إذا سألت أي شخص تمثل سلسلة الرسوم المتحركة الأشهر توم وجيري- Tom and Jerry جزءًا من طفولته بل شخصيته، أن يقص عليك الحبكة الأساسية التي يدور حولها العمل ستحصل في كل مرة على رؤية مختلفة للعمل من أشخاص قد يكونون ليسوا متخصصين في التحليل والنقد الفني، ولكن في مرحلة متقدمة من التحليل قد تسمع البعض يرى أن هناك رسائل سياسية تخدم أهدافًا عالمية كبرى تم بثها من خلال هذا الكرتون للأطفال، حيث يجعلهم يتعاطفون مع المحتل بسبب خفة دمه وذكائه، تبدو نظرة سوداوية مبالغ في تحليلها، إلا أنه بالتأكيد لا يمكن إنكار بث عديد من الرسائل السياسية بداخل الأعمال الفنية بشكل عام والكارتون بشكل خاص.

19 ب وإشكالية المحتل

عرض فيلم «19 ب» من إخراج أحمد عبد الله السيد وإنتاج منصة شاهد ومحمد حفظي، الرئيس السابق لمهرجان القاهرة السينمائي في ذات المهرجان في دورته الرابعة والأربعين وفاز بعديد من الجوائز منها أفضل فيلم عربي، يدور الفيلم في إطار حبكة متكررة، حبكة تعتمد على فكرة «الطفيل»، جسد طفيلي يقتحم ويتخذ من حيز جسد آخر مواطن ويبدأ في الانتشار، فكرة اعتمدت عليها أفلام الرعب كثيرًا، كما ظهرت في الفيلم الحائز على الأوسكار لعام 2020 «Parasite – طفيلي»، ومع تعدد تقديم هذه الحبكة ومن خلال عديد من المدارس الفنية، يقدمها لنا فيلم عبدالله من خلال فيلم «19 ب» متخذًا منهج الرتابة والكلاسيكية، وتبدأ الرتابة منذ بداية تقديم الشخصيات وتعريفها الذي يأخذ أكثر من ربع ساعة تقريبًا، ليبدأ تبلور الحكاية التي تروي قصة كلاسيكية جدًا عن المحتل الطفيلي الذي يقتحم مساحة لا تخصه ويبدأ في الانتشار والتوسع ليكون هو لا غيره ذات الكيان.

ولأن الطفل الذي لم تحتضنه القبيلة، سيعود ويحرقها ليشعر بدفئها، يعود شاب يُدعى «نصر» خلال أحداث فيلم «19 ب» بعد انتهاء مدة سجنه لشارعه القديم، رجع أقوى مما خرج منه، أبطش، للدرجة التي يفقد أبوه نفسه الأمل من إصلاحه ويهجره و يعود لقريته، يعود نصر بتجارة مريبة بالتأكيد غير قانونية ليعكر صفو حارس عقار 19 ب من شارع الملك الناصر، العقار الخارج عن كل قوانين الزمن، ففي حياة سريعة تطحن عجلاتها الجميع يسود الهدوء التام المنزل، هدوء يعبر عنه عبد الله السيد بأغان هادئة للغاية، ليجد الحارس -غير معروف الاسم- أن عليه أن يتخذ موقف قوة تجاه الطفيل الجديد الذي بدأ بتهديد راحته ومع الوقت تتحول الأمور لمعركة فعلية تدخل حتى الحيوانات الأليفة كطرف بها، يفعل نصر كل ما بوسعه حتى يحافظ على ثبات قدمه الذي وضعها في الفيلا. بالطبع قبل استخدام القوة يلجأ الحارس للقانون، يلجأ لمحامي صاحب العقار الذي يخلي مسؤوليته ويتخذ الحياد التام، نعم لهذه الدرجة يستخدم الفيلم الرمزية بشكلها البدائي الفج، فماذا يفعل الحارس الضعيف المسالم لأبعد الحدود، هل سيلعب لعبة القط والفأر مع محتله أم سيخضع في النهاية؟

لم يكن توم وجيري عن المقالب الكوميدية فقط

كارتون توم وجيري المقدم في الأساس للأطفال يبدو أنه يحمل في طياته ما هو أكبر من ذلك، فالحبكة الأساسية المعتمد عليها الكارتون الأشهر بكل أجزائه وأشكاله هو الصراع بين الفأر الدخيل والقط توم صاحب المنزل، ذلك هو أصل الحكاية، ولكن مع تقدم جيري الفأر في قالب الشخصية الأكثر ذكاءً وهو المسؤول عن الكوميديا بإيقاع توم في شر أعماله بمساعدة غباء توم نفسه جعلت جيري هو المحبب للأطفال، ويتابع الأطفال بشغف كيف سيتغلب جيري على توم في هذه الحلقة، أما عن النسخة السينمائية الأخيرة من هذه الحكاية اختلفت الموازين، ففي الفيلم الصادر في 2021 يظهر جيري هو صاحب المنزل في الأساس وتوم هو الدخيل عليه، حبكة معدلة لتناسب الصورة الموجودة بالفعل لدى الجميع، أن جيري هو صاحب الحق.

وعلى مدار السنوات، ومنذ بداية عرض سلسلة الرسوم المتحركة الأشهر في أربعينيات القرن الماضي حمل العمل كثير من التفسيرات والتأويلات، بالأخص السياسية منها، ومع إضافة قدر لا بأس به من نظريات المؤامرة، يعتقد البعض أن توم وجيري كان في الأساس أداة من أدوات الحركة الصهيونية لتمرير فكرهم، تمرير فكرة المحتل خفيف الظل الأذكى الذي يحق له المنزل إذا كان صاحبه بهذا القدر من الغباء والشر، ويدلل أصحاب هذه النظرية العجيبة على ذلك بعديد من الرسائل السرية الخفية مثل تشابه اسم «جيري» مع «Jude» التي تعني يهودي باللغة الألمانية.

وبغض النظر عن التفسيرات المقعرة المبالغ بها التي تحمل العمل بما قد لا يتناسب مع حجمه، فإنه لا يمكن إنكار تأثير أفكار هذا المسلسل على أجيال عدة، تعلمت منه أن المقالب واستغلال نقاط ضعف الآخر أمر مضحك، وأن خفيف الظل خفيف الحركة الذكي يستحق التأييد والدعم، أمور بشكل أو بآخر شكلت جزءًا من وعي أجيال متعددة مثل لها هذا الكارتون نافذتهم الأولى للعالم الخارجي.

وقع «19 ب» في الفخ الذي لم يقع به كارتون الأطفال منذ سنوات

للأسف فيلم «19 ب» يقدم لنا قصة المحتل بشكل فج، واضح جدًا وكأنه يضع أيادي المتفرج على الخير والشر، الاحتلال واختراق المساحات الشخصية، التقاعس الدولي والقانوني، وليقدم هذه الوجبة البسيطة جدًا استخدم كل الأدوات المتاحة لديه مثل الموسيقى المتضادة بشكل فج، الهدوء في مقابل الراب، المزيكا التي كانت تعكس حجم سيطرة كل منهما على البيت، حتى صوت سرينة الشرطة المتواصل في الخلفية ولكنه بلا جدوى حيث إنه ليس للقانون هنا أي سلطة، هذا هو الفخ الذي وقع به الفيلم، فخ المباشرة، فخ مناقشة القضايا السياسية من خلال شخصيات سطحية تقول تعبيرات الشرير «أنا شرير» وملامح الخير تقول بلسانها أنا خاضع جدًا.

حتى في النهاية، لم ينتصر الخير لنفسه، بل طردت أحجار البيت الدخيل عليها، ليكون البيت هو منقذ الحارس وليس العكس، ينتصر الخير صاحب الحق بصدفة بحتة.

في الندوة التالية للفيلم عقب عرضه العالمي الأول في مهرجان القاهرة السينمائي يصرح مخرج الفيلم أحمد عبد الله بأن فكرة الفيلم بدأت تدور في ذهنه أثناء الحجر الصحي المصاحب لجائحة كورونا، حينما بدأ يفكر من هو وماذا يريد من الحياة، يظهر في الفيلم بشدة أثر العزلة التي عايشها المخرج والكاتب. فبعد أن كانت تتميز أفلام السيد بتشريح الطبقات المتداخلة في الشارع المصري بكادرات تنطق بتفاصيل الشارع المصري يقدم لنا تجربة وحيدة للغاية، لرجل يجد أمانه في المكان الذي يحذره منه الجميع لكونه مهددًا بالانهيار في أي وقت، ولكن هكذا يكون المنزل، تشعر به بالأمان على الرغم من كل التهديدات المحيطة. وفي نهاية الفيلم، وفي مشهد درامي غير مفهوم تظهر لنا سيدة مسنة تنظر للحارس نظرة عميقة بشكل مبالغ فيه، ثم ينتهي الفيلم ويتركنا مع إحساس بمتعة ناقص وعدنا بها بسبب الحبكة المميزة وعناصر الفيلم الجيدة ولكنها سلبت منا بسبب وضوح الرمزية المبالغ بها.