بينما كان الخشداش «حسام الدين»، الذراع اليمنى لكبير مماليك السلطان المستنصر بالله، ينقب في أوراق أستاذه -تلك التي كان مؤتمنا عليها- بعد عهد من رحيله. إذا به يجد تلك المطوية التي يبدو من هيئتها أن الأستاذ لم يكن قد اطلع عليها قط. كانت رسالة من أحد مماليك السلطان إلى صديقه. يفضها:

«أما بعد، أكتب إليك اليوم بعدما كان من انقطاع الوصال، وافتراق اليدين عن المُضي متشابكتين في الدرب الوعر، وذُوي اللُقيا، وانفصال الكينونة الواحدة كينونتين، والحضور الممتزج حضورين متباعدين. أكتب إليك بعد استحالة الوجود عدما، والحضور غيابا، والشروق غروبا، والبزوغ أفولا، والطمأنينة رهبة. بعدما انتهى ما كان، ولم يكن ما خِلت أنه قد يكون.

أكتب إليك بعدما آل التلاقي إلى فراق، مثلما يؤول كل شيء إلى مقلوبه ذات يوم. بعدما تملكني الأمر وهيمن على وجداني، وأضحى الكتمان بمثابة الانتحار البطيء، فلم يعد لي إلا البوح، وأنت خير من أبوح إليه. أكتب إليك رغم بعد المسافات وتغير الأحوال وتبدل الأيام. بعدما اشتعلت الجذوة، فكادت تحرقني، بعدما أعيتني الصبابة، وأنحلنى الوجد، وشفني التوق المحرق. أكتب إليك راجيا أن تقرأ كلماتي، فتشاطرني همومي وأشجاني، وإن كنت أعلم أنك مُثقل بهمومك وتنوء بحمول أُخر، ولكن من لي غيرك أيها الأخ الصديق.

ولست محدثك اليوم لكي أقص عليك ما جرى قبل الافتراق، وما كان من فيض الأنهار قبل جفافها، وإقبال النسيم المعطر قبل إدباره؛ فتلك أمور أنت تعلمها إذ قصصتها عليك غير مرة في رسائل سابقة. وإنما غاية كتابي ومقتضى اتصالي البوح بعلة الافتراق، وسبب قطع الوصال. بادئ ذي بدء أيها الأخ الحميم، اعلم أن تلك هي آخر الرسائل، فليس ثمة ما يُحكى، إلا إن قضى الله بتجدد العبارة. لن أطيل عليك بسرد أمور أنت تعلمها، وأرجو أن تتحملني إن أطلت عليك فيما لا تعلم. والواقع أخي أنه لا يوجد سبب مستقل بذاته للفراق، أو مرجع أول يُرجع إليه، وإنما ثمة عدة من أسباب تجمعت كما الأحجار الصغيرة. ومبتدأ الأسباب خوفي من الفراق، وثانيها الجسارة في العشق. ولنا في كل علة تفصيل، فأرجو أن يتسع صدرك قليلا، بارك الله لك وأغدق عليك. أما خوفي من الفراق فذلك ممَّا لا أملك، كثيرا ما يكون خوفنا من تحقق شيء ما، وتوجسنا من وقوعه، دافعا لإتمامه، ومبتدأ لخبره، فإنني في أوج الحضور وغاية الوصال، أذكر الغياب، ويجول بخاطري الرحيل، فتنبجس الأشجان بين مفاصل فرحي، إذ تحاصرني الأسئلة وتكبلني، قائلة: متى الرحيل؟ متى الانفصال؟ أوليس كل تلاقٍ إلى فراق؟ وكل شروق إلى غروب؟ فلم التشبث والتعلق طالما أن الوجود منقلب لا محالة إلى عدم؟ والحضور منقلب عما قريب إلى غياب، كيف سيكون حالك بعد الرحيل؟ كيف ستفيض دموعك أنهارا يجرى فيها الشجن، وتحط قربها الطيور العابرة، فتقلب الأحزان جيدا، كي تذوب في خضم جريان الأنهار، أو ترشف قليلا من الدموع، فتتوحد أشجاني وأشجانها أجل يا صديقي، تنبجس أشجاني بين مفاصل الفرح، أرى المنتهى يلوح في الأفق قبيل البداية، وموت الأشياء في حياتها، أفولها في بزوغها، غروبها في شروقها، غيابها في حضورها، عدمها في وجودها. تشاؤمي -أنت تعلم- نابع من كثرة تجربتي وتكرر فشلي. كان هذا الخوف من وقوع الفراق سببا في وقوعه، فكنت دائما أقول لها عندما تسألني لماذا أبدو حزينا منكسرا، كنت أقول لها الحقيقة دونما زخرفة أو تورية، كنت أصارحها بخوفي من الفراق، ويقيني من أنه واقع لا محالة ذات يوم، بعد أو قرب، إلا أنه متحقق، فكنت أشعر أن تلك الكلمات تنزل عليها منزل السيوف والرماح على جسد عار، ولكن ما باليد حيلة، فلست أجيد الكتمان، وأنت سيد العارفين، وكنت إخال أن علمي باحتمال وقوعه سيخفف من وقع الصدمة، ولكن هذا لم يكن؛ الصدمة هي الصدمة، الفراق هو الفراق، والشجن كما هو؛ محرق. أما السبب الثاني أخي وصديقي الوحيد بعد أن ضاع الجميع في خضم دوامة الحياة، فيكمن في جسارتي في العشق، واستخراطي في الحب، والتمادي والمبالغة في التعلق، حتى استحال المعشوق داءً لا دواء له. لا الوصال يشفي ولا انقطاعه، الوصال يعد بالمزيد، فيعلم الطمع ثم تذوي لذته رويدا رويدا. وانقطاعه كقطع شرايين الحياة، على مهل.

موت بطئ. أجل، لقد همت بها، سكن قلبي حب لها لا يسع قلبا واحدا، لا لشيء فيها؛ لا لجمالها الفتي، ولا لأنوثتها الطاغية، ولا لحضورها الدائم الذي يضحي كل شيء أمامه ضئيلا ضئيلا، كل ما عساها يضمحل في وجودها. لا لم أستخرط في عشقها كل تلك العلل. وإنما لأن هذه إحدى خصالي، هذا ما وطنتني عليه الأيام، وعلمنيه الدهر؛ أن أفعل الشيء بكل جوارحي، وكأنني لن أفعله مجددا قط، فلاستمتع إذن بالقيام به على أكمل وجه، فمن يدرى أين أكون غدا؟ أين أكون بعد ساعات؟ بعد دقائق؟ بعد لحظات؟ ربما أكون ماضيا إلى حتفي، وربما أكون قد لقيته، فما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدرى نفس بأي أرض تموت. كان حبي لها جما، حبا اشتركت فيه كل ذرة فى تكويني، واختلجت له كل أوصالي، بينما لم يكن حبها لي –إن صح كونه حبا– مماثلا أو مناوحا، وإنما كان –أو هكذا رأيته– حبا على استحياء، حبا منقوصا غير كامل، وأنا بعادتي تسوؤني الأشياء المنقوصة، فما بالك بالمشاعر المنقوصة، وما بالك وأنت تقابلها بتلك الجسارة! آه يا صديقي! على قدر ما يكون دقة الشيء وشدة إخلاصه، على قدر ما تكون الصدمة شديدة وأحيانا غير قابلة للتدارك. كانت الصدمة مضاعفة، صدمة أنها لا تبادلني الحب بذات المقدار، وصدمة الفراق من بعدها، فكرت في الانتقام لذاتي، في الثأر لجسارتي التي ذهبت أدراج الرياح، ولكن لحظة أيها الجسور المستخرط. ما ذنبها كي تثأر منها؟ أنت أحببتها وهي لم تفعل فما ذنبها؟ الذنب ذنبك أنت، مذنب لأنك تماديت، مذنب لأنك نزلت إلى البحر العميق دون سابق معرفة بكيفية التصرف إذا ما هبت عاصفة هوجاء! كلا، لا ألومنها، وإنما ألتمس لها الأعذار، لماذا؟ لعلي مازلت بقلبها مرتهن، ما زال قلبي بقلبها متشبث رغم ما صار، ورغم علمي بأن عودة التلاقي في حكم المستحيل. فهل ينبعث الحطام حيا؟ ربما، إن قضى الله» والخشداش حسام لم يفهم لماذا لم يقرأ السلطان المطوية، وفكر أن الذي كتبها لابد شخص مقرب إلى الغاية. لكنه لم يفكر طويلا، ثم طوى الرسالة مجددا وألقاها بعيدا.