الرواية قد تكون من بين أكثر الأجناس الأدبية انتشارًا، حيث أصبح القارئ يجد نفسه أمام عناوين وموضوعات شتى. لكن ومع دخول الكثير من الكُتَّاب غمار هذا الميدان، عن دراية وغير دراية؛ أصبح من اللازم وضع معايير يستند عليها القارئ لتمييز الغث من السمين، واختيار النص الروائي الذي ينمي رصيده اللغوي ويسمو بذوقه وينمي مداركه.


ما هي أساليب القراءة؟ وكيف نرتقي في درجاتها؟

قبل وضع معايير للرواية الجيدة، وجب أولًا أن نعرّج على أساليب القراءة المختلفة التي قد يتبعها القارئ:

– القراءة العادية السطحية:

وهي قراءة غالبًا يلمّ فيها القارئ فقط بالجانب القصصي، وينغمس بشكل كلي في أحداث الرواية دون أن يكون هناك تحليل لما بين السطور.

– القراءة التحليلية:

وهنا يبدأ القارئ في التحرر من سلطة القصة ويغوص شيئًا ما في معاني الرواية. القراءة هنا تكون متأنية، ويحاول فيها القارئ أن يربط خيوط الرواية ويقرأ ما بين السطور ليستجلي طبائع الشخوص وعلاقاتهم ويفهم دوافعهم.

– القراءة الناقدة:

حيث ينتقل القارئ فيها من فعل القراءة إلى فعل التفكير، ويمارس سلطة النقد للنص الأدبي الذي بين يديه. في هذه المرحلة يصبح القارئ قادرًا على إنتاج رأي خاص به فيما يقرأ ويصبح جزءًا من الصناعة الروائية إن أمكن التعبير.

– القراءة الإبداعية:

حيث يجد القارئ نفسه وقد فاضت بما اجتمع فيها من قراءات عديدة؛ عندئذ تصبح لديه الرغبة في الانتقال من القراءة إلى الكتابة، وذاك مستوى أعلى لا يتأتّى بسهولة.

لم كل هذه التقسيمات؟، وما علاقتها بالتمييز بين الرواية الجيدة وغيرها؟ أقول: إن البداية يجب أن تكون من جانب القارئ، فعندما يرتقي هذا الأخير في مستويات القراءة هذه يصبح التمييز سهلًا، واختيار الرواية الأنسب والأكمل، من حيث اللغة والحبكة الدرامية والرمي بعيدًا في سماء المعاني، يصبح كل ذلك ميسرًا. أما كيف يتم هذا الانتقال، فذاك مرتبط أساسًا بوعي القارئ بضرورة هذا الانتقال أولًا، ثم بالمحافظة على فعل القراءة. فالقراءات المتتالية والمتنوعة تنمي الملكات الفكرية واللغوية لدى القارئ، وتحيله شيئًا فشيئًا إلى مستويات أعلى تتيح له تحليل العمل الروائي والحكم عليه بشكل جيد.


ما معايير الرواية الجيدة؟

ذكرنا أن القراءات المتتالية من شأنها أن تنمي ذوق القارئ وتجعله قادرًا على الحكم على العمل الذي بين يديه، لكن الأهم ها هنا هو النوع وليس الكم، فأن تقرأ عشرات الروايات «الرديئة» لن يضيف إلى رصيدك شيئًا، بينما رواية جيدة واحدة قد تفتح لك آفاقَا كنت تجهلها ومعاني لم تطّلع عليها قبلًا؛ وهنا تظهر بشكل جيد العلاقة بين مستويات القراءة وجودة النص الروائي. فالرواية الرديئة، إن جاز التعبير، تقف بك عند المستوى الأول. فهي تركز على الأحداث، وربما تضفي على القصة بعض الدراما المبالغ فيها حتى لتبدو كفيلم سخيف. رواية كهذه لن تضع بين يديك مفاتيح لسبر أغوار الشخصيات، ولن تفصح لك عن معانٍ كنت تجهلها، وستنتهي بك قراءتها دون أن تضيف لك شيئًا ذا بال.

أما الرواية الجيدة، فتدفعك دفعًا إلى التحليل والغوص عميقًا فيما بين السطور والتنقيب عن الرمزيات والمعاني المختلفة التي يرمي إليها الكاتب. الرواية الجيدة أيضًا يجب أن تتمتع بطابع لغوي سلس، وأن تلامس المعنى برقة ألفاظها التي تعلق بالوجدان، بل أذهب بعيدًا فأقول: إنها يجب أن تثقفك!، يجب أن تتخطى حدود كونها نصًا أدبيًا زاخرًا بالتعابير الرقراقة إلى أن تكون وسيلة من وسائل تنمية الثقافة ومصدرًا للمعرفة، وهنا يبرز دور الكاتب وتتجلى عبقرتيه في اشتغاله على عناصر النص المختلفة.

الكاتب العبقري لا يختزل العمل الروائي في نص سردي قصصي، بل يعطيك نبذة تاريخية عن مكان وقوع الأحداث، وقد يدخل بك في متاهات التنظيمات السياسية التي سادت آنذاك، وسينتقل بك بسلاسة بين حاضر الشخصيات وماضيهم، وقد يتيح لك استشراف المستقبل أيضًا.

الكاتب العبقري أيضًا لن يسرد عليك كل شيء، ولن يعطيك المعنى جاهزًا على طبق من ذهب، بل يوظف فنونًا أخرى لإيصال المعنى ببراعة، ويترك لك مساحة فراغ تملؤها أنت بتحليلك، كأن تستشفّ طبع إحدى الشخصيات من خلال لوحة فنية، أو تستوضح طبيعة العلاقة بين الشخوص بناء على قطعة موسيقية، وربما أثّر على ذوقك الفني فأحببت نوعًا موسيقيًا ما كنت تتخيل أن تستمع له يومًا. الكاتب العبقري أيضًا لن يدخر جهدًا في تحميل روايته آراءه الخاصة عن بعض القضايا، لكن بشكل غير علني، فاتحًا بذلك المجال أمامك لتفك شفرات المعنى كما يحلو لك.


هل لموضوع الرواية دخل في الحكم عليها إن كانت جيدة أم لا؟

كما هو معلوم، فإن المواضيع التي تطرحها الروايات تختلف اختلافًا متباينًا، لكن الحكم على جودة الرواية انطلاقًا من موضوعها أمر قد يكون خاطئًا أحيانًا. فهناك العديد من الروايات على الساحة العربية والعالمية تتحدث عن قضايا مهمة كالتعايش الديني، وأزمة اللاجئين ومعاناة النساء في بعض المجتمعات وغيرها، لكنها، ولعوامل عدة متداخلة بين ما هو لغوي وبين ما هو مرتبط بالكاتب نفسه وبراعته، نجد أن هذه الروايات لم تعالج الموضوع بشكل كافٍ، أو أنها لم تضعه في سياقه الصحيح، أو أن ركاكة الأسلوب وغياب الحبكة الدرامية حالت دون الوصول إلى رواية «جيدة».

على أن تفضيل موضوع على آخر يرجع بالأساس إلى القارئ وذوقه، وهنا وجب أن ننوه أن على القارئ إذا أراد أن ينمي ذوقه ويرتقي في درجات القراءة التي سبق أن ذكرنا، عليه أن يختار موضوعات مختلفة في كل مرة، وألا ينساق دائمًا لرغبته في قراءة صنف معين من الروايات، كما هو حال الكثيرين مع الروايات ذات الطابع العاطفي، والتي نجد أغلبها مصنفة تحت بند «الأكثر قراءة» نظرًا للإقبال الكبير عليها، وليس لكونها ذات فائدة تذكر.

موضوع آخر لطالما شكّل وجوده بين ثنايا الروايات جدلًا بين القراء وحتى بين الكُتَّاب أنفسهم؛ ألا وهو الجانب «الأيروتيكي». فلا تكاد تخلو رواية عربية أو عالمية من حشو لهذا الموضوع. على الساحة العربية لا يزال هناك من يعتبر أن مجرد الحديث عن الجنس في رواية يحولها إلى «رواية سيئة» حيث يُصَنف هذا الموضوع كـ«ـتابو» لا يجوز الحديث عنه. في حين يرى آخرون أن من الطبيعي أن يتم الحديث عن موضوع كهذا داخل الروايات، كونها بالأساس محل عرض لجانب من حياة الشخصيات ونفسياتهم، وكون الجنس أحد مقومات هذه الحياة بل هو سبب استمرارها.

وما يعول عليه في هذا الباب هو أن الحديث عن الجنس إن كان لضرورة لا بد منها في سياق العمل و بناء الرواية، إن على الجانب القصصي أو لفهم جانب من شخصية ما أو كرمز لشيء آخر، فقد يكون مقبولًا ولا ينتقص من قدر وقيمة العمل، أما الإغراق في التوصيف وإقحام الجنس لا لغاية إلا لإقحامه فقط دون حاجة إلى ذلك، فلا شك أن كل ذي عقل حصيف يستطيع أن يميز ذلك وينأى بنفسه عن مثل هذه الكتابات التي لا يمكن بحال أن نصنفها كـ«روايات جيدة»، اللهم إن كانت تتمتع بمقومات كبيرة أخرى تجعلها رغم ذلك، رواية جديرة بالقراءة.


تقييمات القرّاء كمعيار للجودة

أصبحت العديد من المواقع وكذا بعض المجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي المهتمة بتبادل الكتب وكتابة تقريرات عنها ملاذًا للقراء خصوصًا المبتدئين، الباحثين عمن يرشدهم نحو رواية ماتعة. لكن اعتبار هذه التقييمات دليلًا على الجودة أمر لا شك أنه خاطئ، لعدة اعتبارات، أهمها: أن هذه التقييمات إنما هي لقراء آخرين لا يُعلم مستواهم اللغوي ولا الفكري، وبالتالي لا يُعَول عليهم في بناء رأي نقدي جيد حيال هذه الرواية أو تلك.

مشكلة أخرى تخلقها هذه التقييمات؛ أن القارئ يقرأ وهو يحمل أحكامًا مسبقة عن العمل الذي بين يديه، ما من شأنه أن يؤثر بشكل كبير على رأي القارئ الشخصي وربما رمى بالرواية من أول صفحة حتى قبل أن يفهمها ويعي ما فيها.

ختامًا، تبقى الخلفية المعرفية والمستوى الفكري لكل قارئ وكذا ذائقته الفنية عاملًا حاسمًا في الحكم على العمل الروائي بالجودة أو بالرداءة، والمعايير التي ُذكِرت من شأنها أن تسمو بهذا الذوق، حتى يُصبح لفعل القراءة أثر في حياة الفرد، كمرحلة أولى، وأثر كذلك على المجتمع.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.