الفن الحقيقي: حيث لكل مستمع حكاية

خلال شهر أغسطس/آب الماضي أطلقت فرقة «Radiohead» الموسيقية الفيديو الخاص بأغنيتها الأخيرة «daydreaming»، والتي قام بإخراجها المخرج الشهير «بول توماس اندرسون». الأغنية كتبها كالعادة مغني الفرقة الرئيسي «توم يورك». يظهر «توم» طوال الفيديو الخاص بالأغنية وهو يفتح بابًا تلو باب ويدخل غرفًا بها أشخاص لا يعرفهم ثم يغادرها. كلمات الأغنية القليلة بسيطة ولكنها مبهمة، تنتهي الأغنية بجملتين يغنيهما «توم» بشكل عكسي. وحينما قرر محبو الفرقة سماع هاتين الجملتين بشكل عكسي لفك شفرتهم وجدوا أخيرًا أنهم : «نصف حياتي، نصف حبي».

فسر البعض الأغنية أنها تعبير عن رحلة 23 عامًا قضاهم «توم» مع الفرقة ومع جمهورها، بدأهم شابًا صغيرا وها هو الآن كهل، فيما رأى البعض الآخر أن الأغنية وداع لقصة حب دامت لمدة 23 عامًا وانتهت بانفصال «توم» عن حبيبته هذا العام، فيما رأى آخرون أن الأغنية يكمل بها توم سلسلة من أغاني الفرقة السابقة عن الوحدة. والغريب أن «توم» فتح في أثناء الفيديو الخاص بالأغنية 23 بابًا ووجد محبو الفرقة علامات من ألبوماتهم السابقة في كل غرفة كما وجدوا أيضًا إشارات قد تكون خاصة بحبيبته. المذهل في هذه التفسيرات أن توم يبلغ حاليًا 46 عامًا؛ أي أنه قضي نصف حياته حقًا حتى الآن برفقة فرقته وحبيبته التي انفصل عنها!.

يرسل الفنان إشارات قد تبدو مبهمة، وقد تكون غير مقصودة، يشارك الجمهور في خلق الحكاية، حتى أنه من الممكن أن تجد حكاية خاصة لكل مستمع. وصل الأمر هنا أنك ستجد بين الجمهور من عدّل في ترتيب المشاهد وأعاد صياغة الكلمات وغيّر من توزيع الألحان، هذا هو آخر ما وصل له أحد أهم فرق الموسيقى في آخر عشرين عامًا حينما تعاونوا مع أحد أهم مخرجي السينما في عصرنا الحالي، وهذا ما يراه البعض إكمالًا لمسيرة الفن بمعناه الحقيقي الذي لا يقدم للجمهور معنى مباشرًا أو رؤية سطحية ولا يفرض وصاية على عقله فيخبره بكل شيء ولا يحتجزه كرهينة لا خيال لها ولا مشاعر.


الفن الملفق والإجابات النموذجية

في مقال «تاريخ من الغناء الملفق:مجدي نجيب وتجربته مع منير» والذي نشرته «إضاءات» بتاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، نرى فيه تعريفًا للفن هو النقيض تمامًا لما ذكرناه في المثال السابق، فالغناء الذي يراه المقال حقيقي وغير ملفق يجب أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط إحداها وضوح الكلمة والمعنى بحيث لا يختلف على تفسيرهما أحد، بل زاد المقال في ذلك وعاب على الشاعر أن يخفي المخاطب في شعره الغنائي. ويبدو أن المقال لا يطلب فقط من الشاعر أن يتوقف عن ابتداع أي صيغة شعرية جديدة بل يريد منه أيضًا أن يتخلى عن التراث العربي في السجع والاستعارة والكناية والإيهام وغيرها مما اعتبره علماء اللغة ومتلقو فن الشعر دليلًا على حسن الصياغة وجمال المعنى.

وباستخدام منطق المقال في نقد الشاعر «مجدي نجيب» وتجربته مع «محمد منير»، يمكننا التسفيه من كل الأعمال الفنية التي ابتعدت عن المباشرة والإجابات النموذجية ووصفها بأنها ملفقة، فتصبح «الموناليزا» مجرد لوحة لفتاة بلا معنى، وتصبح أحد أهم أعمال «فان جوخ» لوحة لسماء ملبدة بالغيوم، ويصبح استمتاعنا بالمقطوعات الموسيقية الأوبرالية غير العربية وغير المفهومة بشكل كامل بالنسبة لمعظمنا شيئًا ملفقًا، وأخيرًا يصبح مطلوبًا من كل فنان أو شاعر أو مغنٍ أن يكتب شرحًا تفصيليًا مشفوعًا بالبراهين ويرفقها بقصيدته أو لوحته أو أغنيته!.

المقال أيضًا يهمل بشكل كامل أن الغناء في الأساس فن قائم على الإمتاع بالصوت، وبالتالي فمن أصل الأشياء أن يكون للموسيقى وجمال الصوت الدور الأهم في جودة الأغنية ونجاحها، لذا فيمكنك أن تستمع وتستمتع بأغانٍ بلغة لا تفهمها ولا تعرف من كلماتها شيئًا، في حين أنك ستصفع صديقك صاحب الصوت القبيح على مؤخرة رأسه إذا أخذته الجلالة وحاول غناء «الأطلال». وبمناسبة الأطلال فحقبة «أم كلثوم» و«عبد الوهاب»، وهي الحقبة الذهبية للغناء المصري، قامت بالأساس على جمال الألحان والصوت. وإجمالًا تستمع الأذن أولًا ثم يأتي دور الكلمات التي يستقبلها الخيال، فتعيش طالما ارتبطت بحياة المتلقي وداعبت خياله.


«شبابيك» منير ومجدي نجيب على شارع «الحلم»

وعودة في النهاية لتجربة محمد منير مع الشاعر مجدي نجيب فإننا من الممكن أن نصفها بالإبداع والنضوج في آن واحد، ويمكننا أيضًا أن نذكر أن تلك التجربة نجح معها منير في صنع المعادلة الصعبة التي طالما بحث عنها في بداياته و ضمنت له حب واحترام جيل اعتبر منير الفنان المصري الوحيد الذي يتحدث عن أحلامه الحقيقية وآماله في الحب والحرية، كما يشاركه مخاوفه وغضبه. ويكفينا هنا الإشارة إلى أغنية «شبابيك» التي كتبها مجدي نجيب أثناء فترة اعتقاله في الستينات وغناها منير في منتصف الثمانينات، ولا تزال حتى الآن من أكثر أغاني منير شعبية ومن أكثر كلمات مجدي نجيب شهرة رغم مرور ما يقارب الستين عامًا على كتابتها وما يجاوز الثلاثين عامًا على غنائها.

شبابيك الدنيا كلها شبابيك وسهر والحكاية والحواديت كلها دايرة عليك

ونلاحظ هنا أن كلمات «شبابيك» ككل الأعمال التي تحتفي بالمعنى الحقيقي للفن، يمكن تفسيرها علي أكثر من معنى، يملك مستمعو منير نسخًا مختلفة عن معنى الأغنية، وببساطة يمكن أن يتغير فهمك للأغنية كليًا حينما تعرف أنها كُتبت داخل المعتقل وأنا نفسي حتى الآن تتغير انطباعاتي عن الأغنية طبقًا لحالتي المزاجية، وربما أجد بين كلماتها معنى جديدًا وهذا ما يجعلني أتوقف كل مرة حينما أستمع للمقدمة الموسيقية البديعة الخاصة بالأغنية والتي ألفها «أحمد منيب» وقامت فرقة «يحيي خليل» بتوزيعها.


دفاعًا عن الخيال

أنا بعت الدموع والعمر طرحت جنايني في الربيع الصبر وقلت أنا عاشق، سقوني كتير المر ورا الشبابيك ده عنيك شبابيك والدنيا كلها شبابيك

عقب استمتاعك بألحان منيب وصوت منير يمكنك أن تستمع لكلمات مجدي نجيب، يمكنك أن تفهمها. إنها حكاية حب، عاشق انتظر طويلًا أن يلتقي بحبيبته، يمني نفسه بأن يرى وجهها ولو حتى للحظات من خلال أحد شبابيك الدنيا ولا باليد حيلة سوى الصبر.

أو ربما هي حكاية شاب أنفق عمره وزهرة شبابه في سبيل تحرر الوطن، يكتب كلماته الآن داخل زنزانة مظلمة، يكسر ظلمتها ضوء خفيف هرب من خلال شباك صغير في باب الزنزانة. ولا باليد حيلة سوى الصبر. ربما تنفتح شبابيك الدنيا كلها يومًا ما فتهرب الظلمة من الزنزانة ويتحرر الوطن.

هذا هو الفن الذي يمنح لك الاختيار، هذا هو الفن الحقيقي الذي يترك لعقلك مساحة للفكر وفسحة للخيال، وهذا ما خُلق من أجله الشعر والرسم والموسيقى والغناء وتطورت من أجله السينما؛ إما الشرح والتوضيح وذكر الأسباب وإظهار المخاطب وتأكيد المواقف وسرد الحجج مكانه في كتابة الكتب والمقالات، وهذا ما نفعله الآن.

نكتب ليس دفاعًا فقط عن تجربة مجدي نجيب ومحمد ومنير التي شاركتنا الحلم والهم، وإنما أيضًا عن لوحات فان جوخ التي شعرنا بقيمتها حينما توقفنا عن البحث عن معناها عند غيرنا وبدأنا في الاستمتاع بها وفقًا لمشاعرنا، وموسيقى «راديوهيد» التي تسابق الزمن لكي يشارك جمهورها في صناعة المحتوى، دفاعًا عن سينما «عباس كياروستامي» التى تجعلنا نفكر لأيام عقب خروجنا من دار السينما، وعن كل الأسئلة لا الإجابات التي قدمها لنا يوسف شاهين. إجمالًا نكتب دفاعًا عن رؤية لا تصنف الفن وتصفه بأنه ملفق لأنه قرر أن يخرج عن نموذج الإجابة المرفق بكتاب الوزارة، نكتب دفاعًا عن الخيال.