شوف إنت لما المزين (الحلاق) مننا يحلق لواحد ميت، وإزاي طول الحلاقة يقدر ميفتحش بقه بكلمة. ملعون أبو الفلوس اللي تخلي الواحد ميتكلمش.
الأسطى محمد – عفاريت الأسفلت

بعد 4 أفلام فقط قدمها المخرج أسامة فوزي يرحل فجأة دون مقدمات أثناء تحضيره لفيلم جديد، ليترك لنا: «عفاريت الأسفلت» 1996 – «جنة الشياطين» 1999 – «بحب السيما» 2004 – «بالألوان الطبيعية» 2009.

من النادر أن ينجح مخرج في ترك علامة حقيقية في فيلمه الأول، ثم يؤكد مع فيلميه الثاني والثالث أن نجاحه لم يكن صدفة، وأنه مخرج لديه رؤية حقيقية، بل يستطيع تقديم فيلم شديد التفرد هو «جنة الشياطين». ورغم أن فيلمه الأخير لم يكن على المستوى الأمثل، خاصة إذا ما قورن بسابقيه، إلا أن خصائص المخرج لا تزال حاضرة فيه، وهذا هو ما سنفرد له السطور التالية. أسامة فوزي وسينما المؤلف.

مفهوم «سينما المؤلف» لا يعني بالضرورة أن يكون المخرج هو نفسه كاتب السيناريو كما هو شائع، بل أن يكون لديه من الأسلوب والخصائص ما يميز أعماله بشكل واضح، وبالشكل الكافي ليُنسب العمل إليه.

لهذا ليس كل مخرج جيد هو مخرج مؤلف بالضرورة، هناك من يجيد الحرفة ويدرك كيفية صناعة فيلم جيد، وهناك من يجيد الحرفة ويمنح الفيلم جزءًا خالصًا منه هو شخصيًّا، وسم لا يمكن مشاهدته لو أعطينا نفس السيناريو مخرجًا آخر، وبعبارة أخرى، الفارق هو بين أن نقول هذا العمل «من إخراج فلان» أو نقول هذا فيلم «لـ فلان».


مثل القطيفة

أهو أنا القطيفة عندي زي النسوان، الحتة الغالية تعرفها أول ما تبص فيها. زي الواحدة الحلوة قبل الجواز، تبقى خايف لا تكون الحلاوة برّاني، تعرف إنها أصيلة بس بعد الجواز. وكل ما تقدم كل ما تعتق في الحلاوة.
صالح ماسح الأحذية – عفاريت الأسفلت

رغم كون «عفاريت الأسفلت» فيلمًا مميزًا، فإنه من الصعب تحديد أسلوب المخرج عادة من فيلم واحد، ولهذا فكما يتحدث صالح (لطفي لبيب) عن القطيفة، ينطبق الأمر على أفلام فوزي، فمع كل فيلم جديد نكتشف الكثير عن أسلوبه المميز.

العلامة الأولى التي يمكن الوقوف عندها هنا هي إعطاء طابع خاص لكل فيلم، مناسب لطبيعة وموضوع العمل. في «عفاريت الأسفلت» نشاهد الإخلاص الشديد للواقعية، بداية من ديكورات البيت القديم، أو موقف الميكروباصات مكان عمل سيد (محمود حميدة)، ثم الانتقال لسوق وكالة البلح، والإحساس بتفاصيل هذا المكان من نداءات الباعة وطريقة عرض البضائع، ولا يمكن نسيان الفرح الشعبي في الحارة بالطبع.

ليس على مستوى الشكل فقط، بل إن الشخصيات وطبيعة علاقاتها شديدة الواقعية، شخصيات من لحم ودم يمكن مقابلتها، مفاهيم الخيانة والوفاء لديها مختلّة ومختلطة، بل إن تقدير النفس أيضًا مختل، حتى إن سيد لا يود لأخته أن تتزوج من رينجو (عبد الله محمود) الذي يشبهه.

لكن الواقعية تتوارى إلى حد ما في فيلمه الثاني «جنة الشياطين»، القاهرة التي كانت ممتلئة بالبشر في مشاهد فيلمه الأول تبدو الآن كمدينة أشباح. لا نشاهد بشرًا في الشارع ولا سيارات غريبة تقريبًا إلا التي في مشهد الحادث، والعلاقة بين الشخصيات غامضة ومحيّرة.

في الفيلم الأول نجد أن الإضاءة قوية في أغلب المشاهد، واللقطات أغلبها من الحجم المتوسط، يمنح هذا المشاهد حالة شعورية محايدة من الشخصيات، لا تدفعه إلى جانب معين من التعاطف أو النفور، ليحدد موقفه في النهاية بعد أن يشاهد كل جوانب هذه الشخصيات، المشهد الذي يختزل هذه الحالة مشهد الأسطى محمد (حسن حسني) وهو يحكي حكايته الأخيرة عن هارون الرشيد وإبراهيم الموصلي، في لقطة متوسطة طويلة نسبيًّا تبدأ الكاميرا من عند سيد ثم تتحرك لتعرض لنا كل الشخصيات الأخرى تصغي، والمشاهد يشاهد كل هؤلاء ويستمع أيضًا كأنه معهم.

تختلف الحالة الشعورية التي يصدرها في «جنة الشياطين» كلية، هذا الفيلم مُقبض منذ أول مشاهده وحتى نهايته، يصعب أن ينتهي المشاهد من هذا الفيلم وهو في مزاجٍ رائق ومتعاطف مع الشخصيات. منذ المشهد الأول يؤسس المخرج للطبيعة المظلمة التي ستكمل معنا حتى نهاية الفيلم، الإضاءة محدودة، وعادة تضيف إلى رهبة المشهد مثل إضاءة الشموع حول الصندوق الذي يحتوي على جثة طبل (محمود حميدة).

يزداد عدد اللقطات القريبة والكثير منها لوجه طبل الميت، لا تمنح اللقطات القريبة في هذا الفيلم تفاعلًا أكبر مع الشخصيات، بل على العكس تعطي شعورًا بالضيق وبالحصار، خاصة في اللقطات القريبة داخل السيارة، هذه الشخصيات محاصرة داخل عقلها الذي لا يُدرك الواقع، ومحاصرة داخل هذه السيارة، والمشاهد يجب أن يظل مُحاصرًا معهم.

هذان الفيلمان رغم اختلاف طبيعتهما، لكنهما يوضحان قدرة أسامة فوزي على تأسيس وخلق حالة شعورية مناسبة لموضوع الفيلم، ومن ثم تصديرها للمشاهد، وهو ما استمر أيضًا في فيلميه التاليين.


خيال أم واقع؟

وديدة – جنة الشياطين

في أفلامه الأربعة نجد مزجًا واضحًا بين الخيال والواقع بنسب متفاوتة. في فيلمه يقدم الأول مشهدًا ينتمي للواقعية السحرية، بينما فيلمه الثاني بأكمله يمكن تصنيفه داخل الواقعية السحرية، وفي فيلميه التاليين نجد حضورًا واضحًا للخيالات في ذهن الشخصية الرئيسية، مُجسدة على الشاشة.

الواقعية السحرية هي إضافة ما ينتمي إلى السحر أو القدرات غير العادية إلى العالم الواقعي، الأمر لا يشبه الفانتازيا، فلا يوجد تأسيس لعالم مختلف ذي قواعد مختلفة، لكنه نفس العالم الطبيعي بأغلب قواعده لكن مع ظهور بعد التفاصيل غير الطبيعية، أو التي لا تخضع لقواعد هذا العالم.

أثناء حكاية الأسطى محمد عن الجارية التي اتفقت على وضع ساقها في ماء الورد حتى ترشد حبيبها إليها، نشاهد الشخصيات الأنثوية في الفيلم، كل واحدة تمد ساقها خارج النافذة ليقترب منها الشخص الذي يحبها ويدخل إلى حجرتها، ثم تظهر الشخصية التالية ويتكرر الموقف، نفس النافذة ونفس الحجرة باختلاف الشخصية في كل مرة، وهكذا حتى نشاهد كل الشخصيات. هل هذا حلم؟

يمكن اعتبار المشهد مجرد خيال يدور في أذهان الشخصيات أثناء الاستماع للحكاية، لكننا مع آخر شخصية تمد ساقها نجد حلزونة المتأخر عقليًّا (ماجد الكدواني) يقترب من النافذة ليظهر سيد ويضربه ويطرده بعيدًا قبل أن يدخل الحجرة إلى حبيبته، بينما يبتعد حلزونة ويلتقي شخصية أخرى، وهكذا ينهار الحاجز بين واقع الفيلم والخيال.

في «جنة الشياطين» يمكن اعتبار أن الشباب الثلاثة مغيبون، ولا يدركون أن طبل، المرافق لهم، هو جثة، وبالتالي فإن تفاعلهم معه ليس إلا هلوسة، لكن ماذا عن العبارة المذكورة في بداية هذه الفقرة، السيدة التي بكامل قواها العقلية التي تلوم طبل الميت على ضحكه مع هؤلاء المتشردين؟ ماذا عن الابنة (كارولين خليل) التي تطلب من طبيب الأسنان أن يضع لأبيها الميت أسنانًا من عظم لأنه يمكن أن يأخذ الأسنان المعدنية ويبيعها؟

يأخذنا أسامة فوزي إلى جانب آخر عندما نستمع في شريط الصوت بالفعل إلى صوت ضحكات طبل، وعندما نشاهده يمد لسانه ليلعق قطرات الخمر، هل لدينا شك أنه ميت؟ بالتأكيد لا، وهل ينتمي ما يفعله إلى أخلاق الموتى بالتأكيد لا أيضًا. لكنها الحالة التي يُدخلنا فيها المخرج منذ أول الفيلم فلا ندرك أبدًا الواقع والخيال.

تزداد الأمور وضوحًا في فيلميه التاليين، إذ تصبح الخيالات واضحة وتدور في أذهان صاحبها حتى وإن رأينا انعكاسها أمامنا.

نشاهد أحلام الطفل نعيم بأنه في الجنة عندما يدخل إلى السينما في «بحب السيما» لنجد العاملين في دار العرض يصبحون بجناحات وأكاليل مثل صور الملائكة، ونشاهد يوسف في «بالألوان الطبيعية» تصاحبه الخيالات طوال الوقت، منذ بداية الفيلم يتخيل أمه في لجنة الامتحانات، ويتخيل الداعية الإسلامي في غير مكانه، وتصاحبه أيضًا خيالات لفتاة الليل التي شاهدها مرة واحدة.


معالجات مختلفة للموت

سامعين؟ بيضحك دلوقتي، فضل مكشر لغاية ما جم الألاضيش بتوعه.
أنا دايمًا خايف منك. نفسي أحبك زي ما تكون أبويا.
عدلي – بحب السيما

لا يمكن مشاهدة أفلام أسامة فوزي دون الوقوف عند تيمة الخوف، دائمًا الخوف حاضر.

في فيلمه الأول كان الخوف حاضرًا بالكثير من أشكاله، خوف انشراح (سلوى خطاب) من العنوسة، وخوف سيد من العجز الذي نشاهده في تعامله بجفاء مع الفتاة المتأخرة عقليًّا في بداية الفيلم ثم مع حلزونة في نهايته، لكن الخوف الأبرز والحاضر في كل أفلام فوزي، هو الخوف من الموت.

نجد شبح الموت مخيمًا على الأجواء طوال الوقت في «عفاريت الأسفلت» في كلام الأسطى محمد وهو يتحدث عن الحلاقة للموتى، وعن عدم إمكانية أن يحكي لهؤلاء الموتى حكاياته، إلى أن يجد نفسه في قلب هذا الموقف الذي يخشاه. ويحضر الخوف من الموت أيضًا على لسان الأب عبد الله (جميل راتب)، عندما يتحدث عن انتظاره الموت بالربو مثل بقية عائلته.

لكننا في «عفاريت الأسفلت» نشاهد حالة الترقب والتفاعل الهادئ والطبيعي مع الموت، خاصة والميت شخص عجوز بالفعل، بينما ينتقل الأمر لمستوى آخر في «جنة الشياطين» الذي يبدأ هذه المرة مع الموت مباشرة، لنتابع تفاعل الشخصيات الغريبة المنقسمة بين عالمين مختلفين ومتناقدين مع الجثة، كل منهما يرغب في الاحتفاظ بها على طريقته، وكل منهما أيضًا يخشاها لأسباب مختلفة.

تستمر ثنائية الخوف والموت في فيلمه الثالث، يرتبط الخوف من الموت هنا بخوف آخر من العقاب في جهنم، والعلاقة المضطربة بالله سمة واضحة في شخصيات أسامة فوزي أيضًا، بوفاة الأب في «بحب السيما» ربما نشاهد للمرة الأولى في أفلامه من يموت وهو مرتاح، لكن هذا لا يستمر حتى النهاية إذ يُطل الموت بوجهه القبيح مرة أخرى مع نهاية الفيلم، وكأن المخرج يؤكد أنه لا يوجد تصالح مع الموت.

وحتى في فيلمه الأخير كان الموت حاضرًا، وإن لم يكن بنفس الشكل الذي شاهدناه في أفلامه الثلاثة الأولى، لكن لا زال حاضرًا في مشهد سريع عند موت الموديل عم محمود (سعيد صالح)، وهو الميت الوحيد في أفلام أسامة فوزي الذي شاهدناه يرجع إلى الحياة مرة أخرى، وربما أراد المخرج بهذا أن يسخر من الموت مرة واحدة في فيلمه الأخير.

في كل مرة نشاهد أن أسامة فوزي يهتم بجعل الموت مفاجئًا، لهذا غرض درامي لا يخفى على أحد، إذ إن هذه المفاجأة تترك أثرًا صادمًا على المشاهد، وفي نفس الوقت تحقيقًا لهاجس المخرج الذي يشعر بأن الموت ضيف ثقيل الظل لن يأتي بموعد مسبق، لكنه بالتأكيد لم يكن يعرف كم ستقترب أفكاره عن الموت من واقعه.