شهدت باكستان خلال الفترة الأخيرة تصاعدًا في أعمال العنف التي تقف وراءها حركة «طالبان باكستان» منذ أن سيطرت نظيرتها الأفغانية على كابل في منتصف أغسطس/آب الماضي، فقد شكل انتصار الأخيرة حافزًا لها في مواصلة معركتها ضد الجيش الباكستاني مثلما واصلت «طالبان» الأفغانية حربها ضد الجيش الأمريكي والتحالف الدولي، فزاد عدد الهجمات والتفجيرات الانتحارية التي تنفذها الحركة مما وضع إسلام آباد أمام تحد أمني كبير.

مجزرة «المسجد الأحمر»

قد نشأت الجماعة عقب مجزرة نفذها الجيش ضد جامعة المسجد الأحمر الإسلامية في يوليو/تموز 2007 في عهد الجنرال برويز مشرف الذي تحالف مع الولايات المتحدة ضد حركة طالبان الأفغانية، وخاض معارك دامية ضد الجماعات الإسلامية منذ مشاركته في الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001 وحتى نهاية عهده عام 2008 ليغادر البلاد بعدها ويصدر القضاء الباكستاني عليه حكمًا بالإعدام غيابيًا بتهمة الخيانة العظمى تم إلغاؤه في 2020 بعد اعتراض الجيش.

تمت إعادة بناء المسجد الأحمر بحكم قضائي لكن المجزرة التي كانت من أبرز أسباب تقويض حكم مشرف ظلت آثارها العميقة تقض مضاجع كثيرين، فقد راح ضحيتها حوالي ألف طالب بحسب تقديرات زعيم المعارضة قاضي حسين أحمد، وتحدث طلبة المسجد عن آلاف القتلى غير المعلن عنهم، بينما قالت الحكومة، إنهم أقل من مائة.

رغم أن المسجد الأحمر يقع في العاصمة فإن كثيراً من طلبته كانوا من مناطق القبائل التي تقطنها أغلبية من عرق البشتون، وبدوافع ثأرية اشتعلت هذه المناطق بعد المجزرة وأعلنوا إلغاء اتفاق السلام المبرم مع الحكومة وتأسّست حركة «طالبان باكستان» على يد بيت الله محسود، من تجمع عدد من الفصائل المقاتلة المقربة من حركة طالبان الأفغانية، وشكلت المواجهات مع طالبان باكستان استنزافًا للجيش وتشرد مئات الآلاف من البشتون في ظروف مأساوية بسبب القتال.

فلطالما كانت المناطق على الحدود مع أفغانستان ذات استقلال نسبي عن السلطة المركزية نظرًا لطبيعتها القبلية الخاصة لكنها اشتعلت بالعنف في عهد برويز مشرف ولم تهدأ حتى اليوم رغم الحملات العسكرية الباطشة والضربات الجوية التي لم تتوقف عبر سنوات طويلة وإعلان الجيش الباكستاني القضاء على الإرهاب هناك لكن ما كان يحدث في الحقيقة هو قتل المشتبه بانتمائهم لتلك الجماعات بينما ظلت المنطقة تفرز أعضاءً جددًا انضموا لصفوف الجماعات المُطاردة وحملوا السلاح ضد الجيش لتستمر مسيرة الدماء من دون أن تجد من يوقفها.

وقد قُتل مؤسس الحركة عام 2009 في غارة نفذتها طائرة من دون طيار أمريكية وخلفه حكيم الله محسود، الذي قُتل بهجوم أمريكي مماثل عام 2013، وحاول رئيس الوزراء الأسبق نواز شريف في بداية عهده إطلاق حوار مع الحركة لكن بعد اغتيال زعيمها اتهم وزير الداخلية الباكستاني الولايات المتحدة بإفشال جهود السلام لأن حكيم الله كان أعلن قبل اغتياله عن استعداده للدخول في عملية سلام، لكن خليفته الملا فضل الله، رفض إجراء أي مباحثات مع الحكومة.

ولما دخلت الحركة في العام التالي في مفاوضات انهارت سريعًا وعادت الهجمات والهجمات المضادة، وفي 2018 تم اغتيال فضل الله بنفس طريقة سابقيه في ولاية كونار الأفغانية القريبة من الحدود، ليتولى بعده مفتي نور محسود حتى اليوم، وقد نشر إبان توليه قيادة الحركة كتابًا له يكشف فيه مسؤولية جماعته عن اغتيال رئيسة الوزراء السابقة بينظير بوتو، التي كانت تعتنق المذهب الشيعي عام 2007.

وقد اتسعت دائرة النشاط هذه الحركة الدموية وتجاوزت مناطق البشتون إلى مناطق أخرى في البنجاب وبلوشستان، ونفذت عددًا كبيرًا من الهجمات الإرهابية ضد أهداف مدنية وعسكرية، لكن الحركة شهدت انشقاقات بعد ظهور تنظيم داعش الإرهابي في 2014، إذ انضم بعض منتسبيها إليه وانتشروا عبر الحدود ما بين غرب باكستان وشرق أفغانستان.

مبادرة عمران خان

جاء تولي عمران خان لرئاسة الوزراء عام 2018 ليجدد الأمل في إنهاء العنف نظرًا لصلاته الوثيقة مع الجيش وكذلك كونه من أبناء عرقية البشتون، ومن المناهضين للتبعية للولايات المتحدة، وكان أيضًا قبل توليه السلطة من المشاركين في الاحتجاجات ضد غارات الطائرات المسيرة في مناطق القبائل، والمطالبين بتنفيذ سياسة «الحدود المفتوحة» مع أفغانستان على غرار نموذج الاتحاد الأوروبي

كما أن حزب «حركة الإنصاف» الذي يتزعمه عمران خان حَكَمَ ولاية خيبر بختونخوا، شمال غربي باكستان، التي تعد معقل البشتون وتقع على الحدود مع أفغانستان، وينسب للحزب إدخال إصلاحات أسهمت في خفض العنف بالولاية بشكل ملحوظ، كما أن رئيس الوزراء الحالي له صلات مع الجماعات الإسلامية حتى إن خصومه أطلقوا عليه مسمى «طالبان خان» تهكمًا من ميوله للتقارب مع تلك الجماعات.

ولكن العنف لم يتوقف على الإطلاق بل تنافست الفصائل التابعة لطالبان باكستان مع داعش في تنفيذ الهجمات المميتة مخلفة أعدادًا متزايدة من الضحايا، كما شكل انتصار طالبان الأفغانية في أغسطس/آب الماضي حافزًا للحركة لتكثيف هجماتها لكن في نفس الوقت أعطى هذا الحدث دفعة لعملية السلام فالحركة الأفغانية تمتلك علاقات قديمة مع إسلام آباد، وقد تدخلت للصلح بين الطرفين باعتبارها وسيطًا مقبولاً منهما معاً.

وكشف عمران خان أن حكومته بدأت بالفعل حوارا مع الحركة معلنًا فشل الحلول العسكرية لهذا الصراع، وتعهد بأن تصدر الحكومة «عفواً عامًا» عن عناصر الحركة في حال ألقوا السلاح.

ولا تقتصر مهمة رئيس الوزراء الباكستاني على التفاوض مع جماعة متمردة فقط، بل إن المهمة الثقيلة تتمثل في رتق جروح مجتمعية غائرة يصل عمقها إلى عقدين من الزمان على الأقل، فأبناء عرقية البشتون الذين يتركز معظمهم في شمال غربي البلاد قد عُوملوا من باقي العرقيات على أنهم إرهابيون لمجرد انتمائهم الإثني رغم أن عددًا منهم انضم للحكومة في حربها ضد طالبان وتعرضوا في سبيل ذلك لهجمات الحركة، مما ولد حساسيات كبيرة لديهم حيال هذا الأمر.

وقد شرح عمران خان، المشكلة مؤخراً في حوار له مع موقع «ميدل إيست آي» البريطاني، قائلًا إن حركة طالبان أفغانستان حركة بشتونية لجأت إلى باكستان بعد دخول القوات الأمريكية أفغانستان، ولقيت دعمًا من قبائل البشتون بحكم الأواصر القبلية ثم بدأت القبائل التي ساعدت طالبان أفغانستان بتشكيل حركة طالبان الباكستانية للعمل ضد حكومة باكستان.

وقد أشعلت هذه التصريحات موجة من الغضب وسط أبناء القبائل الذين يسوؤهم ربط إثنيتهم بالإرهاب ورأوا فيها تعميمًا واختزالًا معيبًا، واتهم البرلماني محسن داور، عمران خان بأنه «صب الملح على جراح البشتون الذين فقدوا أقاربهم في الحرب ضد طالبان وجماعات الإرهاب»، وأعلن تقديم قرار للبرلمان يطالب رئيس الوزراء بالاعتذار، ووصف رئيس حركة حماية عرقية البشتون، منظور بشتين، التصريحات بأنها «غير لائقة» وتغطي ما وقع لأبناء جنسه من مظالم خلال السنوات الماضية بذريعة تحقيق الأمن والاستقرار.

ومع ذلك فقد لقيت مبادرة السلام الحكومية قبولًا واسعًا مع أنها قد تستغرق وقتًا طويلًا لتنفيذها وإقناع كافة الأطراف بها وتفكيك الحاضنة الشعبية لجماعات العنف في ظل غياب الثقة المتبادلة وصعوبة تصفية الروح الثأرية والفكاك من لعنة العنف والدماء.