كنت أتحدث مع صديق لي عن مشروع كتابي يود أن يشرع فيه، كان بالأحرى يحدثني عن أفكار هذا المشروع وما يدور في ذهنه من محاور قبل أن تتبلور لعملٍ ما، فكانت فكرته عن ربط بين الحياة والطعام، ويكون ربطًا جادًا ذا إسقاط حقيقي ممتزجًا ببعض السخرية والكوميديا المطلوبة، فحدثني حينها إذ كيف يرى فلانة تمامًا كالملح يدرك قيمتها في حياته، لكن لا مانع من الاستغناء عنها (لأسباب صحية)، وكيف يرى صديقه فلان كالحبهان لا يُطيقه ولا يستطيع الحياة دونه، وكيف أن علاقته بالدراسة كما حلة محشي ورق عنب، تستوجب عملًا واجتهادًا مضنيًا يستغرق ساعات لتُلتهم سريعًا في دقائق معدودة. بعدها بفترة ليست بالقصيرة ظهرت للنور رواية عمر طاهر «كحل وحبهان».

فسدت شهيتي أنا الذي كنت أرى في الطعام ما بعد الطعام. لا يوجد ما هو أشهى من طعام استقر لفترة داخل فخارة في النار، تمامًا كالتجارب التي تسوّي جاذبية الواحد على مهل. الفاكهة التي أعود بها من السوق لا ضامن لها، وهي غدّارة مثل اختيارات الواحد العاطفية. الخبز يقول، إنه لا بد من شريك. يكبر الواحد فيهرب من أهله، مثلما يسقط اللحم الناضج عن عظم مفصل الفخذ الذي لولاه ما تشكل وتماسك. الطريقة التي يظل الفطاطري يفرد بها عجينته ويلمها هي نفسها الطريقة التي يتعامل بها الواحد مع هلاوسه وإحباطاته في الساعة التي تسبق النوم. الصلصة شخص لا يعيش لنفسه، لكن للآخرين. حشو البيتزا فقط هو الذي يصنع الفروق، لكن جرّب أن تحبس بشرًا مختلفين في خوف مشترك أو في غناء جماعي، سيسقط الحشو ساعتها، وستكتشف أن العجينة واحدة.

في عامي الثاني الجامعي جلست في أحد الأيام مع صديق ساعات نعد فيها مشروعًا كاملًا نود طرحه تحت مسمى «الدفتر» ليكون بمثابة تأريخ لحياتنا، مستندًا في ذلك على أحداث تاريخية وتاريخ رياضي وأغانٍ عاصرناها، فمثلًا موقف معين يرتبط لدينا بحدث كروي، وفي نفس الوقت له انعكاس من حدث تاريخي، وفي نفس الوقت أشعر عند تذكره بأغنية ما بتفاصيلها وحكايتها وكأنما دارت في خلفية الحدث.

وضعنا قواعد هذا المشروع وبحماسة بدأنا توزيع الأدوار وجمع المحتوى، وفي يومها وجدت عمر طاهر يعلن عن كتابه «إذاعة الأغاني» ولم يزل مشروعنا مؤجلًا من حينها.

هذا هو عمر طاهر، ليس بدوستيفسكي أو ماركيز بل هو العادي مثلنا، تشعر بأن الكثير لو قُدر لهم بعض من الدراسة والموهبة والاجتهاد لصاروا عمر طاهر، أفكار كتابته تشبه كثيرًا تلك التي تدور في أذهان الكثير ولكنها الخطوة التي يبادر بها هو أولًا، مطعِمًا إياها بحرفيته الظاهرة لترى الفكرة النور سريعًا وفي صورة مكتملة؛ عمر طاهر: حرّيف كتابة.

هو امتداد لسلسلة الحكائين المصريين التي لا تنقطع، الحكاية هي الفطرة التي تغور في أعماقنا ولا نعرف الحياة دونها، بل إن العقل المصري من الصعب عليه التفاعل مع كاتب لا يضرب في أي صورة على وتر الحكاية الجميل، عمر طاهر يفعلها، ويراهن على أسلوبه في الحكاية الذي يشبه تمامًا سرد كبار السن، هذا السرد الذي تكمن قوته في السرد ذاته، حيث لا تنتظر النهاية ولكن تنتظر ألا ينتهي السرد.

عمر طاهر كاتب مناسب جدًا للجميع، بإمكانك ترشيحه لصديقك الذي لم يقرأ من قبل، فبكل تأكيد سيجد في «الكلاب لا تأكل الشيكولاتة» ما يجعله صبورًا على الإمساك بالكتاب، وكذلك هو مناسب لأولئك الذين لهم نَهمٌ على القراءة، ففي عمر ضالتهم من النضج والأسلوب الجميل.

ومن هنا يمكن أن ننتقل لعمر طاهر المتنوع، صاحب البداية بصورة أكبر كشاعر، تلمح في دواوينه الأولى مراهقة البدايات بوضوح، ورغم ذلك لا تخلو من التعبيرات التي تدرك تمامًا بأنها صبغة طاهر وفطرته التي يتمتع بها حتى ولو كتب وهو ابن أربعة أعوام، كما يقول في ديوانه «مشوار لحد الحيطة»: «الحزن زي الناس في كل حتة».

مما يؤكد فكرة التشابه بيننا وبين طاهر، هو طاهر نفسه الذي يكتب الأغاني، فعندما يكتب لرامي صبري يكتب المناسب لجمهور رامي قبل رامي، والمناسب للغة الفترة وأغانيها، فيكتب:

قولي قولي ألاقي أنا زيك فين ياللي مفيش في جمالك اتنين هو احنا عشرة بس يومين ده أنا عايش ليك

وبعدها بفترة ليست طويلة في عمر الزمن ولغة العصر يكتب لفريق كايروكي أغنية «أجمل ما عندي». تغيَّر المؤدي، تغير الجمهور، وتغير عمر طاهر هو الآخر؛ فيكتب:

عندي قمر بسهر معاه عندي ميعاد وحبيبي لغاه عندي حضن يساع الكون ريقي نشف والحب رواه

وامتدادًا لعمر طاهر الحكّاء البارع فكان لا بد أن يصبح ما هو عليه، عمر الذي تحب أن تراه وتسمعه كما تحب أن تقرأ له، يتضح ذلك في برنامجه «مصري أصلي» الذي كان يمثل محتوىً ثقافيًا في غاية الدسامة دون أن تشعر بذلك. كذلك تجربة بسيطة كان جزءًا منها وهي فيلم قصير بعنوان «سنوات الكور الضائعة»، يحكي عن مشوار منتخب مصر ومعاناته التاريخية في الوصول لكأس العالم، هذا الفيلم يعبر عن مرادي بعمر طاهر تمامًا، فأنا لم أكن أرجو أي نهاية معينة للفيلم، فقط أرجو ألا ينتهي.

هذه القوة السردية كان من المفترض أن تصبح عامل قوة لنجاح عمر طاهر ككاتب أفلام، ولكن لا أعرف ما السبب في أن تجربته السينمائية لم تكن على نفس القدر، فيلم «طير إنت» لاقى نجاحًا مبهرًا وعلى مستواه الكتابي كان مختلفًا، لكن لم تلقَ تجربتي «كابتن مصر» و«يوم مالوش لازمة» نفس النجاح الجماهيري، ولم تكونا حتى على مستوى كتابي مقترب من «طير إنت».

عمر طاهر في معظم نشاطاته يركز على النوستالجيا ومداعبة ذكريات القارئ الجميلة، حقيقة هو لا يقصد قارئًا معينًا، بل هي الذكريات التي تُمثل معظم القراء ويشترك فيها معظم الجيل المقصود بالقراءة بما فيهم عمر طاهر نفسه، فعمر طاهر الكاتب كثيرًا ما يقصد عمر طاهر القارئ.

لا يذهب عمر طاهر إلى الاستثناءات ولا يعيرها اهتمامه، بل العادي دائمًا مستندًا على أسلوبه الذي لا يجعله عاديًا، هو الجاد، الساخر، الصوفي، يحكي الحكايات، يمد بالمعلومات، يكتب الأغاني، يكتب الأفلام، يكتب المسرحيات، يكتب المقالات، يتحدث ولا تمل منه الشاشة ولا الإذاعة ولا الحديث، يفعل كل هذا ولا نراه عظيمًا، فقط نراه عمر طاهر الذي يشبهنا.. يشبهنا كثيرًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.