يفتتح «بول توماس أندرسون» فيلمه بلقطة قريبة متوسطة لوجه «ألما» (فيكي كريبس) المضاء بإضاءة حميمية وهي تقول: «لقد حقق رينولدز كل أحلامي، وفي المقابل منحته أقصى ما يرغب فيه، منحته كل قطعة مني» بما يمهد أننا نشاهد فيلما عن قصة حب، لكن طبيعة الشخصيات المضطربة، ودوافعها الخفية، والمنعطفات التي تتخذها العلاقة تجعل من «Phantom Thread» فيلمًا مزعجًا، وغريبًا عن طبيعة الحب وعن الصراعات التي تحتدم في قلب كل علاقة للوصول بها إلى حالة من الانسجام والتوافق.

في فيلمه الثامن، المرشح لست جوائز أوسكار هذا العام والذي تدور أحداثه في لندن في حقبة الخمسينات، يحكي أندرسون قصة «رينولدز وودكوك» (دانيل داي لويس) صانع أزياء الطبقة العليا، ومثال للفنان المهووس بالكمال والمستغرق تمامًا في عمله. وفي مقابل ذلك يتخلى عن فكرة الزواج مكتفيًا بعلاقات عابرة، العلاقة الأطول أمدًا والأكثر استقرارًا هي علاقته بأخته وشريكته في العمل «سيريل» (ليزلي مانفيل).

عالم رينولدز الهادئ، والمصمم بصرامة لا تسمح بأي مفاجآت أو مواجهات تفسد روتينه اليومي المقدس، يترنح تحت سطوة علاقة الحب التي تجمعه بألما، وهي نادلة في مطعم ريفي، يدخلها رينولدز إلى عالمه كملهمة وحبية.


العالم السينمائي لبول توماس أندرسون

في محاولة لفهم شخصية رينولدز وتعقد العلاقة بينه وبين ألما، نعود إلى واحدة من أطروحات فرويد الرئيسية؛ تلك التي تربط العصاب واضطرابات الشخصية بالعائلة (المثلث الذي يضم الأم، الأب، والطفل). ظل هذا المثلث يغطي كل شيء، لا شيء يفلت منه. فمثلًا علاقة حب بين اثنين هي أبدًا علاقة بين أكثر من اثنين. فشبح العائلة حاضر دائمًا بينهما.

العائلة في سينما بول توماس أندرسون، دائمًا هي مصدر الجرح المفتوح، هي ما يغير مسار الشخصيات، ويدفعها إلى تشكيل هوية غالبًا ما تتناقض مع حقيقتها الداخلية. تبحث الشخصيات عن حب بديل يعوضها عن حب فقدته (الأم، الأب، الطفل، أو العائلة) هذه تيمة أساسية في سينما أندرسون، ومكمن التناقض في شخصياته، فهي تسعي دائمًا إلى شيء هربت منه في الأساس.

ففي فيلمه «Boogie Nights» نجد «إدي» الذي يهرب من أم مضطربة ومسيطرة، ينجذب لشخصية «أمبر» التي حرمت من التواصل مع ابنها بواسطة زوجها. كلاهما يجد في علاقتهما معـًا ما يفتقد؛ هو الأم البديلة، وهي الابن المفقود. وفي فيلم «Magnolia» نجد كل العلاقات العائلية محطمة، نجد مثلًا الابنة «كارولينا» العصابية ومدمنة المخدرات لأن الأب قد تحرش بها جنسيًا في صغرها، و«فرانك» الذي يقوم بتقديم عرض تليفزيوني ينضح بذكورية متطرفة ويعلم الرجال كيفية خداع النساء والايقاع بهن ثم هجرهن. ينبع ألمه الأعمق من هجران والده له ولوالدته بعد أن أصيبت بالسرطان، ولأنه عاجز عن مواجهته بغضبه، فإنه يتوحد بشخصيته ويوجه غضبه تجاه النساء.

أما في فيلمه «Punch-Drunk Love» نجد «باري»، نتيجة العائلة الضاغطة والخانقة والمكونة كلها من النساء، لا يستطيع أن يقيم علاقة حقيقية مع امرأة، فالمرأة رغم أنها تشكل خلاصه فإنها تظل التهديد الأكبر بالنسبة له نتيجة تاريخه العائلي.


الضلع الأضعف في مثلث العلاقة

هنا في «Phantom Thread» نجد شبح الأم حاضر منذ البداية، حيث يشعر رينولدز بأنها دائمًا ما تراقبه من العالم الآخر. هذا التعلق المرضي بها (يخيط صورتها في بطانة ثيابه) كأنما لا يزال هناك حبل سري يربطه بها فيما وراء الموت. ما تكتشفه ألما منذ بداية العلاقة أن هذه الشخصية القوية والعنيدة مجرد مظهر خارجي يداري به رينولدز ضعفه وهشاشته وأنه لا يزال في داخله طفل يحتاج إلى من يرعاه، وهذا ما توفره له الأخت من البداية كأم بديلة، ثم ألما بعد ذلك. وفي مثلث العلاقة الذي يشمل رينولدز وسيريل وألما، رينولدز هو الضلع الأضعف.

في أحد مشاهد الفيلم يستشيط رينولدز غضبًا لأن إحدى عميلاته قد تخلت عنه من أجل مصمم أزياء آخر قائلًا لأخته؛ «لا أريد لأحد أن يتخلى عني أبدًا». يمكن اعتبار ذلك مفتاحًا آخر لفهم نمط علاقاته والصعوبات التي واجهت علاقته بألما، فرينولدز لم يتعاف أبدًا من فقدان أمه، شعر أنها تخلت عنه بالموت، والألم الذي شعر به حينذاك جعله يجزع من فكرة العلاقات قانعًا بعلاقات قصيرة الأمد لا تسمح للطرف الآخر بأن يقترب منه للدرجه التي تجعله يتألم لفقده.

ألما كانت تريد أن تقترب أكثر، تريد مساحة أكبر من تلك التي فرضها رينولدز على الطرف الآخر في علاقاته السابقة، وهو ما جعله يشعر أنها تشكل تهديدًا لعالمه.

في فيلم أندرسون نرى صدى واضحًا لفيلم «ريبيكا» لألفريد هيتشكوك، والمبني على إحدى روايات الأدب القوطي. لا يخفي أندرسون ولعه بالسينما المبنية على روايات الأدب القوطي التي تسللت بعض عناصرها إلى فيلمه. شبح الأم الحاضر منذ البداية، الغريب الذي يظهر، الحب، رائحة الموت الصامت التي يعبق بها البيت، لتقلب أمان البيت إلى فوضى. يصور الفيلم الزواج كلعنة، فشبح الأم يظهر في ثوب زفاف، والأخت، العزباء الأبدية لأنها لمست ثوب زفاف أمها. تجد ألما في بطانة ثوب زفاف إحدى رسائل رينولدز السرية «ليس ملعونًا أبدًا».

يقدم أندرسون هنا رومانسية قاتمة، يمتزج فيها الحب والموت. الحب الذي يزداد كثافة كلما اقترب من الموت. فالحالة التي يكون فيها رينولدز مستسلمًا لألما، رقيقًا ومنفتحًا وفي أمس الحاجة لها، هي حالة قريبة من الموت، تشبه موتًا مخففًا.

أندرسون في فيلمه هذا هو الكاتب، والمخرج، ومدير التصوير. يقدم صورة تفيض بالجمال والشاعرية، يبرع، كعادته، في استحضار الزمن الذي تدور فيه أحداث فيلمه، الألوان التي تمنحنا إحساسًا بأننا نشاهد فيلمًا قديمًا، الإضاءة الداخلية التي تعتمد على ضوء الشموع، الديكور والأزياء والجو العام امتدادًا إلى الموسيقي البديعة التي ألفها «جوني غرينوود» (عازف الجيتارالرئيسي لفرقة «راديوهيد» في رابع تعامل له مع أندرسون)، تمنحنا إحساسًا عاليًا بالبيئة الزمنية للفيلم.

«Phantom Thread» هو ظاهرة تنتمي للحقبة الفكتورية حيث كان الخياطون في لندن العائدون إلى منازلهم بعد عمل طويل وشاق، يستمرون في أداء حركات فعل الخياطة باستخدام خيوط وهمية كما لو كانت هناك قوة خفية تحركهم، هكذا فيلم أندرسون عن الخيوط الوهمية التي تحركنا في مسارات محددة، وعن الأشباح التي تسكن خطانا إلى الأبد.

أندرسون يملك تعاطفًا كبيرًا تجاه شخصياته، ودائمًا ما تحمل نهايات أفلامه أملًا في خلاص هذه الشخصيات، نجد مثلًا مطر الضفادع في «Magnolia»، وهنا مثلما في «Punch-Drunk Love»، يصير الحب هو خلاص شخصياته، حيث بإمكانه أن يهزم الخوف والشك والفقدان.