هل حاولت من قبل؟ هل فشلت؟ مهما يكن، حاول مرة أخرى، افشل مرة أخرى، افشل على نحو أفضل.
الكاتب الأيرلندي صامويل بيكيت

بهذه الكلمات يختتم «بيتر دينكلاج Peter Dinklage» خطابه في جامعته التي تخرج فيها، جامعة بيننجتون، حين دعي إليها عام 2012 للحديث أمام طلابها عن تجربته الملهمة في الحياة. صار دينكلاج الآن معروفًا من الجميع، وذلك بعد دوره الأيقوني في المسلسل التليفزيوني أسطوري النجاح «صراع العروش Game of Thrones»، الذي أنتجته شبكة (HBO) اعتمادًا على سلسلة روايات «أغنية الجليد والنار» للروائي جورج أر.أر. مارتن، لكن طريقًا طويلًا وشاقًّا قاده إلى تلك اللحظة.


قدرٌ يختارك، وقدرٌ تختاره

تحديدًا 17 أبريل 2011 حين بدأ عرض الموسم الأول من هذا المسلسل. هذا تاريخ فاصل في حياة بيتر دينكلاج ومسيرته المهنية. يمكننا أن نقول إن مصيره تغير منذ هذه اللحظة وإلى الأبد. مساحة الضوء التي احتلها، والنجاح المستحق الذي حققه لينكلاج من خلال أدائه لشخصية تيريون لانيستر، هما بمثابة تتويج مستحق لعقدين من المعاناة والمقاومة والتشبث بأهداب حلمه المراوغ، حلمه الذي لم يؤمن به سواه، وقلة قليلة رأت موهبة لا يمكن إنكارها في هذا الإنسان الصغير الذي يبلغ طوله 135سم.

كان القزم الوحيد في عائلته ومدينته، وكأن قدره منذ البداية أن يلفت الأنظار. ولد بيتر عام 1969 في نيوجيرسي، أمريكا، لأب يعمل في مجال التأمينات وأم تعمل كمدرسة موسيقى، ولد مصابًا بالودانة وهي الصورة الأكثر شيوعًا لداء القزامة، حيث ولد بحجم رأس طبيعي وأطراف أقصر من الطبيعي.

لكن بيتر لم يهرب من هذه الأنظار التي لاحقته لتملأ طفولته ومراهقته بالإحباط والغضب، بل سعى إلى المزيد منها. إذا كانت الودانة هي قدره الذي فرضته الطبيعة، لعبة الجينات وقانون الوراثة، فالتمثيل هو قدره الثاني الذي اختاره بمحض إرادته. بدأ الأمر بتقديم عروض دمى موسيقية مع أخيه الأكبر جوناثان في حيهما، استمر في الاشتراك بالعروض المسرحية على مسرح المدرسة ثم درس الدراما بجامعة بيننجتون في محاولة لتعضيد موهبته بالدراسة.

حين أنهى دينكلاج دراسته عام 1991، قرر مع صديق دراسته أيان بيل، الذهاب إلى نيويورك لمطاردة حلمهما بتأسيس شركة إنتاج مسرحي خاصة بهما. انتهى الأمر بعد فترة وجيزة بالفشل، وتحول حلمهما إلى رماد.

اضطر دينكلاج للعمل لبضع سنوات في أعمال أخرى متواضعة وبعيدة تمامًا عن حلم التمثيل الذي يستحوذ عليه فقط ليستطيع الإنفاق على نفسه وتأمين إيجار لمسكن خاص.


بداية مسيرة دينكلاج التمثيلية: قزم في حلم

بيتر دينكلاج

وضع دينكلاج لنفسه ومنذ البداية كودًا أخلاقيًّا صارمًا، قانونًا حظر على نفسه انتهاكه. قرر دينكلاج ألا يشارك أبدًا في عمل يستغل حالته الجسدية، أراد أن يكون ممثلًا حقيقيًّا، أن تحدد الأدوار التي يقوم بها وفقًا لحجم موهبته وليس لقصر أطرافه.

يأتي دوره الأول تجسيدًا لهذا الكود، دور صغير في فيلم مستقل عن صناعة الأفلام المستقلة، حيث يؤدي دينكلاج في فيلم «Living In The Oblivion» للمخرج توم ديسيلبو، الذي عرض عام 1995، دور قزم غاضب لأن مخرج الفيلم اختاره ليكون داخل تتابع حلمي داخل الفيلم، فوجود قزم داخل المشهد يعطيه طابعًا حلميًّا. يصرخ تيتو/دينكلاج في المخرج: «أهذه هي الطريقة الوحيدة لتصنع حلمًا؟ هل رأيت من قبل قزمًا في حلمك؟ حتى أنا لم أرَ قزمًا في حلمي».

لفت دينكلاج أنظار بعض المخرجين بعد عرض الفيلم في مهرجان صاندانس، ونال إثر ذلك عدة أدوار صغيرة بين المسرح والدراما والسينما، في أفلام مثل «Safe Men»، و«13 Moons»


حلم البطولة

كان ديكلانج قد عمل من قبل في عمل مسرحي للمخرج توماس مكارثي، الذي ولا شك رأى فيه الكثير من الموهبة وفي شخصيته الكثير من الأصالة ليمنحه دور البطولة في فيلمه الأول «The Station Agent» الذي كتبه وأخرجه ليعرض للمرة الأولى في عام 2003 خلال مهرجان صاندانس السينمائي. كان الفيلم حدث المهرجان، ونال استحسانًا نقديًّا كبيرًا.

يؤدي دينكلاج ببراعة لافتة شخصية «فين» الذي يشعر أنه منبوذ ومهان في محيطه نتيجة اختلافه. يذهب فين، بحثًا عن العزلة وعن حياة جديدة، للعيش قرب محطة قطار مهجورة في برية نيوجيرسي. وهناك في أعماق هذه العزلة يجد الحياة والصداقة الحقيقية مع شخصيات تشبهه.

يقف فين على طاولة في بار وقد استشاط غضبًا فاردًا ذراعيه القصيرتين صائحًا في الحاضرين: «هذا أنا، ألقوا نظرة عليَّ».

نعم يحق لنا هنا أن نلقي نظرة على دينكلاج نفسه وقد شق طريقه بإصرار كبير من أدوار صغيرة في أفلام صغيرة، إلى دور البطولة في فيلم، حتى إذا كان هذا الفيلم في النهاية فيلمًا مستقلًّا، لكنه أثبت أمام الجميع أن بإمكانه أن يفعل ذلك. حقق الفيلم نجاحًا نقديًّا كبيرًا وجماهيرية معقولة مهدت له الطريق نحو القمة.


صراع العروش: الحلم يؤتي ثماره

كان عليَّ أن أدرك منذ البداية أن العالم لا ينقصه قزم آخر غاضب، بل ينقصه ممثل حقيقي.

لمع دينكلاج داخل عمل ضخم يعج بالكثير من الشخصيات الجذابة، بسحره الخاص وأدائه المتفرد لشخصية «تيريون لانستر»، الشخصية التي منحت دينكلاج كل شيء حلم به دفعة واحدة، هذه الجماهيرية الكاسحة وهذا التقدير النقدي المستحق. حصل دينكلاج عن أدائه لهذه الشخصية على جائزة «جولدن جلوب»، وجائزتي «إيمي» كأفضل ممثل مساعد في عمل درامي.

أحب دينكلاج ملحمة «سيد الخواتم»، روايات الفانتازيا التي ابتدعها البريطاني «ج.ر.ر. تولكين» لكن الطريقة التي رسم بها تولكين الأقزام في عمله كانت مصدر إحباط له، لقد ظهروا خلال العمل كما لو كانوا كائنات غريبة لا تنتمي للبشر.

لذلك سنجد دينكلاج مدينًا بالكثير من الامتنان للكاتب جورج مارتن بسبب الواقعية التي رسم بها شخصية تيريون، شخصية ساحرة وغامضة أخلاقيًّا وعلى وعي كبير بذاتها. يسكن تحت سطح هذا التظاهر بالشجاعة والحكمة حزن شخص منبوذ حتى من أقرب الناس إليه. هذه الشخصية الجريحة في أعماقها تخفي ضعفها تحت طبقة رقيقة من السخرية المرة. شخصية تشبه إلى حد بعيد في ملامحها الداخلية شخصية دينكلاج الحقيقية.

صارع دينكلاج طويلًا كي لا يتم تسكينه في المساحة النمطية المعدة لأقرانه في السينما والتليفزيون، حلم أن يكون ممثلًا حقيقيًّا، وأن يتم تقدير موهبته الكبيرة بعيدًا عن حالته الجسدية التي لا دخل له بها، وقد تحقق له في النهاية ما أراد، ولا يزال الطريق أمامه مفتوحًا من أجل المزيد من التحقق. حكاية ملهمة عن ذلك الحالم الصغير، الذي استطاع رغم ضعفه الخاص أن ينجو في عالم قاسٍ، وأن يفرض حلمه على الجميع.