لا يوجد بلد خانت نخبته الحاكمة شعبها من أجل مصالحها الشخصية مثل باكستان.
عمران خان

صوّت البرلمان الباكستاني، السبت، بحجب الثقة عن عمران خان، زعيم حركة «الإنصاف» الباكستانية الذي يتولى رئاسة الوزراء منذ عام 2018. الإطاحة برئيس الحكومة ليست أمرًا جديدًا على باكستان التي عرفت تاريخًا طويلًا من الانقلابات العسكرية، وحتى اغتيال الزعماء السياسيين، لكن الإطاحة بعمران خان جاءت فريدة من نوعها، إذ إنها المرة الأولى التي يتم فيها عزل رئيس الحكومة عبر البرلمان لا الجيش.

وكما كان صعود عمران خان إلى رئاسة الحكومة صاخبًا فإن رحيله منها أتى صاخبًا كذلك. قدم عمران خان نفسه كزعيم شعبوي قادم من خارج النخبة السياسية الباكستانية ذات التاريخ الطويل من الفساد، ومقدمًا وعودًا واسعة بالإصلاح على كافة المستويات. اليوم، يعاني عمران خان صدامات مع الجميع.

في مقابل عمران خان الشعبوي، يتزعم المعارضة حاليًا أحد رموز النخبة السياسية القديمة في البلاد، شهباز شريف، شقيق رئيس الوزراء السابق نواز شريف، ورئيس وزراء البنجاب- أهم ولاية في البلاد- ثلاث مرات. تعرض شهباز للاعتقال عام 2020 من قبل مكتب المحاسبة الوطني بتهمة غسل أموال، وتم إطلاق سراحه لاحقًا بكفالة، ومن المتوقع حال وصوله إلى السلطة أن يغلق مكتب المحاسبة هذه القضية بزعم تسييسها.

مجريات الأزمة

بدأت الأزمة عندما خسرت حركة «الإنصاف» الحاكمة بزعامة عمران خان أغلبيتها البرلمانية، بعد انشقاق عشرة من نوابها، وانسحاب سبعة نواب من حلفائها وانضمامهم إلى صفوف المعارضة. واستعدت المعارضة لإجراء تصويت لحجب الثقة عن خان في الثالث من أبريل/نيسان بعد اطمئنانها لامتلاك أغلبية تخولها ذلك. جدير بالذكر أن عمران خان كان قد اجتاز تصويتًا لسحب الثقة منه العام الماضي، بفارق 6 أصوات فقط.

الرد جاء أولًا من القيادي بالحزب الحاكم ونائب رئيس البرلمان، قاسم سوري، الذي ألغى عملية التصويت بحجة وجود اتصال مع دولة أجنبية لإحداث تغيير في الحكومة، وأن اقتراح سحب الثقة يخالف المادة 5 من الدستور التي تدعو إلى الولاء للدولة والدستور. أعقب ذلك قرار من الرئيس الباكستاني عارف علوي- ينتمي لحزب عمران خان أيضًا- بحل البرلمان، في خطوة صدمت المعارضة.

اتهمت المعارضة رئيس الوزراء «بالخيانة»، وتقدموا إلى المحكمة العليا للفصل في دستورية تلك الخطوات، ووصف زعيم المعارضة، شهباز شريف، قرار الرئيس بأنه «يوم أسود في التاريخ الدستوري لباكستان».

استبق عمران خان المحاولات الدستورية لعزله باللجوء إلى الشارع، وحشد أنصاره وألقى خطابًا حماسيًا أشعل به حماسهم، وشبّه موقفه بـ«معركة كربلاء» حين ضحى الحسين (رضي الله عنه) وأتباعه بحياتهم «في مواجهة عدو يفوقهم عددًا.. ليُظهروا للناس الفرق بين الحق والباطل». أعاد عمران خان التذكير بإصراره على التحدي حين قاد فريق الكريكت – اللعبة الأكثر شعبية في باكستان – للفوز ببطولة العالم، وطالب فريقه وقتها بالتصرف كالنمور المحاصرة، مذكرًا بأنه لن يستسلم حتى آخر رمق في المعركة ضد «الفاسدين»، وهو الوصف الذي يصف به النخبة السياسية المعارضة التي هيمنت على الحياة السياسية لفترة طويلة، ودعا إلى انتخابات مبكرة متحديًا المعارضة التي تتهمه بالفشل وفقدان الشعبية قائلًا: «لماذا يخافون الآن من الانتخابات؟».

تجمع المئات من أنصار رئيس الوزراء للاحتفال بفشل التصويت على حجب الثقة عنه، عند مدخل المنطقة الحمراء، حيث يقع مقر البرلمان والوزارات، في العاصمة، وهتفوا بشعارات ضد للمعارضة. إلا أن المعارضة تلقت نصرًا مؤزرًا من المحكمة العليا في باكستان، الخميس، فحكمت بعدم دستورية وقف التصويت على مذكرة سحب الثقة من الحكومة، وإلغاء ما بني على ذلك من قرارات، كحل البرلمان والحكومة والدعوة إلى الانتخابات المبكرة، وأمرت بعودة البرلمان للانعقاد مجددًا وإجراء التصويت على سحب الثقة السبت، 9 أبريل/نيسان.

عبر عمران خان عن شعوره بخيبة الأمل من حكم المحكمة رغم موافقته عليه، لكنه أوضح أنه لن يعترف بأي حكومة من المعارضة، وقال شهباز شريف، إن المعارضة رشحته لتولي السلطة في حال عزل رئيس الوزراء الحالي.

عمران خان يغير البوصلة الباكستانية

يؤكد عمران خان بإصرار على أن محاولات الإطاحة به جزء من مؤامرة تقودها الولايات المتحدة، وأعلن تقديم احتجاج رسمي للسفارة الأمريكية بخصوص هذا الأمر، غير أن مديرة الاتصالات في البيت الأبيض، كيت بيدينغفيلد، ردت بنفي وجود مثل ذلك.

شهدت باكستان في ولاية عمران خان الممتدة منذ 2018 تقاربًا مع الصين وروسيا وتباعدًا عن الولايات المتحدة، فلم يتحدث عمران خان مع الرئيس الأمريكي جو بايدن منذ وصوله إلى البيت الأبيض العام الماضي. في المقابل، زار عمران خان موسكو والتقى الرئيس فلاديمير بوتين في الكرملين في 25 فبراير الماضي بالتزامن مع الغزو الروسي لأوكرانيا، ليصبح أول رئيس وزراء باكستاني يزور موسكو منذ عام 1999. ربط عمران خان بين هذه الزيارة ومحاولات إسقاطه التي أكد أن واشنطن تقف خلفها، وهو ما لمحت إليه المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أيضًا، حيث أيد الروس اتهام عمران خان لواشنطن بالتدخل في الشؤون الداخلية لإسلام آباد.

رفض عمران خان إدانة غزو أوكرانيا رغم ضغوط الغرب، وبعد أن نشر رؤساء 22 بعثة دبلوماسية، منهم عدد من الدول الأوروبية، رسالة مشتركة في الأول من مارس /آذار تدعو إسلام آباد لإدانة العدوان الروسي، رد عمران خان عليها أمام حشد من مؤيديه قائلًا: «أريد سؤال سفراء الاتحاد الأوروبي: هل كتبتم مثل تلك الرسالة للهند؟ ماذا تظنون؟ هل نحن عبيد لديكم؟».

اتهم رئيس الوزراء معارضيه بتقاضي رشاوى من الأمريكيين لإزاحته عن السلطة، وأكد وزير إعلامه، فؤاد تشودري، وجود مؤامرة أجنبية وراء التحركات ضد الحكومة الباكستانية، قائلًا إنه في 7 مارس/آذار (أي قبل بدء المعارضة في أول إجراءات سحب الثقة من الحكومة بيوم واحد) وجهت دعوة إلى سفير باكستان في الأمم المتحدة لحضور اجتماع مع ممثلين عن دول أخرى، وتم إبلاغه بأن هناك تحركات ضد عمران خان.

وتابع وزير الإعلام: «أعلمونا أن العلاقات مع باكستان أضحت تعتمد على نجاح اقتراح سحب الثقة من رئيس الوزراء.. أخبرونا بأنه لو فشلت التحركات سيكون مسار باكستان صعبًا جدًا، فهذه عملية تستهدف تغيير النظام من جانب حكومة أجنبية».

وقال عمران خان، وكذلك نائب رئيس مجلس النواب، إن لجنة الأمن القومي الباكستانية التي تضم كبار قادة الجيش والمخابرات أكدت وجود مؤامرة للإطاحة به، واستند إلى خطاب مُرسل من السفير الباكستاني في واشنطن جاء فيه أن دبلوماسيًا أمريكيًا تفوه بعبارات غير مناسبة بحق عمران خان، وتعهد بمعاقبة إسلام اباد ما لم يتم سحب الثقة منه (يقال إن الدبلوماسي الأمريكي هو مساعد وزير الخارجية لشؤون جنوب ووسط آسيا دونالد لو).

فتّش عن «الجيش»

أتت هذه الأزمة كذلك بعد الخلافات التي ظهرت بين الحكومة والجيش الذي يمثل القوة السياسية الأهم في البلاد، حيث أزاح الجيش حكومات عديدة عن السلطة بطرق مختلفة، حتى أصبحت القاعدة عدم إتمام أي رئيس وزراء فترة ولايته البالغة خمس سنوات.

ساءت علاقة خان مع الجيش بسبب رفضه التصديق على تعيين رئيس جهاز المخابرات الحربية في أكتوبر/تشرين الثاني الماضي، الذي يُعتقد أنه مقرّب من الجيش، كما أن العديد من مؤيديه يدعمون الجيش بقوة، وقد أعلن، مؤخرًا، أنه والجيش على نفس الجانب، بينما نفت المؤسسة العسكرية وجود أي علاقة لها بالأزمة ووصفتها بأنها «مسألة سياسية بحتة».

لا يبدو الجيش راضيًا عن توجهات عمران خان السياسة الخارجية التي تسير في اتجاه الابتعاد عن الولايات المتحدة. ففي خطاب ألقاه في 2 أبريل/نيسان الجاري، قال رئيس أركان الجيش الباكستاني، الجنرال قمر جاويد باجوا، إن بلاده لها «تاريخ طويل من العلاقات الممتازة مع الولايات المتحدة»، مشددًا على أن الحفاظ على العلاقات مع واشنطن مسألة حيوية، وأعرب عن أسفه تجاه «العدوان» الروسي على أوكرانيا.

اللعب على الوتر الاقتصادي

اكتسب عمران خان شعبية كبيرة بسبب كونه متحدثًا لبقًا وخطواته لمحاربة الإسلاموفوبيا حول العالم ومواقفه في السياسة الخارجية التي تبدو أكثر استقلالًا من سابقيه، مما أكسب مواطنيه شعورًا بالفخر والاعتزاز. كما يرفع عمران خان شعار محاربة فساد الطبقة السياسية التي هيمنت على البلاد لفترة طويلة. لكن ارتفاع الأسعار مؤخرًا وهبوط قيمة العملة هبطا بشعبيته كثيرًا، وركزت المعارضة على هذه النقطة بالتحديد كونها أشد وقعًا لدى الناخبين من أي رؤى سياسية، فكثيرون لا يعنيهم حتى فساد النخبة من عدمه مقارنة بما يمس قوت يومهم.

وتسود الخشية حاليًا من إمكانية تدخل الجيش، بحجة معالجة الانسداد السياسي، وقد وصلت الأمور إلى مرحلة تبدو فيها البلاد مقبلة على عقد انتخابات مبكرة لكن المعارضة تريد أولًا هزيمة رئيس الوزراء. وقد يقدم نواب حزب «الإنصاف» الحاكم استقالة جماعية لقلب الطاولة على المعرضة والتعجيل بالانتخابات.