في ليلة حافلة، صعد المخرج الكوري بونج جون هو ليستلم جائزة أوسكار أفضل فيلم، كأول فيلم غير ناطق بالإنجليزية يحصد الجائزة منذ تاريخ ظهورها، استلم بونج التمثال وألقى خطابه كاملًا باللغة الأم، رغم إجادته الإنجليزية، كيف لا يفعل ذلك والفيلم الذي جعله على رأس صناعة السينما في هذا العام، فيلم كوري بامتياز.

في الواقع، لقد فكرت في Parasite أثناء عملي في Snowpiercer، لم أرد فقط أن أعود إلى كوريا وأقدم فيلمًا بلغتي الأم، أردت أن أحمله بالتفاصيل التي تخص كوريا
بونج جون هو

آسيا والبدايات

اشتهرت السينما الآسيوية حتى نهاية الستينيات في القرن الماضي وصنعت مجدها على يد مجموعة من المخرجين، ما ميز هؤلاء الخمسة هو أن أفلامهم تنبع من مجتمعاتهم باختلاف الأسلوب السينمائي، الياباني أكيرا كوراساوا اشتهر بالملاحم شكسبيرية الأصل لكنها لم تخلُ من الأصل الياباني، عاد الياباني كينجي ميزوجوتشي بالكاميرا السائلة إلى تراث بلاده، اقترب الياباني ياسوجيرو أوزو بالكاميرا الصلبة من أعماق البسطاء، انتقد الياباني ماساكي كوباياشي الأحوال السياسية والاخلاقية في بلاده وأثر الحرب عليها، أما الهنديان ساتياچت راي وريتويك جاتاك فحملا على عاتقهما تقديم المجتمع الهندي إلى العالم.

في تلك الفترة كانت كوريا تعاني من ظلال الحرب الكورية حتّى وقف إطلاق النار في 1953، لم يجد المؤرخون دلائل كثيرة على وجود سينما في كوريا في ذلك الوقت، وظلت كوريا تعاني من القيود المفروضة على الفن بعد الحرب، وخصوصًا بعد الانقلاب العسكري في أوائل الستينيات.

حريّة وتطوّر ولكن

مع التقدم في الزمن وزوال الحكم الديكتاتوري وتولّي (كيم يونج سام) الحكم كأول رئيس مدني عام 1993 في فترة زمنية طويلة، بدأت السينما الكورية والحركة الفنية عمومًا في التقاط الأنفاس، في بداية الثمانينيات كانت معظم الأفلام إما كوميدية أو أفلام إثارة جنسية، في التسعينيات سمح الرئيس بإزالة القيود المفروضة على صناعة السينما، بل ودعمها كذلك، من هنا ظهر جيل من الفنانين الكوريين تحت ما سماه المؤرخون (الموجة الكورية الجديدة) موجة قادتها أسماء مثل بارك شان ووك، كيم كي دوك، لي تشانج دونج وكيم جي وون، هؤلاء المخرجون كان لديهم شيء خاص بهم، تأثروا بهوليوود والسينما الآسيوية على حد سواء، لكن أفلامهم غرقت في السوداوية والبشاعة. ذلك لأنهم خرجوا من رحم المعاناة وتأثروا بالحرب الكورية والتاريخ الكوري الحديث. ورغم الجهود المبذولة لم تستطع السينما الكورية مجاراة النجاح الذي حققته أفلام دول مجاورة مثل الصين وهونج كونج.

عالم خيالي وموتى أحياء

بنظرة سريعة يمكن استخلاص الملامح الأهم التي انتشرت في أفلام السينما الكورية، تدور الأحداث في عالم خيالي أو عالم يشبه الحلم، يسود فيه العنف والرغبة في الانتقام، وتعاني بعض الأفلام من الإفراط في مداعبة العواطف لدى المشاهد.

مثلًا تناول بارك شان ووك، في ثلاثية الانتقام، الرغبة السادية الخفية لدى الإنسان، تلك التي قد تدفعه لارتكاب أفعال في غاية البشاعة والعنف إذا لزم الأمر. وهو الأمر الذي أكده الفيلسوف الياباني (ياناجي سويتسو) منذ قرن كامل، حينما قال: إن الفن الكوري يحتوي على ما سماه (الجمال المؤلم). أما كيم كي دوك فقد استكشف المساحات بين الحقيقة والخيال وتحرك بينها بصورة روحانية وعاطفية جدًا.

في مساحة أخرى تحركت العديد من الأفلام وقدمت حكايات عن الموتى الأحياء (الزومبيز) الأمر الذي يمكن تفسيره بصورة سياسية تنتقد الاستعمار، الموتى الأحياء يتخذون الأقارب والأحباب كصورة أو جسد يحلّون فيه، كذلك الاستعمار الذي قد يبرر وجوده في أراض محتلة بالحماية أو المساعدة.

صانع حكايات مختلف

قدم بونج جون هو فيلمه الأول Barking Dogs Never Bite في بداية الألفية، ولم يكن جيدًا بشكل كاف، تلاه بالفيلم الذي صعد به إلى القمة Memories of Murder والذي تتبع فيه قصّة قاتل مسلسل أثار الرعب في البلاد في منتصف الثمانينيات. بعد ذلك قدّم في The Host قصة وحش يثير القلق وسط السكان، وحش مزيج من Godzilla و Jaws، وأصبح أكثر الأفلام الكورية تحقيقًا للإيرادات في زمنه ووضعه كونتن تارنتينو في قائمته لأفضل الأفلام في العشرين عامًا الأخيرة، بل إنه شبّه بونج جون هو ونجاحه في البداية بالمخرج الكبير ستيفن سبيلبيرج. كان بونج يريد من خلال The Host أن يقدم نقدًا شديد اللهجة إلى وجود قوات أمريكية في بلاده ولم يجد طريقة مناسبة لذلك أكثر من صناعة فيلم أمريكي الطابع والسمات، لكن تدور أحداثه في كوريا. السمة الأهم في أفلام بونج كانت أنها أقل سوداوية وحدّة وأكثر خفة من أقرانه في نفس الموجة.

أفلامي تحتوي ثلاثة مكونات، القلق والخوف وحس الفكاهة، عندما نضحك ينتابنا إحساس أننا نتغلب على مخاوفنا

طفيلي ونقطة تحول

الفيلمان السابقان لبونج جون هو، الذي درس الاجتماع وشارك في العديد من المظاهرات أثناء دراسته، من الممكن أن يتم تصنيفهما على أنهما فيلمان ينتميان لهوليوود، لم يصبهما الفشل سواء تجاريًا أو نقديًا، في Snowpiercer طارد هواجسه حول التغيير المجتمعي حتى في إطار عالم ديستوبي.

العديد من الناس يقاتلون من أجل تغيير المجتمع، أنا أحب هؤلاء الناس وأحاول دائمًا أن أبحث وراءهم، أنا لا أصنع فيلمًا وثائقيًا هُنا، ولا أسعى خلف تحقيق ضجة إعلامية، لا أخبر الناس كيف يغيرون من المجتمع ولا كيف يتصرفون عندما تجري الأمور بشكل غير جيد، فقط أكشف الحقائق.. هذا هو جمال السينما.
بونج جون هو

في Parasite يحقق بونج جون هو إنجاز ضخم، أصبح فيلمه أول فيلم غير ناطق بالإنجليزية يحصد أوسكار أفضل فيلم في تاريخ السينما، والأهم أنه يطارد فيه همه بأصالة حقيقية لكن بتميز واضح خلال المزج بين الأصناف السينمائية حتى خلال المشهد الواحد، يعيد تعريف الصنف السينمائي، هل Parasite فيلم درامي عائلي؟ أم كوميديا سوداء؟ أم فيلم تشويقي؟ أم رعب نفسي؟ أم هجاء للمجتمع وما وصلت إليه الأمور؟

الفيلم ليس حكاية عن صراع بين الأغنياء والفقراء، ليس هناك مذنبون أو أبرياء، وإنما الفيلم مُحايد جدًا، استنكار للتأثير الرأسمالي على المجتمع الكوري. الدوافع التي تحرك أبطاله ليست رومانسية ولا انتقامية، غريزية نعم لكنها ليست انتقامية، بونج يطارد الشعور الغريزي ورغبة الجنس البشري في التفوق، بارك لم يجن ثروته من الأعمال المخالفة للقانون، ولكن بعمل جاد وأمانة تامة، لكنه لا يتردد في إظهار احتقاره للطبقات الأدنى، والتعليق دومًا على رائحتهم السيئة.

العائلة الأخرى لا تفعل ذلك لأنها كسولة، لكن لأنهم يرون أنفسهم في وظائف أفضل من ذلك، ويقول بونج إنه فعل ذلك بناء على دراسات حقيقية في كوريا. في المقابل الفيلم ليس حكاية جيدة فقط، لكنه حكاية جيدة تُروى بشكل ممتاز جدًا، كل شيء في الفيلم يتصل بالآخر في دقة وتناغم يستحقان الاحتفاء.

في Parasite يفتح لنا بونج هو نافذة على المجتمع الكوري صاحب الخمسين مليون نسمة، خلال الأربعة عقود الماضية تغير شكل المجتمع الكوري، لم يعد الموظف يشعر بالأمان مع الوظيفة، تنقله من وظيفة لأخرى أدى إلى انكماش الطبقة المتوسطة، فالثروة تبنى على الفقر، والفقر والثراء في صراع مستمر، الفقراء يبتغون الثراء، ومن أجل أن يتحول شخص من فقير لثري هناك شخص ما يجب أن يصبح فقيرًا. صحيح أن رسالته عالمية وحكايته ستجد مسمعًا في أي مجتمع وليست حكرًا على كوريا فقط، لكنه يحكيها بأصالة من عصرته الطبقات الاجتماعية وعاش تجربة كهذه بالفعل.

الأمر الظاهري أن كوريا بلد غنية وفاتنة، لكن حقيقة الأمر أن الهوّة بين الأغنياء والفقراء تتسع، الجيل الشاب تحديدًا يشعر باليأس، وهنالك الكثير ممن يعيشون في أماكن خفية من المجتمع
بونج جون هو