يعد الروائي السوداني «أمير تاج السر» واحدًا من الروائيين العرب المهتمين بتقديم «واقعية سحريّة» تنطلق من بيئة عربية خالصة، وهو قادرٌ في كل رواية من رواياته أن يقدّم عالمًا مختلفًا مليئًا بالحكايات المتشعبة وفي الوقت نفسه غير بعيدٍ عن تلك الواقعية السحرية التي ظن كثيرون أنها حكر على أدب أمريكا اللاتينية وعالمها.

ربما تجدر الإشارة هنا إلى أن مفهوم «الواقعية السحريّة» توسّع واختلف في استخدامه العربي عمّا عهده القرّاء في الأدب الغربي، اتسع ليستفيد من التراث العربي في القص والحكايات بدءًا من «ألف ليلة وليلة» وحتى يشمل كل القصص والحكايات الشعبية والغرائبية العربية التي تتخذ من الواقع أساسًا لها ثم ينطلق الكاتب منها بخياله إلى مساحات أرحب وأكثر ثراءً، وهو ما نجد له نموذجًا حيًا في عددٍ من روايات «أمير تاج السر»، منها هذه الرواية «جزء مؤلم من حكاية» الصادرة مؤخرًا عن دار نوفل.

نحن إزاء رواية تتأسس في الماضي في مملكة متخيّلة اسمها «مملكة قير»، ولكنها تقوم على الواقع وبتفاصيل واقعية وتجنح منذ البدايات إلى الغرابة والأفعال غير المفهومة من جميع أبطالها من الهامشي العابر وحتى البطل، القاتل الذي يجد نفسه مدفوعًا إلى مهنةٍ لم يخترها ولم يهيء نفسه لها بشكل مباغت:

في تلك اللحظة وجدت أنني بلا وعيِ مني مرتبط بتلك الكآبة، لم أكن مكتئبًا أبدًا، لم أكن أبكي ولا أتحسّر على شيء، ولا مرغت رأسي في الوحل، كما فعل البعض، لكن حماسةً مذهلةَ امتلكتني لإيذاء كائنٍ حي، أي كائن حي، حتى لو كان شجرةً أو وردة، أو نملة في جحر، أو صرصورًا أو حتى ذرة من طين يمكن أن تنبت الزرع، كانت غرابة شديدة أن جسدي تشنّج، يديَّ امتلكتا طاقة غريبة، وساقيّ ركضتا في الدرب بلا أي وهن، كنت أشهق ولا أعرف لماذا أشهق، أبحث عن شيءٍ غامض ولا أعرف ما هو، حين وصلت إلى بيتي وهدأت، كنت قد توصّلت إلى سرٍ كبير، سر أعرفه لأول مرة، هو أنني لست عاديًا، أنا طاقة شر، نعم طاقة شر مروّعة..

تتبع الرواية الأسلوب الدائري إذ تأتي البداية من أحداث غامضة غير مفهومة في مكان يدعى «مملكة طير»، ثم يعود الراوي السارد إلى حكايته القديمة في «مملكة قير» وما سبق تلك الأحداث لكي نتعرّف على تفاصيل حياته وحكاياته، ثم يرجع في آخر فصول الرواية للمشهد الذي كانت البداية منه في «مملكة طير» حيث النهاية.

اقرأ أيضًا:كتاب النحّات نحو واقعية سحرية مصرية

وبرغم أن الرواية تحمل بعض سمات الرواية البوليسية إذ إننا إزاء بطل قاتل محترف وصاحبه «صانع التمائم» الذي يكلفه بمهام القتل تلك، ورغم الجرائم المختلفة التي يقومون بها، إلا أن الراواية لا تسير على طريقة الروايات البوليسية في الإثارة والتشويق، ولكن على العكس من ذلك نتعرّف على كل جريمة من خلال الراوي، ويبقى في النهاية سره الأكبر و الجزء المؤلم الحقيقي في الحكاية هي المفاجأة التي يقدمها «أمير تاج السر» للقارئ في نهاية الرواية، بعد أن استطاع أن يمسك بتلابيبه في تفاصيل الحكايات العديدة الأخرى التي تكشف عن طبيعة شخصية البطل وصاحبه، والشخصيات الثانوية المختلفة من حوله.

ربما هي سمة خاصة تمّيز كتابة «أمير تاج السر» بشكلٍ خاص وواقعيته السحرية، ألا وهي الجمع في أسلوب «تيار الوعي» الذي تسير عليه روايته بين تداعي أفكار بطل الرواية وتداعي الحكايات التي يأتي ذكرها في الوقت نفسه، إذ يجد القارئ نفسه داخل تفاصيل عالم غريب متشابك، ولكنه لا يفلت زمام الحكاية الرئيسية.

وهي معادلة صعبة لا يقدر عليها إلا من احترف الكتابة، وأصبحت الحكايات أمامه سهلةً طيّعة يغترف منها كما يشاء وكيف شاء، نجد ذلك في عدد من حكايات وقصص الرواية الفرعية مثل حكاية «المريد» الذي كان ينشر أخبار المدينة، ثم يفاجئ الجميع أنه مات فجأة، وحكايات آخرين مثل الغجرية «كمّانة» وحكاياتها الغريبة، أو ذلك الفتى «خفير» الذي يأتي إلى البلدة فجأة ليغيّر مصائرها، وغيرهم من الشخصيات والحكايات الغرائبية التي ربما تعد سمة ثابتة في أعمال الواقعية السحرية، ويأتي ذكر بعضها مفصلاً وبعضها الآخر تكون الإشارة إليه سريعة وموجزة.

من ذلك مثلاً الحديث عن «بلد العميان» التي يمارس أهلها كل المهن والحرف رغم أنهم لا يرون، من ذلك العجوز التي سموها «العائدة» التي ماتت عشرين عامًا ثم عادت لتخبرهم عن الغيب، وأصبحت استشارتها أمرًا خطيرًا وهامًا للكثيرين، من ذلك حكاية «سلاملي الكذاب» وظهوره المفاجئ واختفاؤه أيضًا، من ذلك التداخل المستمر بين الواقع والخيال حتى في الحكاية الواحدة، لدرجة أن صاحب البطل يقول له «نحن داخل أسطورة يا مرحلي» والمفاجأة أن هذه الأسطورة تختفي أو تتلاشى بمرور الوقت.

كان سلاملي الكذاب وعائلته الشبحية، المكوّنة من امرأة وولد صغير يرصون الخشب لبناء غرفةٍ بجوار بيتي للمرة الثانية .. سلاملي .. لم يلتفت إليّ .. كان يعمل بسرعة والمرأة والطفل يساعدانه في رص الأخشاب وتثبيتها على الأرض .. أخذت أتأمّل ما يحدث وأنا في ذهول، وحين انتهى كل شيء .. وأصبحت غرفتنا بدلاً من واحدة واقفتين في المكان. ذهبت إليهم. وما إن صحت «يا سلاملي يا كذاب» حتى اختفى كل شيءٍ فجأة، الغرفتنا والعائلة، ولم أعد أرى سوى سكّان الخلاء المحيط بي .. أراهم من بعيد يتحركون بلا توقف وأرى أدواتهم تركض وتسقط وتقوم.

هكذا استطاع «أمير تاج السر» أن ينسج ببراعة واقتدار خيوط روايته، وعوالم شخصياته الفريدة في هذه الرواية، التي وإن كانت تنتمي إلى عالم الواقعية السحرية كما يراها ويرسمها، إلا أنها تمتلك فرادة وخصوصية في كل رواية عن غيرها، وهو قادرٌ في كل رواية أن يخلق عالمًا مختلفًا يتماس مع الواقع مرة، بل وقد يأخذ من التاريخ مرات عديدة، في حين يعتمد على الأسطورة والغرائبيات في أحيانٍ أخرى، وهو في كل هذه التجارب قادر على أن يجذب القارئ لعالمه مهما كان غريبًا وبعيدًا عنه بلغته الخاصة وحكاياته العديدة التي لا تُمل.

أمير تاج السر طبيب وروائي سوداني وصلت عدد من رواياته للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية وهي «صائد اليرقات» 2011، و«زهور تأكلها النار» عام 2018، كما حاز على جائزة كتارا في الرواية عام 2015 عن روايته «366»، يعد من أهم الروائيين المعاصرين وتلقى أعماله اهتمامًا نقديًا وجماهيريًا كبيرًا، ترجمت بعض أعماله إلى اللغات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية، يسعى في أعماله إلى التنوع والكتابة في أكثر من موضوع وبأكثر من أسلوبٍ وطريقة، وإن بقي متمسكًا بطريقة خاصة وأسلوب فريد يميزه عن غيره من الأدباء.