من القاهرة، ومن واحد من أحيائها الشعبية المهمة الذي يمثِّل بوجوده وناسه تاريخًا وثقافة خاصة، ينطلق الروائي أحمد يوسف شاهين ليكشف لنا عبر شخصيات روايته الجديدة ومن خلال علاقاتهم ومواقفهم وحياتهم، ما دار ويدور في القاهرة في السنوات الأخيرة.

الرواية الصادرة حديثًا عن دار «نهضة مصر» تقدِّم رؤية بانورامية للمجتمع المصري بطبقاته المختلفة، بالسادة والبسطاء، بالمسلمين والمسيحيين، بالرجال والشباب والنساء، كل منهم يظهر في الرواية ليحكي حكايته، وتتضافر خيوط تلك الحكايات لنخرج جميعًا معهم من «الأرض السودا» كما عبَّر عنها، والتي يظل أثرها وبقاياها عالقًا بنا وبهم، مهما ابتعدوا بالزمان والمكان!

حدثٌ بسيطٌ عابر، ينتج عنه سلسلة من الأحداث المتتالية التي تغيِّر في مصائر الشخصيات أبطال العمل، وتكشف لنا من جهةٍ أخرى جوانب خفيةً من حياة الناس في تلك المدينة التي كانت في وقتٍ من الأوقات قاهرة للغزاة فإذا بها تتحوّل لأن تكون قاهرةً لأبنائها الذين يسعون فيها باحثين عن شعاع أملٍ وحيدٍ تحت الشمس!

هي حكاية «ماهر مختار/مينا السرجاوي» ورحلته القاسية هربًا من الثأر وانتقالًا إلى تغيير ديانته، حتى يندمج في مجتمعٍ لم يكن ليتقبل اختلافه، وحكاية «الشيخ أمير» وسعيه الحثيث للمواءمة بين رغبات الحكومة والإسلاميين الذين أصبح لهم قوة وسلطانًا بعد الثورة، وحكاية الضابط «هاني عبد المسيح» الذي يُمارس عليه قهر من نوع آخر ويسعى للخلاص منه، وحكاية «مريم» و«هيثم» وهما يراقبان كل ما يدور حولهما من صراعات ومشكلات، وما يتورطان فيه من جانب آخر.

على طريقة تعدد الرواة، يصوغ «أحمد شاهين» روايته ويقسِّم الأدوار فيها بالتساوي بين أبطالها، ويجيد في جعل كل واحدٍ منهم يعبِّر عن نفسه بشكلٍ مستقل، حتى تكتمل الرؤية ويكتمل المشهد، من جهةٍ أخرى يتوجه كل بطلٍ في الرواية إلى القارئ بالحديث والحكاية، فيجذب انتباهه ويجعله متشوقًا لمعرفة بقية التفاصيل من خلال ذلك الخطاب المباشر الموجه إلى القارئ فردًا أو جماعة:

«المطرية» يا سادة، يا متحذلقين، مجروحة.. مثخنة بالجروح وثملى بكئوس الدم، شبعنا ثورة، وشهداء وإخوان ومظاهرات.. كفاية! هؤلاء هم أهلي في المطرية.. فلتنزل معي وتشاهدهم وتصافح أيديهم المعروقة مثلي.. فلتنزل من برجك العاجي قبل أن تنظِّر علي.. ولا تمصمص شفتيك هكذا! أخاف عليهم مثل أولادي الذين لم أرزقهم. لا تحدثني عن الانتصار لحقوق المهمشين من الدولة، وعن الحراك الشعبي.. وغير ذلك مما تحفظ أنت وأمثالك دون وعي ولا فهم. كيف تتصور أن هؤلاء سوف ينهضون من عثراتهم فيصيرون غير البهائم الذين هم على شاكلتها؟ أم أنك نسيت ما جرى من قبل؟ حينما خلت الساحة إلا من هؤلاء.. فاجتاحوا الأخضر واليابس؟ ولزاد الآخرة أكبر وأعلى.. وأوجب.. فلا يعقل أن يخسروا أخراهم بعد أن خسروا دنياهم بالفعل!

ينتقل السرد من شخصيّة لأخرى، وتتصاعد الأحداث، وتتعدد المواقف، ورغم ثراء شخصيات الرواية وحكاياتها، وما تحويه حكاية كل واحد منهم من مفاجآت واكتشافات، فإن الرواية لا تعتمد على عنصر المفاجأة وحده، وإنما تغوص في الجوانب الإنسانية لكل شخصية، وترسم عالمها بدقة، ويمهِّد الكاتب لكل حدثٍ من أحداث الرواية بالطريقة التي تليق به، حتى تكتمل الرؤية.

لا شك أن مواضع عديدة في الرواية كانت متقنة، بدءًا من اختيار العنوان «الخروج من الأرض السودا»، وخاصة حينما يدرك القارئ معناها وخصوصيتها، وحينما يعي بعد ذلك أنها تصلح كمعادلٍ موضوعي بسيط للوطن بكل ما يحويه من بشر وحضارةٍ وتاريخ، وما يجعل الناس يهربون منه ويبتعدون عنه بكل شكل وطريقة، ذلك أن أبطال الرواية كلهم، وعلى اختلاف طبقاتهم وثقافتهم سيجمعهم ذلك «الخروج» بعد أن ضاقوا ذرعًا بما في الأرض!

ربما يكون المأخذ الوحيد على الرواية هو غَلبة استخدام «العامية» في السرد والحوار على السواء، وعدم تمييز الكاتب أحيانًا لانتقال اللهجة العامية إلى حكاية أبطال الرواية في السرد، ولكن لعل ذلك يعود بالأساس لأن الشخصيات أغلبها من الطبقات البسيطة الفقيرة التي يكون تفكيرها وحديثها بنفس اللهجة.

في لحظات أشرد مع أفكاري خارج حجرتي ليلًا، في ظلام ميدان السنترال، وصمت الليل وأسأل نفسي: هل تركت نفسي، وروحي، تسبحان وتعيشان في أيام طفولتي، وكبرت في السنين وابتعدت عنهما؟ أبتسم لجنون أفكاري لكنني أعاود السؤال.. يبدو لي في أحيان عديدة أنني أنا، «مريم»، قد استللت جسدي وعقلي من جسمي النحيل الصغير منذ عشرين عامًا، حلقت فوق سماء الغرفة وفوق البيت.. عدت في جسد آخر.. جسد يافع لشابة يكثر خطابها.. وتسوقها أم لا يعجبها العجب، وأخ متنمر وأخت مثالية منعزلة.. جسد وعقل، لكن الروح ظلت حبيسة أيام الطفولة.. طفولتنا التي ازدانت بكل ورود الحب، ونقاء النفوس وهدوء الحادثات.

وهكذا استطاع «أحمد يوسف شاهين» أن يستعرض لنا من خلال أبطال روايته «الخروج من الأرض السودا» حال مصر والمصريين في فترات تاريخية مختلفة، حتى يصل بنا إلى الوقت الحالي وما شهدناه ونشهده في مصر بعد ثورة 2011، كما صوَّر في الوقت نفسه أحلام وآمال هذه الشخصيات على اختلافها، وسعيهم الحثيث نحو مستقبل مختلف، وكيف كان الواقع أقسى منهم في كل مرة!

أحمد يوسف شاهين روائي وأكاديمي مصري، كان من أوائل من رصدوا تغيرات المجتمع المصري بعد الثورة، كتاب «خلع ضرس مصر: تأملات في دوافع الثورة»، كما صدر له عدد من الروايات، منها ما تناول فيه الثورة بشكلٍ خاص، وهي رواية «ديجافو نمرة 9» الصادرة عن دار ميريت عام 2013، كما صدر له في العام الماضي رواية «أسيل» عن نهضة مصر.