محاولة تقديم قراءة نقدية لفيلم سينمائي تم عرضه منذ ما يقرب من ثلاث سنوات تبدو غير معتادة، لكن المناسبة يعرفها الجميع في مصر، لدينا بطل لم يكن يعرفه أحد تقريباً وقتها، ولم يكن يعرفه الكثيرون أيضاً منذ شهر تقريباً، هذا البطل المغمور نجح في تحريك المياه الراكدة في مصر، شئنا أم أبينا فقد استطاع جذب اهتمام ملايين المصريين، فقط بواسطة كاميرا هاتفه المحمول، وذلك من خلال مجموعة فيديوهات هاجم فيها الحكومة المصرية والرئيس المصري.

اليوم لا نقدم تحليلاً سياسياً عن فيديوهات الفنان المصري وصاحب شركة المقاولات المنشق محمد علي، ولكننا عوضاً عن ذلك نحاول إعادة قراءة فيلمه «البر التاني» ، الفيلم الذي تم عرضه للمرة الأولى في نوفمبر 2016 ضمن الدورة 38 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، والذي قام بإخراجه علي إدريس وتأليفه زينب عزيز.

لنهتم بشكل خاص بالأداء التمثيلي لمحمد علي، الشاب المغمور الذي تمت مهاجمته بعنف حينها لتصدره الأفيش وحيداً، في فيلم قام بإنتاجه شخصياً، وبميزانية تخطت 27 مليون جنيه مصري، ليعود اليوم ليتصدر كل الأفيشات دون معدات أو إنتاج ضخم.

ولنحاول في ضوء هذه القراءة الوصول لإجابة عن مجموعة من الأسئلة المهمة،أولها، هل يقدم الفيلم رواية الدولة عن ملف هجرة الشباب فعلاً كما اتهمه كثيرون، أم أن للحكاية وجهاً آخر؟،وثانيها، ما سر هذا النجاح الجماهيري لهذا الشاب المصري الذي لا يملك من مقومات النجومية الكلاسيكية المصرية أي شيء تقريباً؟ وأخيراً كيف جرت محاولة الهروب الشرعية/ غير الشرعية الأولي؟ وهو سؤال بالتأكيد يلقي بظلاله على الحاضر.

عن الجنة التي في أوروبا

المتابع لفيديوهات محمد علي سيجد أنه دائماً وأبداً ما يعبر عن أمنيته بأن تصبح مصر مثل أوروبا، هذه الأمنية المعقدة للغاية، والتي تتطلب تغيراً مكتملاً في الملفات السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية، عادة ما يعبر عنها علي بشكل بسيط للغاية وكأنها أمر مسلم به. هذه الأمنية يمكننا أن نجد أصلها في هذا الفيلم، الذي يترك فيه ثلاثة شباب أسرهم حلماً بغد أفضل في أوروبا.

هكذا تدور أحداث الفيلم عن رحلة هؤلاء الشباب الثلاثة، سعيد وعماد ومجدي، يقوم بأدوارهم على الترتيب: محمد علي وعمرو القاضي ومحمد مهران، في الثلاث حالات تنبع الرغبة في الهجرة بالأساس نتيجة سوء الأحوال الاقتصادية في مصر.

نتابع وبتنويعات مختلفة حكايات عن ضيق ذات اليد، مرة نتيجة ركود الزراعة في حالة عماد، ومرة نتيجة عدم وجود عمل ثابت لأصحاب الأعمال اليدوية في حالة سعيد، ومرة أخرى نتيجة اقتران البطالة بالاكتئاب في حالة مجدي، يضاف لذلك لمحات عن قصص أخرى على الهامش تثبت لنا أن المشكلة عامة وليست شخصية، أبرزها حكاية زوج أخت سعيد والذي تعرض للاكتئاب وأوشك على الانفصال عن زوجته نتيجة بقاء في البيت دون عمل لفترة طويلة، كل هذا بسبب احتكار مشاريع الإسكان الجديدة من مجموعة مقاولين كبار لم يتم ذكر اسمهم.

كل هذا تقدمه لنا كاتبة السيناريو زينب عزيز لترسم لنا صورة سوداوية للغاية عن الحياة التي يهرب منها هؤلاء الشباب في مصر، حياة وعلى سوداويتها لا تخلو من بعض اللحظات الأسرية الدافئة التي يتصبر بها المصريون عادة على بلواهم.

هل هذه الرؤية توافق رؤية الدولة الرسمية التي تفضي بأن الشباب كسول وغير راغب في العمل، وأن الهجرة غير الشرعية تنبع في الأساس من أطماعهم دون رغبتهم في بذل الجهد؟ بالتأكيد لا.

على الرغم من هذا يمكننا تفهم الكتابات النقدية التي اتهمت الفيلم بمحاباة الدولة، خصوصاً بعد حضور العرض الأول للفيلم من قبل وزيرة الهجرة، مع ابتعاد الفيلم عن ذكر السلطة السياسية بشكل مباشر. لكننا في المقابل نجد وبأمانة شديدة أن معالجة إدريس وعزيز تحمل في طياتها نقداً اجتماعياً واضحاً للمتسبب في دفع هؤلاء الشباب للهجرة.

لماذا تمت دعوة وزيرة الهجرة إذن، ولماذا بدأ الفيلم بشكر السلطات المصرية؟

كاريزما ابن البلد

إذا أردنا وصف محمد علي، فلن نجد خيراً من وصف «ابن بلد»، قد يكون وصفاً نمطياً مكرراً، تم تكراره لسنين طويلة حتى فقد معناه، لكنه وللمفاجأة ما زال قادراً على التعبير عن كثير من الصفات الشخصية لهذا الشاب، نحن هنا أمام شخصية توحي لمن يتحدث معها بشيئين، «الجدعنة» و«الفهلوة»، وهي للفرصة السعيدة هنا مماثلة تماماً لصفات سعيد، الفتى القادم من ريف مصر في هذا الفيلم.

محمد علي ممثل مبتدئ لكنه يملك كاريزما من نوع خاص، يصبح من الغباء عدم الاعتراف بهذا خصوصاً في الوقت الحالي، لا يظهر الفتى هنا بملابس مهندمة أو مظهر الدنجوان، لكنه على الرغم من ذلك يفرض نفسه كبطل الفيلم الرئيسي، وهذه في الحقيقة ميزته الأهم. يمكن تصديق محمد علي بسهولة في دور العامل اليدوي في أعمال البناء، في حين يصبح الأمر مفتعلاً وكاريكتورياً إذا تخيلنا أحمد السقا مثلاً في هذا الدور، محمد علي/ سعيد صنايعي يمكنك رؤيته في كافة حواري مصر، فقير وغير متعلم لكنه يجبرك على الاستماع لحديثه الذي يقطعه دخان السجائر بين الفينة والأخرى.

يرسم علي إدريس وزينب عزيز شخصياتهم هنا ليقسما المآسي والمواهب عليهم أيضًا، «عماد» رب أسرة طيب القلب، «مجدي» فتى وحيد تربطه علاقة خاصة بوالدته، أما «سعيد» فهو صاحب المبادرة، سواء على مستوى المسئولية الأسرية، أو حتى إلقاء النكات وعبارت الغزل، يلزم هذا قدراً من الجدعنة بالإضافة للقليل من الفهلوة، وهو ما نراه متحققاً في محمد علي.

هروب مصري وصورة أوروبية

يبدأ الفيلم بإهداء لسينما محمد خان، المخرج المصري الكبير وأحد رواد سينما الواقعية المصرية الجديدة، الرجل الذي اعتدنا أن نشاهد في أفلامه أبطالاً مصريين حقيقيين، مهزومين عادة، يعانون أحياناً، لكنهم في كل الأحوال ما زالوا يحبون الحياة.

هذا الملمح يمكن رؤية أثره، ومع الفارق في جودة المعالجة، في هذا الفيلم، فنحن أيضاً أمام شباب مصريين مهزومين، لكنهم حالمون بغد أفضل.

يجمع علي إدريس هنا بين بعض سمات مدرسة الواقعية من خلال محاولة التصوير في مواقع تصوير حقيقية، وهي بيوت ريفية في إحدى قرى مركز زفتى بمحافظة الغربية في الفصل الأول من الفيلم، وسفينتان حقيقيتان إحداهما في الإسكندرية والأخرى في برشلونة، كما أنه أيضاً ينجح في صرف الحصة الأكبر من ميزانية الفيلم على معدات وتقنيات التصوير، والذي أشرف عليه بالإضافة لمدير التصوير المصري أحمد عبدالعزيز فريق متخصص إسباني، مما جعل منتج السينماتوغرافيا النهائي لمشاهد التصوير في عرض البحر ذات مستوى عال جمالياً وفنياً، وهو أمر لا بد من حسبانه للفيلم.

على جانب آخر يعاني الفيلم من عيب واضح بالخصوص في بناء الشخصيات وتطورها، وهو ما يفقدنا في كثير من الأحيان الشعور بالتواصل مع الأبطال الذين يعانون، وهو الأمر الذي يصنع الفارق الكبير بالتأكيد بين سينما محمد خان والبر التاني.

نصل في النهاية للسؤال الأخير، لمَ تمت دعوة وزيرة الهجرة لعرض الفيلم الأول، بالتحديد في نوفمبر 2016؟ تبدو الإجابة واضحة الآن، نحن أمام فيلم يعرض نهاية مأساوية لغالبية من يُقدم على الهجرة غير النظامية، وهو بالتأكيد أمر يرضي الدولة كما يتفق على احتماليته الجميع.

لكن السبب الأهم والذي يمكن الاستدلال عليه من تصريحات صناع الفيلم، هو أن وزيرة الهجرة قد تدخلت شخصيًا لمنح تأشيرات دخول إسبانيا لعدد من أبطال الفيلم، هذه التأشيرة هي التي منحت محمد علي ومن معه حق الذهاب إلى إسبانيا في المرة الأولى، وتأشيرة مشابهة بالتأكيد مُنحت بحجة تصوير فيلم جديد -الفرعون المصري- هي ما أمنت لمحمد علي هروبه الثاني، هروب لا نعلم حتى الآن كيف ومتى سينتهي، لكننا على الأقل نملك شريطاً سينمائياً يخبرنا عن الهروب الأول.