المغادرة. حين يضع خطوة واحدة في قلب متاهته ستبتلعه، سيضيع هناك ولن يقدر على الخروج منها.

 من خلال الذكريات المستعادة يمكنك رؤية طبيعة العلاقة بين فيلي أوريستى، إنها بلا شك شيء يفوق الصداقة، شيء يمتلك هالة رومانسية كالحب وعميقاً كرفقة الروح. لذا يأتي انفصالهما كجرح لا يلتئم. يمثل مشهد اللقاء بينهما ذروة الحكاية.لا يظهر أوريستي قبل هذا المشهد سوى في لقطات عابرة. صامت دائماً، بهيئة تنذر بالخطر كثعبان ملتف حول نفسه. في مشهد اللقاء بصديقه القديم يمكنك أن تلمس مدى ألمه وغضبه منه. يمنحه مارتوني الفرصة ليعبر عن خذلانه وإحساسه بمرارة الخيانة. أربعة عقود من الصمت وكأن صديقه ترك خلفه جثتين لا جثة واحدة. إنه ناقم على فيلي، كيف نجا وحده تاركاً إياه هنا ليصير ملكاً على لا شيء، يعيش كالسجين بلا حب أو عائلة. يمكنك أن تلمس مدى قسوته والألم الساكن تحتها.

الفيلم أقرب لمتاهة مزدوجة، متاهة الماضي ومتاهة المكان. يبرع مارتوني في التقاط متاهية المدينة وهي تلتف حول سكانها كقدر، بحاراتها وممراتها الضيقة والمتداخلة، كذلك القصر الذي يسكنه أوريستي كما نراه أيضاً في مشهد اللقاء حيث الممرات الممتدة والغرفة التي تفضي إلى غرف أخرى حتى نصل إلى أوريستي في النهاية.

النوستالجيا كأغنية مهلكة

حين يسأل (دون لويجي) فيلي عن أوريستي بعد أن عرف ما صار إليه، يخبره أنه لا يزال يعتبره أفضل صديق. يخبره دون لويجي: أنت على خطأ، القلوب تقسو مع الزمن فيجيبه: ليس قلبينا.

هذا الحوار يؤطر تراجيدياً فيلي. رجل يسير بعينين مفتوحتين في غبش الحنين نحو مصيره المظلم. حين يبدى فيلي رغبته في مقابلة صديقه، يحذره الجميع ينصحونه أن يبتعد لكن دون جدوى، أنه يعتقد أن علاقتهما لا تزال على حالها حتى بعد كل هذا الزمن وبعد ما صار إليه صديقه، لا تزال أغنية الجنين تطن في أذنيه. في الأوديسة يكتب هوميروس عن السيرينات، حوريات البحر التي تغوى بغنائها البحارة إلى الهلاك. غناء مثلما يمنح السرور يجلب الموت. الحنين هنا في فيلم مارتوني أقرب لغناء السيرينات.

يختار مارتوني ابن نابولي المشغول في غالب أفلامه بمدينته وناسها وتاريخها التصوير في الأماكن الحقيقية وبناس حقيقيين في الخلفية وفي الأدوار الصغيرة. المدينة لديه دائماً جزء من الحكاية، مدينته ملعونة كبطله ومشدودة إلى مصير غامض كالقدر. السينماتوجرافي والموسيقى يعكسان حالة الحنين المسيطرة على شخصية الفيلم الأساسية. لا ينشغل مارتوني في سرده بالحبكة أو النوع الفيلمي، رغم وجود عناصر نوعية من جونرات genres مثل الجريمة والثريلر بل يمنح حكايته كل الوقت لتتنفس، لتتفتح على مهل ودون صخب لتغمرك في النهاية على نحو آسر.

في واحد من حواراته، يحكى مارتوني أنه كان عضواً في لجنة تحكيم مهرجان فينسيا 1995 إلى جانب كيارستمي ومن بين جميع الأعضاء كان هو وكيارستمي يرغبان في منح جائزة (أفضل فيلم) لفيلم comedia de deus للبرتغالي جواو سيزار مونتيرو. كانت الشخصية الرئيسية في الفيلم تعمل بائع آيس كريم وكان كيارستمي يقول له إن على السينما أن تشبه الآيس كريم تذوب ببطء وعلى مهل قبل أن تجعلك غارقاً في طعمها وملمسها. فكرت بعد نهاية الفيلم، هذا فيلم كان سيحبه عباس كيارستمي.