تعود المخرجة المجرية «ألديكو إينيدي» بعد غياب 18 عامًا عن السينما بفيلمها «On Body And Soul»الحائز على الدب الذهبي في مهرجان برلين لهذا العام.

تفتتح ألديكو فيلمها بمشهد فاتن وعذب؛ غزالة وأيل في غابة مغطاة بالجليد يهيمان معًا قرب نبع، يقتربان ويتلامسان في وداعة وحميمية، ثم يشربان معًا من نفس النبع، ثم قطع مونتاجي حاد إلى مسلخ (مجزر آلي للحوم) في بودابست حيث يعمل بطلا الفيلم أندره (جيزا موريساني) الذي يعمل كمدير مالي، وماريا (أليكساندرا بوربيلي) طبيبة ومسئولة الجودة في المكان.

يعاني كلاهما من الوحدة والاغتراب، أندره بجسد ناحل ووجه شاحب وإعاقة في يده اليسرى ينجذب تلقائيًا لماريا التي تعاني من درجة من درجات التوحد والوسواس القهري،تحرمها من القدرة على التواصل مع الآخرين أو فهم مشاعرهم مما يجعلها دائمًا في حالة من الاضطراب والقلق.

رغم استعانة المخرجة بمجموعة من مرضى التوحد وذويهم من أجل التفاصيل الخاصة بشخصية ماريا، لكنها تؤكد أنها لم ترغب أبدًا أن تختصر الشخصية في مجرد حالة مرضية، فالمخرجة أيضًا على حسب تصريحها تعاني من خجل اجتماعي وصعوبة في التواصل مع الآخرين في مواقف معينة، وتتشارك مع ماريا بعض سمات شخصيتها.

أعتقد أنها قصدت من إعاقتهما الظاهرة؛ الإعاقة الجسدية عند أندره، والنفسية عند ماريا أن تعبر بشكل مادي عن عجزهما عن الاندماج في المجموع، وإحساسهما العميق بأنهما منبوذان بما يتناقض مع الحاجة الجوهرية والملحة لأن يكونا مقبولين من الآخرين.

محاولات التواصل الأولى بينهما تبوء بالفشل. ترصد ألديكو تفاصيل العمل اليومي داخل المسلخ، عمليات الذبح الآلي وعيون الأبقار ساعة الذبح أو في انتظاره، حيث الدماء وأشلاء الحيونات تغطي المكان. تقترب ألديكو بالكاميرا لترصد رعشة تسري في أشلاء حيوان مذبوح لتوه ربما لتشير إلى بقية من روح لا تزال تسكن هذا المكان، مكان قاسٍ وكئيب يجعلك تتساءل عن إمكانية أن تولد قصة حب في مكان كهذا. تتكرر مشاهد الغابة والغزالتين مع اختلافات طفيفة في التفاصيل، ونكتشف مع تقدم السرد أن هذه المشاهد ليست إلا حلمًا يتشاركه البطلان كل ليلة، ويكون اكتشاف البطلين عن طريق الصدفة لهذه الحقيقة الشرارة الأولى لقصة حبهما.

كل فيلم من أفلامي نابع من حاجة جوهرية وملحة لأن أشارك شيئًا ما مع الآخرين

تحكي ألديكو في إحدى مقابلاتها الصحفية عن لحظة الإلهام التي دفعتها إلى إبداع فيلمها «عن الجسد والروح».

كنت أعمل على سيناريو لفيلم آخر، وكنت أجد صعوبة في تحقيق تقدم في الكتابة، وكنا في بداية الربيع، كانت براعم الأزهار لما تتفتح بعد، ولكنها كانت على وشك أن تنفتح على الشمس والريح. أحسست أنها توشك أن تنفجر، وأحسست أيضًا أن قلبي يوشك أن ينفجر. أردت أن أصنع بشدة فيلمًا عن إحساس كهذا، ولا شيء آخر. في المساء كان بطلا الحكاية حاضرين أمامي على الورق كما لو كنت أعرفهما منذ زمن بعيد، أردت أن أضعهما في مكان غير اعتيادي، ثم طرأت ببالي فكرة «ماذا لو جعلتهما يتشاركان معًا نفس الحلم كل ليلة؟»

هذه الكلمات تخبرنا عن حساسية ورهافة الروح التي تقف وراء هذا العمل الفذ، وتخبرنا أيضًا عن مدار الجسد والروح، عن أرواح وأجساد مغلقة على جرحها، عن العواطف المحتدمة تحت السطح في طريقها للضوء.

تجد ألديكو إلهامها أيضًا في تحفة «وونج كار واي» وفيلمه «في مزاج للحب» ليس على مستوى عالمه البصري، «كنت بحاجة لخلق عالمي البصري الخاص والمختلف جذريًا عن عالم كار واي»، ولكن الإلهام كان على مستوى الحالة التي يقدمها، الحاجة الملحة للوقوع في الحب والانفتاح على الآخر وغموض العواطف، العواطف التي تختلج تحت جلد الأفعال والحركات التي نؤديها في حياتنا اليومية وتعبر عن نفسها فجأة بطريقة أقرب للحلم.

تعبر أيضًا ألديكو عن تأثرها بأفكار «كارل يونج» عن الحياة والأحلام واللاوعي الجمعي، وتعتبر فيلمها فيلمًا على الطريقة اليونجية. فعبر الأحلام واللاوعي الجمعي نستطيع أن نتواصل مع جانب خفي في ذواتنا، جانب خفي عنا وعن الآخرين، نتواصل مع ما هو مشترك بيننا وبين البشر جميعًا. أيضا -وحسب يونج- الأحلام وسيلة لحل المعضلات التي تواجهنا في حالة اليقظة، نخفي بهذه الأحلام عجزنا وشعورنا بالدونية. فالمشاعر المكبوتة لبطلي الفيلم وعجزهما عن التواصل في واقع خانق تلوذ ببراح الحلم هناك، حيث تسقط الذات أقنعتها وتتخلى عن خوفها.

يرى يونج أيضًا أن الحياة تولد من شرارة المتناقضات، فالحياة سلسلة من التناقضلت العنيفة والمعقدة (الخير والشر، والجسد والروح، الانطواء والانبساط… إلخ).

نجد ألديكو في فيلمها أيضًا تتحرك بين متناقضات عدة بين المسلخ الخانق وبراح الطبيعة، وبين الواقع الخشن وأثيرية الحلم ورهافته، وبين الدم والثلج تغزل ألديكو واحدة من أجمل قصص الحب التي ظهرت على الشاشة ومن أكثرها رقة وشاعرية.

قامت ألديكو باختصار الدراما إلى حدها الأدنى، وأرادت أن تختبئ تمامًا خلف حبكة بسيطة وسرد سلس، حوارات مكثفة ومساحات من الصمت. واستطاعت أن تعبر عن طريق وضع الجسد وإيماءاته وأفعاله الروتينية المتكررة، المشية المتصلبة لماريا مثلًا، عن عالم الداخل دون الحاجة لحوار مباشر. أرادت على حد تعبيرها أن تسمح لبطليها بأن يتنفسا بحرية ويتواصلا مباشرة مع المشاهدين، وأن تفسح للمشاهدين مجال التوحد مع بطليها والاندماج في عالمهما الذي بنت تفاصيله ببراعة شديدة.

اختيارها الدقيق للأماكن التي تدور بها الأحداث (اختيار مسكن ماريا في الدور الأخير في البناية أيضًا كنوع من التأكيد على عزلتها وعجزها عن الاندماج في العالم). استطاعت أن تؤطر حالات الوحدة والاغتراب لبطليها أثناء تناول الطعام أو في المقاهي، أو التحديق عبر النوافذ المفتوحة كما لو كانا في انتظار شيء غامض على نحو يشبه كثيرًا لوحات الرسام الأمريكي «إدوارد هوبرو» شخصياته الموسومة بالعزلة والاغتراب. باختصار؛ ترى ألديكو في فيلمها رحلة مثيرة لبطليها والمشاهدين نحو اكتشاف الذات والعالم.