كان عام 1969 عامًا حافلًا بالأحداث الكبيرة والفارقة في تاريخ أمريكا. اضطرابات سياسية، وحركات احتجاجية، وشغب وتمرد، هبوط نيل أرمسترونج على سطح القمر، مهرجان وودستوك، والجرائم البشعة لعائلة مانسون «Manson Family» التي وضعت كلمة النهاية الدامية لعقد الستينيات، عقد الأحلام الكبيرة، وصيف الحب الذي لفظ أنفاسه سريعًا.

كانت هوليوود القديمة بكل سحرها تحتضر، حيث حققت أفلام صنعت بميزانيات محدودة ومواهب شابة نجاحات كبيرة، غيرت قواعد اللعبة في هوليوود، مثل فيلم دينيس هوبر «Easy Rider»، الفيلم الذي مهد لسينما السبعينيات أو ما سيعرف بعد ذلك بهوليوود الجديدة.

هذا هو العام الذي اختاره المخرج الأمريكي الكبير كوينتين تارانتينو إطارًا زمنيًا لفيلمه التاسع «حدث ذات مرة في هوليوود Once Upon a Time In Hollywood»، لكن تارانتينو بنهجه ما بعد الحداثي يبقي كل هذا الزخم خارج عالمه الفيلمي حيث لا مكان للسرديات الكبري ولا لأحلام التاريخ.

التلاعب بتوقعات المشاهد

في فيلم Once Upon a Time In Hollywood لدينا خطان سرديان لا يلتقيان إلا عند النهاية، حيث لا توجد حبكة واضحة في فيلم تارنتينو الأحدث. نتابع خلال الخط الأول والذي يشغل معظم زمن الفيلم، النجومية الآفلة للممثل ريك دالتون/ ليوناردو ديكابريو، وهو نجم حقق شهرة واسعة عبر أدائه لدور البطولة لمسلسل من مسلسلات الويسترن التي اشتهر بها عقد الخمسينيات، ومحاولاته استعادة شيء من هذه النجومية في عالم السينما والتلفزيون وعلاقته المميزة بدوبليره الخاص كليف بوث/ براد بيت والتي يوجزها الفيلم في عبارة «أكثر من أخ وأقل من زوجة».

يسكن دالتون إلى جوار الممثلة شارون تيت، زوجة المخرج الأيرلندي رومان بولانسكي والتي كانت مع أربعة من أصدقائها ضحية لحادثة القتل الوحشية التي نفذها ثلاثة أفراد من عائلة تشارلز مانسون. وهو ما يقود إلى الخط السردي الثاني الأقل حضورًا والذي نتابع خلاله الحياة اليومية لهذه الممثلة الصاعدة آنذاك.

ما يشغل المشاهد منذ البداية هو متى سيلتقي هذان الخطان المتجاوران، الخط الخيالي الخاص بالنجم ودوبليره والخط الواقعي الخاص بالممثلة شارون تيت، وعما سيسفر هذا اللقاء، لكن الانتظار يطول  ولا يحدث هذا اللقاء إلا في نهاية الفيلم.

يشغل تارنتينو هذا الانتظار بالتلاعب بتوقعات المشاهد، فعلها ثلاث مرات مع شخصية كليف بوث الذي يشاع أنه قتل زوجته ونجا بفعلته، وفي كل مرة يخالف توقعات المشاهد. في المرة الأولى نشاهد كليف وزوجته التي تتشاجر معه دون سبب واضح في «فلاش باك» بعد أن سمعنا عن الشائعة لأول مرة، يتوقع المشاهد أن يشاهد مشهد القتل أو شيئًا ينفي الشائعة لكن ترانتينو يبتر المشهد دون أن يحدث أي شيء.

مرة ثانية يقلّ كليف إحدى الفتيات التي تنتمي لعائلة مانسون إلى مزرعة مهجورة، كانت تستخدم قديمًا لتصوير الأفلام، وعند محاولته رؤية مالك المزرعة يبدأ الجميع بالارتباك. المشهد يوحي بأننا سنكتشف جثة ما، لكن توقعنا يخيب مرة أخرى. هذا التلاعب بتوقعات المشاهد يمهد للمفاجأة الكبرى التي تسكن النهاية ويبقى المشاهد منفتحًا على جميع الاحتمالات.

أفلام التسكع

يدرك جميع من شاهد الفيلم اختلافه عن أغلب أفلام تارانتينو، أنه أقرب من ناحية البنية السردية، الايقاع والجو العام، إلى فيلمين هما من أقل أفلامه رواجًا «Jackie Brown»، و«Death Proof». كان تارانتينو نفسه هو الذي نحت هذا المصطلح «Hang Out Movies»، معبرًا عن فئة من الأفلام رأى أن فيلميه سابقي الذكر ينتميان إليها.

ينتمي أحدث أفلام تارنتينو بامتياز لهذه الفئة، نتسكع مع أبطاله شديدي الجاذبية بين المطاعم والبارات ومواقع التصوير، نصاحب كليف بوث في جولاته بسيارته في ضواحي لوس أنجلوس، نستمع معه إلى أغنية ما. نشاهد شارون تيت/ مارجوت روبي وهي ترقص علي أغنية ما في غرفة نومها، نتوقف معها أمام ملصق فيلمها بأحد دور العرض، ندخل معها ونجلس داخل صالة العرض لنشاهد فيلمها المعروض.

يتسكع المشاهد في هذا الأفلام مع شخصيات جذابة، لا لغرض إلا لتصير معرفته بها أكبر وأكثر حميمية. عامل الجذب الأول في هذه الأفلام هو الشخصيات، يأتي ذلك على حساب الحبكة والحدث الفيلمي. هي أفلام ذات نبرة هادئة وإيقاع متمهل، أفلام معايشة بالأساس. هذه الفئة من الأفلام تشمل كلاسيكية مثل «Rio Bravo» للمخرج هوارد هوكس، و«The Big Lebowski» للأخوين كوين، أو أغلب أفلام ريتشارد لينكلاتر.

هذه المعايشة التي يفرضها تارانتينو علي مشاهده تقربه جدًا من هذه الشخصيات، وتورطه في عالمهم الفيلمي خالقة واحدًا من أكثر أفلام تارنتينو دفئًا وحميمية إن لم يكن أكثرها.

عناصر سينما ما بعد الحداثة في فيلم تارنتينو

يعد كوينتين تارنتيو أحد رواد سينما ما بعد الحداثة، وفهم ذلك جوهري في فهم وتلقي أفلامه.

كل أفلام تارنتينو تحمل في داخلها فيضًا من الاقتباسات والإحالات إلى أعمال فنية أخرى، وأحيانًا يحيل إلى أفلامه هو نفسه. يحيلنا عنوان الفيلم إلى تحفة السباجتي ويسترن «Once Upon a Time in the West» للإيطالي سرجيو ليوني. ليوني هو المخرج صاحب التأثير الأكبر على تارنتينو والويسترن هو نوعه الفيلمي المفضل، والأكثر حضورًا هنا.

معظم الأعمال التي يشارك بها بطله ريك دالتون تنتمي للويسترن والتي يستغرق تارنتينو بمحبة في تصوير مشاهد منها ضمن الزمن الفيلمي، مورطًا جمهوره معه تاركًا حدثه الفيلمي الكبير ينتظر حتى النهاية.

يسافر ريك إلى إيطاليا للعمل في بطولة بعض أفلام الإسباجتي ويسترن في محاولة لاستعادة نجوميته الآفلة، يعمل مع المخرج سرجيو كوربوتشي، كوربوتشي له فيلم ويسترن اسمه «Django» وهو ما يحيل إلى فيلم تارنتينو نفسه «Django Unchained» الذي مثل فيه دي كابريو. كل هذه الإحالات تجعل من فيلم تارنتينو فيلما شخصيًا إلى حد بعيد وتثري نصه الفيلمي.

أحد أهداف ما بعد الحداثة السينمائية هو نسف إدعاء الواقعية، فالسينما لا تعكس الحياة، إنما الحياة كما تم تقديمها في أفلام أخرى. وهو ما يفعله تارانتينو بكثرة استعاراته و إحالاته لأفلام أخرى حتى تبدو الصور التي تصنع عالمه الفيمي قد جاءت من الشاشة وإليها تعود.

من عناصر ما بعد الحداثة أيضًا هنا، هذا المزج الأنواعي الذي يبرع فيه تارنتينو دائمًا، حيث ينتقل داخل فيلمه بين الدراما والكوميديا والرعب بسلاسة شديدة. إحساس النوستالجيا الذي يغمر الفيلم، هنا يستعيد تارنتينو مسرح طفولته، في ضواحي لوس أنجلوس حيث نشأ. هذا التجاور بين ما هو خيالي وواقعي داخل نفس الإطار، حيث إن التقاء شخصياته المختلقة الأكثر حضورًا مثل ريك وكليف مع شخصيات مثل شارون تيت وبروس لي، ينتمي بامتياز إلى ما بعد الحداثة.

من أهم عناصر ما بعد الحداثة زوال الحدود الفاصلة بين الثقافة الشعبية وما يسمى فن النخبة، فمثلما يستعير تارنتينو أو يحيل لأفلام تنتمي للفئة (B) يستعير من سينما الفن أيضًا كأفلام فيليني وجودار. جودار أيضًا صاحب تأثير كبير على تارنتينو، والخط الخاص بشارون تيت مصنوع على غرار سينما الموجة الفرنسية الجديدة التي كان جودار أحد روادها.

سينما تارانتينو وفانتازيا الانتقام

عندما يبتسم الحظ على شيء عنيف وبشع كالانتقام، يبدو ذلك دليلًا لا مثيل له، ليس فقط على وجود الرب، بل على أنك تنفذ وصيته.
من فيلم تارنتينو «Kill Bill»

لا يوجد فيلم من أفلام تارنتينو، لا يتضمن فعلًا من أفعال الانتقام، بل هناك أفلام بأكملها محركها الرئيسي هو الرغبة في الانتقام مثل ثنائيته الأشهر «Kill Bill».

يضع تارنتينو دائمًا الانتقام ضمن إطار أو سياق يجعله مبررًا، بل يبدو أحيانًا كضرب من العدالة الشعرية. في أفلامه الأخيرة بدا تارنتينو مستسلما لدوره كمبعوث للرب ينفذ عبر فانتازيات الانتقام في أفلامه العدالة الشعرية بأثر رجعي على ضحايا ومضطهدي التاريخ. يشعل النار في هتلر في قاعة عرض سينمائية في باريس في «Inglourious Basterds»، أو ينتقم للمضطهدين من السود ضد مستغليهم في «Django Unchained». وهنا في فيلمه التاسع ينتقم لضحايا عائلة مانسون ضد مرتكبي هذه المجزرة.

يدافع تارنتينو دائمًا عن العنف السينمائي، والذي يعتبر ملمحًا أساسيًا لسينماه، مثلما يسخر من الزعم القائل إن العنف في الواقع متولد من العنف في السينما.

قبل مشهد النهاية الذي ينتقم فيه بشكل عنيف وتهكمي من قتلة عائلة مانسون، تقول فتاة من المجموعة قبل أن تدخل الي منزل ريك دالتون: «سنقتل من علمونا القتل». هنا يبدو الانتقام الممارس في هذا المشهد انتقامًا شخصيًا لكوينتين تارنتينو، من أجل سينماه وسينما العنف التي يعترف دومًا أنه من أكبر المشجعين لها.

النجم والدوبلير: انتقام بلغة السينما

مثلما تشعل بطلة فيلمه «Inglourious Basterds» النار في أشرطة السينما القديمة القابلة للأحتراق للانتقام من هتلر وأتباعه، يستخدم هنا ريك قاذفًا للهب كان قد استخدمه من قبل في أحد أفلامه، وتم الإشارة إليه في مشهد سابق لإحراق أحد أفراد عائلة مانسون الذين اقتحموا منزله.

تفاصيل سينمائية كثيرة صاغت مشهد النهاية، فالدوبلير كليف بوث، الرجل الصلب الحقيقي في الفيلم هو الذي يقوم بالجزء الخطر من المشهد بينما يظهر ريك بعد أن زال الخطر تقريبًا ليسرق المشهد.

عبر هذا المشهد تحديدًا يستعيد ريك حلمه بالبطولة، بعد أن صار في أدواره الأخيرة يؤدي دور الشرير الذي تكال له الضربات من الأبطال الصاعدين.

يبدي ريك طيلة الفيلم احتقاره للهيبز، لكن الفيلم لا يعطي سببًا واضحًا لذلك، لكننا يمكننا أن نرجع ذلك لكون ريك ممثل لهوليود القديمة، بينما الهيبز هم ممثلو الثقافة المضادة التي اتتشرت بين الشباب نهاية الستينيات وأدت تداعيات ذلك لتغيرات جذرية في هوليود، انتهت هوليود القديمة وبدأت حقبة جديدة عرفت بهوليود الجديدة. وبذلك فالهيبز هم المهدد الحقيقي لنجومية ريك الآخذة في الزوال.

في مشهد ما قبل النهاية حين تتوقف السيارة التي يستقلها أفراد عائلة مانسون أمام مدخل مسكنه، صوت المحرك يجعله يستشيط غضبا، يخرج لإبعادهم فورا بينما يشير للشاب الوحيد بين أفراد المجوعة صارخا: «مرحبا دينيس هوبر». ودينيس هوبر هو بطل ومخرج فيلم «Easy Rider» الذي كان نجاحه الكبير إرهاصا بنهاية هوليود القديمة.

بعد لقاء قصير بين ريك ووكيل فني يقوم بدوره آل باتشينو، تنفتح عيناه على حقيقة انحسار نجوميته، وبعد هذا المشهد بينما يستقل سيارته إلى جوار دوبليره، تمر بالقرب منهما سيارة بولانسكي وتيت، يخبر ريك كليف  أن لقاء معهما ودورا في فيلم لبولانسكي قد يعيدانه للنجومية من جديد.

كان بولانسكي قد عرض له في ذلك الوقت بنجاح كبير فيلمه «طفل روزماري Rosemary’s Baby»، وبدت مسيرته واعدة جدًا في هوليوود. وهو ما يحدث في نهاية الفيلم حين تجذب الضجة الحادثة في منزل ريك انتباه شارون وأصدقائها في المنزل المجاور، تدعوه لتناول مشروبا معها، يوافق، تنفتح البوابة ويدلف للداخل، نشاهد من زاوية علوية شارون تستقبله أمام مدخل مسكنها، تحتضنه ثم يختفي الجميع داخل مسكنها. هنا يبدو أن الحظ أو الرب قد ابتسم لريك دالتون وشارون تيت.