الكتابة عن الأفلام المفضلة مأزق كبير، يشعر المرء أن كل الكلمات والتوصيفات والتحليلات عاجزة أمام مكامن الجمال التي يراها فيه، لفترة طويلة ظل هذا الفيلم أقرب الأفلام لقلبي، صحيح أن الأفلام المفضلة تتغير من حين لآخر، لكن الآن وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على مشاهدتي الأولى له، وبعد عشرات المشاهدات المتفرقة، لم يتغير شيء، هذا الفيلم في رأيي أعظم مادة مرئية قُدمت على الإطلاق.

بعد نجاحه الساحق في السباجتي ويسترن، الصنف الذي ابتكره سيرجيو ليوني، قرر أن يصنع شيئًا مختلفًا، توقف عن صناعة الأفلام وكرس كل مجهوده ليحول رواية «The Hoods» التي كان مفتونًا بها إلى السينما، رفض مشروعات مهمة أشهرها «The Godfather» واختفى عن الأنظار ليصنع تحفته الأهم والأجمل على الإطلاق.

مدة الفيلم الحقيقية كانت عشر ساعات، قام ليوني بقطعها حتى وصلت ست ساعات، وخطط لعرضها على جزأين، مثل الأب الروحي، قوبل الأمر بالرفض بخاصة مع فشل تجربة مشابهة قام بها مخرج إيطالي آخر اسمه بيرناردو بيرتلوتشي في منتصف السبعينيات، أقنعه الموزعون بعمل نسخة مخرج مدتها 229 دقيقة، وهي التي عُرضت في مهرجان كان وقوبلت بعاصفة من بالتصفيق امتدت 15 دقيقة.

بعد ذلك قررت شركة الإنتاج ذبح الفيلم، أعادوا ترتيب المشاهد والغاء الفلاش باك وحذف 90 دقيقة من العمل، أي ما يقرب من مدة فيلم كامل، خسر الفيلم عاملي الذاكرة والزمن لدرجة أن روجر ايبرت، الذي رأى النسختين الأصلية والمشوهة، قال إن الفيلم فوضى غير مفهومة ولا يحمل أي شعور زمني أو عاطفة. فشل الفيلم في دور العرض وحقق 5 ملايين دولار فقط وتم سحبه بعد أقل من شهر واختفى من كافة المهرجانات والمحافل.

الحكاية

في النسخة ذات الـ229 دقيقة، يحكي الفيلم قصة ديفيد ارونسن/نودلز، صبي ضمن عصابة إيطالية صغيرة، يعرض بدايتهم الإجرامية في عشرينيات القرن الماضي في نيويورك، ثم مسيرتهم في الثلاثينيات، وبعد ذلك عودة نودلز من بافالو، بعد تلقيه رسالة غامضة، ليتتبع مصير أصدقائه السابقين حاملًا ذكريات الماضي التي دهستها عجلات الزمن.

مقتبسًا من أفلام النوار، اعتمد ليوني في سرد فيلمه على أسلوب غير خطي، متتبعًا قصة صعود وهبوط العصابة في الأزمنة الثلاثة. ومتخذًا ذاكرة نودلز وتأمله عاملًا أساسيًا في ذلك. ينزلق الفيلم بين الثلاثة أزمنة بخفة مذهلة، عمل فني حقيقي عن الذاكرة والذنب والصداقة والخيانة، وعن المسارات التي يسلكها الإنسان وكيف تغير من مصيره.

في الثلث ساعة الأولى يقوم ليوني بتهيأة المشاهد لأحداث الفيلم عن طريق بعض الأسئلة، لماذا تتم مطاردة نودلز؟ وما الذي يجعل نودلز يهرب في أحد الأوكار يدخن الأفيون؟ ومن الجثث الثلاثة الملقية تحت المطر؟

بعد ذلك يعود الفيلم إلى طفولة العصابة، ويعرض شخصية نودلز منذ طفولته مع أصدقائه وكيف يمارسون الأعمال الإجرامية، في هذه الأثناء تظهر الشخصية الثانية في البطولة، ماكس الذي يصبح فيما بعد الصديق الأقرب لنودلز والعقل المفكر للعصابة مع مرور الأعوام.

ماكس، نودلز، ديبورا

نودلز رجل عصابات تقليدي، لكنه يبدو كاستعارة للحلم الأمريكي، لا يستند على شيء ليعرف حقيقة ما يريده فعلًا، لكن المؤكد أنه يبحث عن الحب الحقيقي في ديبورا، ماكس ونودلز لا يشبهان بعضهما البعض، لكنهما في علاقة تكاملية، لا تحتاج الكثير لتعرف أن نودلز يحمل قلبًا رقيقًا يخفيه خلف العنف والوحشية، هذا القلب الذي جعله يندفع لقتل باجزي انتقامًا لمقتل صديقه دومينيك، بينما ماكس الذي لا تغلبه العواطف ويتصرف بعقله يقف بعيدًا ويراقب فقط ما يحدث.

منذ ظهوره الأول يبدو الذكاء ظاهرًا على وجه ماكس، كذلك الصفات القيادية والتسلط والأنانية في أحيان كثيرة، والطموح الذي لا ينتهي، هذا الطموح الذي يظهر في لقطات كثيرة، أهمها شراء عرش بـ800 دولار فقط ليجلس عليه، ورغبته المجنونة في السطو على المصرف الفيدرالي بعد إنهاء الحظر.

بجانب ماكس تظهر الشخصية النسائية الأهم في الفيلم، علي العكس من أفلام ليوني السابقة التي لم تهتم بالعنصر النسائي، ديبورا هي حبيبة نودلز وهي ما جعلته حيًا في الإصلاحية بعد قتله باجزي، ديبورا تحب نودلز، لكن شخصيتها انعكاس لشخصية ماكس، جريئة وطموحة وذكية. هذا الطموح الذي يقف في وجه علاقتها بنودلز، الشخص البسيط الذي لا يرغب في أموال كثيرة أو في مركز اجتماعي مرموق، ولا يفكر في المستقبل مادام يمتلك ما يكفي من أموال للإنفاق.

هو بالمجمل شخص يحب، لكنه سيبقى نكرة طوال حياته، لذلك لن يصبح حبيبي للأسف.

في أحد المشاهد المهمة في الفيلم، تجلس ديبورا لتلقي على نودلز أبياتًا من الشعر، ويختار نودلز أن يجلس أمامها وليس بجوارها، نودلز أحب ديبورا ورآها كأنها قطعة من الخزف يجب المحافظة عليها، بينما رأي في كل النساء الأخريات منفذ لإخراج شهوته فقط، لم يحترم أي امرأة أو يلقِ عليها كلمات إعجاب، وهذا ما يفسر اغتصابه لديبورا حينما رفضته مجددًا وقررت تركه والسفر لهوليوود وتحقيق حلمها. ويفسر أيضًا ذهابه لمحطة القطار لرؤيتها قبل سفرها، حبها لا يزال يملأ قلبه، وظل يملأ قلبه حتى بعد أكثر من ثلاثين عامًا حين رآها وألقى على مسامعها كلمات الإعجاب للمرة الأولى «أنتِ رائعة».

ولأن نودلز شخص مزاجي يعتمد على الهوائية والاندفاع في قراراته، كان ينخرط أكثر في الأعمال الإجرامية كلما قوبل بالرفض من ديبورا، رفض ديبورا له كان المحرك الأساسي له في الولاء لماكس، وقف نودلز بين مفترق الطرق، بين حلمين، حلم الطفولة المتمثل في ديبورا وحلم القوة المتمثل في تعاونه مع ماكس والعصابة الصغيرة، الذي يعني الكثير من الأعمال الإجرامية والكثير من الثراء، وصورة لتحقيق الحلم الأمريكي ولكن بأسوأ الطرق وأكثرها شراسة وقسوة، وفي المقابل رأي ماكس أن علاقة ديبورا بنودلز تقف في طريقهم، ظاهريًا، بينما في الحقيقة أنانيته المفرطة وحبه للاستحواذ والسيطرة كان المحرك الأساسي، وهو ما دفعه إلى الرغبة في السيطرة التامة على نودلز بل وللاستحواذ على ديبورا نفسها في النهاية، والتفاخر بذلك في مشهد النهاية «لقد أخذت امرأتك».

مشهد النهاية ذاته تتويج للأنانية المفرطة لدى ماكس، رغبته في أن يمنح نودلز الانتقام ما هي إلا بحثًا منه في الخلاص والرغبة في الراحة الأبدية.

هلاوس رجل مهزوم

سيرجيو ليوني في هذا الفيلم في أكثر حالاته توهجًا، حركة الكاميرا الانسيابية، اللقطات الواسعة والكلوز أب الذي طالما تميز به، مونتاج الفيلم والسرد الذي ينتقل بين الأزمنة المختلفة الذي لم يلجأ له ليوني ليمنح فيلمه المتعة ويجعله قابلاً للمشاهدة مرات عديدة فقط، لكنه يضرب في عمق الهدف الذي يرمي إليه ليوني، أهمية الزمن والذكريات وتأثيرهم على شخصيات العمل، الماضي الذي يعذب نودلز ولا ينتهي منه.

أداءات الفيلم التمثيلية جميعها عظيمة، بخاصة روبرت دينيرو الذي يقدم في رأيي درّة أعماله وأكثرها اختلافًا في مسيرته، نظراته المشوشة والخائفة وحركته المتهالكة حين يتقدم به الزمن، وعنفوانه وتهوره في الصغر، لغة العينين التي تحمل كل تساؤلات الدنيا وعذابات رجل مهزوم يبحث عن الخلاص.

في نهاية الفيلم، وبعد خمسة وثلاثين عامًا يكتشف نودلز أن ماكس لم يمت، وأنه سرق حبيبته وماله وقام بخداعه طوال أكثر من ثلاثين عامًا، لكنه الآن وبعد أن أصبح ماكس الوزير بايلي، يطلب من نودلز أن يقتله، بعدما تورّط في علاقات كثيرة تتطلب التضحية به، في جميع الأحوال ماكس سيموت، لكنه فضل أن يقتله صديقه المفضل، انتقامًا لخمسة وثلاثين عامًا قضاها كفريسة هاربة «لقد سلبت منك كلّ شيء.. المال، وفتاتك، ولم أترك لك سوى 35 عامًا من الألم، اقتلني كرد لدينك» ينظر نودلز إلى قصر ماكس، كل هذا الثراء كان من المفترض أن يكون ملكه، يخبره بقصة بسيطة «لدي قصة كذلك، إنها أبسط من قصتك، منذ سنوات كان لدي صديق ، صديق عزيز، وشيت به للشرطة لأنقذ حياته، لكنه قتل، لكن هذا ما أراده، كانت صداقة رائعة، ساءت أموره .. وساءت أموري كذلك».

يترك ماكس ويعود أدراجه، يرى حين يخرج صديقه ماكس، أو ربما شخص يشبهه، تمر أمامه شاحنة التخلص من النفايات ويختفي ماكس، تقترب الكاميرا على شفرات الشاحنة، لكن لا أثر لدماء!

هل قام ماكس بالانتحار؟ هل كان هذا الشخص هو ماكس أم أن نودلز يتخيل؟ جيمس وودز نفسه قال إنه لا يعلم، وإن ليوني أراد أن يكون المشهد بهذا الغموض. هذا الغموض الذي يزيد من جمال الفيلم.

يعود بنا ليوني مرة أخرى لوكر الأفيون، ليلة مقتل الأصدقاء، تقترب الكاميرا إلى وجه نودلز، ونراه يبتسم، نودلز الذي قضى نصف عمره يريد الحقيقة ويفكر في ما حدث في تلك الليلة، يتأمل ثلاثين عامًا من العمر الضائع، ربما كان يتخيّل كل هذا، وكل الأحداث التي دارت بعد مقتل أصدقائه هي محض خيال وهلاوس.

كثيرة هي الأشياء التي أتذكرها من هذا الفيلم، الحبكة والسرد، الإيقاع والشخصيات بالغة الاحكام، موسيقى انيو موريكوني التي لا تفارق سمعي منذ شاهدته أول مرة، صورته الفاتنة، هذه الصورة المتدفقة لا تجعل أيًا من النظريات شيئًا أكيدًا، وسواء كانت هلاوس أو حدثت بالفعل، المهم هو الغرق في الحالة الشعورية للفيلم وتملّكه للمشاهد بعد انتهائه، وهذا هو جوهر السينما.