مع اقتراب موسم الدراما السنوي الأهم وانتظارنا للمسلسلات التي سوف تغرقنا بها الشاشات، في كل عام تتصاعد نغمة النوستالجيا المعتادة، كل الناس تتحدث عن مسلسلات الماضي وكيف كانت قريبة من قلوبنا وعقولنا على حد سواء، يساعد في تفاقم هذه النغمة اختلاف أنواع المسلسلات التي تقدم في السنوات الأخيرة، فلم تعد دراما المنزل أو ما يطلق عليه الدراما العائلية رائجة جدًا، وأصبحت الموضوعات أكثر حدة وسرعة، وأصبح طابع الإثارة والتشويق هو اسم اللعبة.

ننسى في غمرة انسياقنا وراء الحنين –المشروع جدًا بالمناسبة – أن الحياة نفسها اختلفت، فلم تعد بالبساطة التي كانت تسم الحياة في التسعينيات ولا الثمانينيات، ولو نظرنا للحبكات التي تدمع عيوننا الآن تأثرًا عندما نتذكرها، لدمعت عيوننا أيضًا ولكن من فرط الضحك، فالبساطة – التي يمكنك تسميتها بالسذاجة بضمير مستريح – كانت تأسرنا تمامًا.


تيمات ساذجة

لابد أنك تذكر الحلقة الأخيرة من مسلسل ذئاب الجبل، تلك الحلقة التي أجلست مصر كلها أمام الشاشات ثم جعلتهم جميعًا يذرفون الدموع الحارة، عندما تظهر «وردة» أخيراً لتبرئ أخاها «البدري بدار»، وينطلق صوت علي الحجار في الخلفية ليؤكد أنه «لابد من يوم محتوم تترد فيه المظالم».

تلك الرومانسية الجميلة والبساطة الآسرة التي جعلتنا نتسامح مع ديكتاتورية الأخ الذي يصمم على الانتقام من أخته التي لم تفعل أي شيء مشين، بل وجعلتنا نصدق قصة صعود الشاب الصعيدي المنغلق الذي بدلاً من أن يضيع في العاصمة أصبح من أنجح رجال الأعمال فيها.

أما تيمات أولاد البلد الجدعان الذين لا يخطئون وينحازون للحق دائمًا، أو تيمات الشخص الذي أتى ليصحح الأوضاع ويساعد كل الشخصيات في المسلسل ليكونوا أفرادًا صالحين، فحدث ولا حرج، بدءاً من «أبلة حكمت» ووصولاً لـ«الست أصيلة»، فالبطل المثالي المسطح الذي يمثل الضمير المطلق كان من أكثر الشخصيات المفضلة في الدراما، ربما لذلك ما زلنا نتذكر «أبو العلا البشري»، وبالطبع الأب الفاضل معلم الأجيال المربي المثالي «ونيس أبو الفضل جاد الله عويس».

ينطبق هذا على الكثير من مسلسلات تلك الفترة، قصص أبسط من أن نأخذها على محمل الجد ومع ذلك أحببناها ونشتاق إليها رغم أننا لو أخذنا ربع ثانية للتفكير لغيرنا رأينا على الفور.


أداء مبالغ فيه

«عباس الضو بيقول لأ» من لا يتذكر مشهد أحمد عبد العزيز الخالد في «المال والبنون»؟ أو مشهده في «سوق العصر»؟ أو أي مشهد من مشاهده عموماً؟ هذا بالطبع ليس تحيزًا ضد أحمد عبد العزيز نفسه، بل لأنه كان فتى الشاشة الأول في تلك الفترة، فكان من الصعب أن تجد «ماستر سين» لا يكون أحمد عبد العزيز هو بطله.

كان الأداء العالي المسرحي المبالغ فيه سمة من سمات المسلسلات في هذه الحقبة، خاصة أن المسلسلات الدينية والتاريخية كانت جزءًا أساسيًا من خريطة الدراما في رمضان، فتجد أحمد ماهر متألقًا بأدائه الجهوري في مشاهد لا تحتمل كل هذه العصبية، هذا الأداء العالي المتهافت الصارخ في المشاهد الحزينة والسعيد سعادة غير مبررة في المشاهد المفرحة أو حتى العادية. هنا يمكنك أن تستدعي «تيسير فهمي» بسهولة شديدة في كل أدوارها تقريبًا بداية من دورها في «أبناء ولكن»، وبالطبع لا يمكنك إغفال دور «فردوس عبد الحميد» في إثراء الدراما المصرية بالعديد من المشاهد المبالغ بها والانفعالات التي لا تليق بالحدث.

المشاهد الدرامية التي كانت تبكينا وتجعلنا نتأثر أيامًا منذ سنوات، إذا شاهدنا منها طرفًا الآن سوف نعتبرها «أفورة» ونعيب على صناع العمل اتجاههم للمبالغة، وربما نعتبرها أيقونات أيضًا ولكننا لن نعتبرها أيقونات فنية بل ستندرج تحت بند أيقونات السخرية.


كوميديا لم تعد مضحكة

منذ سنوات عديدة كان مسلسل غاضبون وغاضبات ثورة في عالم الكوميديا والحداثة معًا، فقد كان يناقش مشكلات الشباب التي لا يقتنع بها الكبار في إطار كوميدي، وكان من بطولة وجهين محبوبين من أيقونات التسعينات، «شيرين سيف النصر»، و«شريف منير».

أيضًا كان مسلسل «ساكن قصادي» لخيرية أحمد وسناء جميل من علامات الكوميديا العائلية التي ما زلنا نتذكرها إلى الآن،بالطبع يأتي معه في الذاكرة مسلسل «عائلة شلش» والذي يعتبر إلى الآن إحدى علامات الدراما الكوميدية، لكن وعلى الرغم من أننا ما زلنا نتذكره فإنه لا يصلح الآن ليكون مادة درامية جذابة، نحن نحبه لأنه يعيدنا لأيامه فقط، أما «ترويض الشرسة» لآثار الحكيم فربما لا يتذكره كثيرون رغم أنه حظي باهتمام واسع وقت عرضه.

الكوميديا نفسها كانت مختلفة، فاللعب بالألفاظ والتنويعات الكلامية كانت تحظى باستحسان الجمهور دائمًا، هذا بالطبع قبل أن يصبح «الألش» أسلوب حياة، ولذلك فلا يمكن للمجهود الذي كان يبذله «وائل نور» مثلاً في إلقاء الإفيهات أن يُؤتي أكله اليوم.

كل هذه المسلسلات التي كانت مرجعًا للكوميديا لن تجد نفس رد الفعل إذا عرضت الآن، بل ربما تتلقى انتقادات قاسية ترفض سذاجتها وكوميديتها البالغة التي ربما سينظر لها الآن على أنها لا تحترم عقل المشاهد.


لكل مقام مقال

العيب بالطبع ليس في مسلسلات تلك الفترة، ولا أيضًا في مشاهدي الدراما الآن، بالأحرى ليس هناك أحد مخطئ من الأساس، فدراما زمان كانت تصلح لوقتها جدًا، رغم أنه ما زال هناك مسلسلات تصلح لكل وقت وإذا عرضت الآن ستجد استحسانًا على مستويات الكتابة والتمثيل، إلا أن الأغلب كانت مسلسلات ابنة وقتها وابنة مجتمعها، لا تصلح للعالم الحالي المحكوم بالسوشيال ميديا والتكنولوجيا المرعبة.

الحنين ليس خطأً بالمرة، الحنين مفيد، أن تشتاق لنفسك التي كانت بالسذاجة التي تصدق كل هذه القصص البسيطة، تشتاق للعالم بلا «تروكولر» بإمكان البدري عن طريقه أن يجد وردة، عالم بلا «كونتور» يغير شكل «ظريفة» في دقائق، عالم بلا «فيس بوك»، و«واتس آب» يجعل ابنة الأستاذ شلش تدير البيزنس الخاص بها بسهولة دون أن تضطر لتخزين المخلل تحت فراشها.

الحنين مفيد، والنوستالجيا سلعة رائجة، لأن الماضي جميل ليس لأنه كان جميلاً بالفعل، بل لأنه انتهى ولم يعد بإمكاننا استعادته.