في مكتبها كزعيمة للديموقراطين وضعت نانسي بيلوسي شيئًا واحدًا على الجدران، صورة إبراهام لينكولن جالسًا على أرضية مجلس النواب. حرصت نانسي أن تكون الصورة  في مرأى الجميع، ومن لم يكن يراها كانت تشير إليه ليراها. وإذا ما اجتمعت مع رفاقها الديموقراطيين تُذكرهم بكلام لينكولن أن الشعور العام هو كل شيء. الكلمة بالنسبة لنانسي لا تعني اتباع الرأي العام، بل تشكيل الشعور العام ليتقبل الناس ما تريدهم نانسي أن يتقبلوه. عملية طويلة الأمد تتطلب تناغمًا في الرسائل وصبرًا وضغطًا مستمرين. تلك الدروس النظرية ستحتاجها نانسي في معركتها التي بدأتها مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

في 12 أغسطس/ آب 2019 ضابط استخبارات أمريكي سابق يرفع شكوى لوكالة الاستخبارات حول اتصالٍ لترامب أجراه في 25 يوليو/تموز  2019. محتوى الشكوى لم يُعلن حتى الآن، لكن بات من السهل التنبؤ بما فيها. قبل 20 يومًا من موعد رفع الشكوى دار حديث هاتفي بين الرئيس الأمريكي ونظيره الأوكراني. التكهنات كانت أن ترامب طلب من فلاديمير زيلينسكي مساعدته في حملته الانتخابية لولايته الثانية. لكن مايكل أتكينسون، المفتش العام لوكالات الاستخبارات، في جلسة إفادته المغلقة أمام الكونجرس لم يقم بتأكيد أو نفي تلك التكهنّات. مما دفع الديموقراطيين لمزيد من الشك ففتحوا تحقيقًا للبحث عما إذا كان ترامب قد طلب بالفعل مساعدة رئيس أجنبي في التأثير على ناخبي الولايات المتحدة أم لا.

السيناريو المُعتاد، الديموقراطيون يتربصون وترامب لا يبالي. أجابهم ترامب عبر تغريدة أن القصة غير صحيحة. لأنّه ببساطة يعلم أن مختلف الوكالات الأمريكية تتنصت على مكالماته الهاتفية، إضافةً إلى الجهات الموجودة في الدولة الأخرى. لذا استبعد ترامب أن يكون قد تحدث مع زيلينسكي في هذا الأمر غير اللائق، لكن ترامب عاد في 23 سبتمبر/ أيلول ليتراجع عن النفي ويؤكد أنّه تحدث مع الأوكراني عن بايدن وابنه. إذ صرّح بأنه تحدث إلى نظيره الأوكراني وقتًا طويلًا وتحدثا عن الفساد كثيرًا.

أردف ترامب أنه لا يريد أن يكون الشعب الأمريكي مثل بايدن وابنه. وصرّح ثانيةً بأنه سينشر نصًا موثقًا للمحادثة ليُنهي التشكيك في حديثه. صحيفة واشنطن بوست سكبت مزيدًا من الوقود على النار التي أراد ترامب إخمادها. قالت الصحيفة إن ترامب قدّم وعدًا غير عادي للرئيس الأوكراني. لم تُسمِ هذا الوعد، لكنّها وصفته على لسان مصادر لم تذكرهم أنه كان مقلقًا. كلماتٌ صنعت حربًا بين الاستخبارات والكونجرس من أجل معرفة محتوى تلك المكالمة.

محتوى المكالمة

لم يكن الكونجرس يعلم أن حربًا أخرى تدور داخل الاستخبارات الأمريكية حول نفس السبب. حين رفع ضابط الاستخبارات المجهول شكواه بعد اطلاعه على الاتصال، تلقاها أتكينسون باهتمام. قرر المفتش العام أن الشكوى ذات أهمية تستدعي إخبار لجان الكونجرس المختصة بمحتواها، لكن وزيف ماجواير، القائم بأعمال مدير الاستخبارات، رفض إطلاع الكونجرس. الأمر الذي زاد من إشعال نار الترقب لمعرفة ماذا قال ترامب في تلك المكالمة؟

في المكالمة طلب ترامب من نظيره الأوكراني التحقيق في اتهامات تخصص جو بايدن ونجله. صحيفة وول ستريت جورنال استخدمت تعبير الضغط لوصف كيفية طلب ترامب ذلك. التحقيق الذي ضغط ترامب لأجله كان متعلقًا بنفس ما فعله هو. أن جو بايدن قد ضغط على الجهات الأوكرانية لصرف مسئولٍ حكومي أوكراني من الخدمة. ضغط بايدن كان عبر التهديد بقطع المعونة الأمريكية عن أوكرانيا، والمسؤول محل الذكر كان مدعيًا يحقق في شركة غاز تخص جو بايدن.

اقرأ أيضًا: مايك بنس: الرئيس القادم بعد عزل ترامب

كما أضافت صحفٌ أخرى أن ترامب قد طلب من الرئيس الأوكراني أن يتعاون مع رودي جولياني، محامي ترامب الشخصي، من أجل البدء في التحقيق. ترامب وأنصاره ووزير خارجيته، مايك بومبيو، وقفوا جميعًا مدافعين عن المكالمة، وأنها لا تحتوي على ما قالته الصحف. لم تكن تلك الحادثة الأولى لإثارة التساؤلات حول بايدن ونجله، ففي وقت سابق لمح ترامب أن وجود هانتر، نجل بايدن، كعضو في مجلس إدارة شركة بوريسما الأوكرانية قد يُمثل تعارضًا في المصالح، خاصةً أن دخول هانتر للشركة عام 2014 جاء بعد فترة قصيرة من زيارةٍ قام بها والده إلى أوكرانيا.

أما نائب الرئيس السابق والراغب في مباركة الديموقراطيين لمنافسة ترامب الجمهوري، جو بايدن، فلم يصمت ولم يتحل بالدبلوماسية. صرّح وسط حشد من أنصاره بأن ما فعله ترامب كان مشينًا واستغلالًا فجًّا للنفوذ، فأوكرانيا تتطلع للحصول على أي مساعدة تمنحها لها الولايات المتحدة، وطلب أي شيء منها يعني ابتزازها بتلك المساعدات.

بايدن قلب الطاولة على ترامب قائلًا، إن تلك المحاولة دليل على إدراك ترامب أن بايدن سيهزمه ببساطة. لذا يسعى ترامب لاستغلال نفوذه بكل صورة ممكنة من أجل تشويه سمعة بايدن.

لكن وسط هذا الصراخ لم ينف بايدن ما فعله، بل أكده. بايدن قال إنه بالفعل ضغط لفصل هذا المسؤول الأوكراني لكن ذلك كان مطلبًا مشتركًا بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والسبب أنه فشل في تعقب وقائع فسادٍ كبرى.

الكونجرس ينقلب

عزل أعضاء المجلس أنفسهم بعيدًا عن صراخ الطرفين بحثًا عن الحقيقة. آدم شيف، رئيس لجنة المخابرات بمجلس النواب، قال إنه إذا ثبت ضغط ترامب على أوكرانيا فإنه لا مفر من مساءلة ترامب قانونيًا. تصريحٌ دبلوماسي محايد لكنّ المميز فيه أنّه يختلف عن تصريح نفس الشخص سابقًا. فآدم كان مُحجمًا عن الدعوة لمساءلة ترامب، وتبدُّل موقفه ربما أتى من استماعه للمكالمة، مما يعني احتواءها شيئًا مُدينًا لترامب.

في يوليو/ تموز 2019 قال آدم إن السبيل الوحيد لمغادرة ترامب السلطة هو بخسارة انتخابات 2020. وشجع الديموقراطيين للتركيز على ضمان إقبال الناخبين للتصويت لهم. لكن في 22 سبتمبر/ أيلول 2019 صرّح بأنه إذا كان ترامب يحجب المساعدات العسكرية من أجل الضغط على زعيم أجنبي لتلويث مرشح أمريكي أثناء حملة انتخابية فإن مساءلة ترامب قانونيًا قد تكون العلاج الوحيد لمعادلة الشر الذي يمثله هذا الفعل.

اقرأ أيضًا: من نيكسون إلى ترامب: كيف تتحول المأساة إلى مهزلة؟

لم يكن آدم وحده من غيّر رأيه، نانسي بيلوسي فعلت أيضًا. حتى نهاية 24 سبتمبر/ أيلول 2019 لم توافق رئيسة مجلس النواب وزعيمة الديموقراطيين فيه على بدء إجراءات مساءلة ترامب. كما صرحت في مارس/ آذار 2019 بأن ترامب لا يستحق العزل. موقفها الوحيد كان تحذيرات موجهة للإدارة الأمريكية من إبقاء الشكوى ومحتوى المكالمة طي الكتمان. بيلوسي كانت تواجه ضغطًا متزايدًا من أبناء حزبها لإعطاء الضوء الأخضر لهذه الإجراءات، لكنّها أصرت على الرفض مع تحذير ترامب بأنها ستفعل إذا قادتها الحقائق لذلك.

الحقائق التي تحاول نانسي الوصول إليها عبر أكثر من 20 تحقيقًا موسعًا يجريها الكونجرس في قضايا متعددة. لكن حتى تلك التحقيقات لم تسلم من محاولات العرقلة من قِبل ترامب وإدارته. الأمر الذي لم يدع أمام مجلس النواب وزعيمته مفرًا من بدء إجراءات مساءلة قانونية كي تستطيع ممارسة سلطتها الرقابية بفاعلية. إذ إن فتح هذا التحقيق  سيعطي الكونجرس نفوذًا أكبر أمام القضاء الأمريكي، كما سيمنحه حق إجبار الشهود على المثول للشهادة في المحاكم.

البورصة تنهار وترامب باق

البورصة لا تنتظر القرارات، حالة عدم اليقين كافية لإزعاجها. لذا شهدت البورصة انخفاضًا ملحوظًا بعد ساعات قلائل من إعلان بيلوسي البدء في إجراءات المساءلة. يتطلع المستثمرون لانتهاء الأمر سريعًا كي تسترد البورصة عافيتها، لكن شخصًا آخر لا يريد لهذا الأمر أن يبدأ، مُقدّم الشكوى المجهول. أول خطوة سيقوم بها المجلس في الأيام المقبلة هى طلب الكشف عن مُقدّم ومحتوى الشكوى. نانسي وستيني هوير، زعيم الأغلبية، أعلنا أنهما سيطلبان أيضًا حماية هذا الشخص. لكن الحماية  لا تدوم إلى الأبد، وغضب ترامب وأنصاره المتعصبين من الممكن أن يدوم.

إجراءات المساءلة التي بدأتها نانسي ستحقق لها ما أرادت من إثبات أنه لا أحد فوق القانون. فهى حاليًا ترى ترامب قد ارتكب انتهاكًا خطيرًا للدستور الأمريكي، ويستحق العقاب. كما تشكل فصلًا جديدًا في السياسة الأمريكية بعد سنوات من الحذر الديموقراطي في التعامل مع ترامب. لكنه أيضًا قد يؤدي لانقسام البيت الديموقراطي بين مؤيدي العزل الراغبين في إزاحة الجمهوري مهما كانت العواقب، ورافضي العزل خوفًا من آثاره السياسية خاصةً مع اقتراب انتخابات عام 2020.

اقرأ أيضًا: ترامب يرقص العرضة السعودية، والبيت الأبيض يبحث إجراءات عزله

بدأ ترامب بالفعل يقلب الجمهور ضد الحزب الديموقراطي بسلسلةٍ من التغريدات يتهم فيها نانسي ورفاقها أنهم اختاروا 24 سبتمبر/ أيلول تحديدًا للتشويش على إنجازاته في الجمعية العامة للأمم المتحدة. قد يستفيد ترامب من هذا القرار إذا لم يتم توجيه اتهام رسمي له في نهاية المطاف. فالبدء في إجراءات المساءلة القانونية والإعلان عن خوض تحقيق رسمي لا يعني أبدًا أن ينتهي الأمر بتوجيه الاتهام رسميًا لترامب.

هناك ارتفاعٌ معقول لسقف التوقعات يولد من أن بيلوسي والديموقراطيين الرافضين لم يكونوا ليغيروا موقفهم المُتجذّر في الرفض لولا وجود أدلية قوية وعلمهم أن بإمكانهم توجيه الاتهام الرسمي في النهاية. لكن رفاق ترامب الجمهوريين يسيطرون على مجلس الشيوخ، وبإمكانهم تبرئته من أي تهمة تُثبتها عليه لجان التحقيق، وعليه فلا ينبغي أن يرتفع سقف التوقعات أكثر من اللازم.

 وأخيرًا يمكن القول إن التحقيق مع ترامب دون عزله يعني بالتبعية فوز ترامب في الجولة الثانية. فتكون نانسي بذلك قد شكلت الشعور العام في الاتجاه المعاكس لرغبة لينكولين المُعلّق على جدار مكتبها.