ألقى كل من توماس كون و بول فييرابند، بعد أن أسسا لمشروعين يتبنى كل منهما بصورة مختلفة عن الآخر، فكرة أن صناعة القرار العلمي هو عملية لا عقلانية ترتبط بمكانة وقوة والظروف الزمنية لمتخذ القرار، بتساؤل صلب عن مستقبل العلم لا يمكن أن يتجاوزه أي فيلسوف إلا بإعطاء اختيار:

إما ما بعد الحداثة أو إعادة النظر فيما تعنيه المنهجية العلمية، حيث في الوقت الذي اعتبر فيه الجميع أننا في المنهج العلمي أقرب ما يكون لكشف الحقيقة Truth Discovery، تم اختبار كل ما يمكن أن تعنيه مصطلحات كـ «عقلانية العلم» و«الحقيقة العلمية» فأصبحت الأجواء غاية في الضبابية.

كرد فعل، قرر لاري لاودن، الأبستمولوجيست بجامعة تكساس وفيلسوف العلم المعاصر، أن الوصول لحل يضمن للعلم عقلانيته قد يؤدي إلى فقدان جزء مهم مما تعنيه تلك العقلانية، ذلك هو مركز مشروع لاودن المبهر – ويجب أن أقول، غير الحصين كذلك – الذي يعرضه في كتابه الأشهر «التقدم ومشكلاته» كنموذج لتطور العلم بشكل عقلاني مستقل بالضرورة عن استكشاف الحقائق.

لا يتقدم العلم لفهم أو مطابقة حقائق هذا العالم، إن العلم أساسًا هو نشاط لحل مشكلة ما، فقط.


أنواع المشكلات في العلم

يرى لاودن أن ذلك الرأي هو ما يتبناه العديد من الفلاسفة لكنه لا يتعدى أن يلعب دور «الكليشيه» في كتاباتهم، بينما لم يحاول أيّهم أن يتأمل قليلاً فيما يعنيه ذلك، كأن الأمر بديهي لا يحتاج لتحليل. لكن لاودن يضع من تلك النقطة منطلقًا لكل أفكاره ليبدأ بالتمييز بين نوعين من المشكلات في العلم.

النوع الأول هو المشكلات التجريبية Empirical Problems، و هي الأكثر شيوعًا، تلك التي تنشأ بسبب ملاحظاتنا عن غرابة بعض الظواهر في العالم. فالأشياء تسقط إلى الأرض بانتظام بديع، ويكتسب الأبناء صفات من الآباء، والكحول يتبخر إذا ترك في كوب فنتساءل عن: كيف؟ ولماذا؟ يضيف لاودن هنا ملاحظتين غاية في الأهمية:

1. يجب أن نفرق بين الوقائع والمشكلات، فالإنسان القديم رأى ورق الشجر بلون أخضر ولم يهتم بالتعامل مع تلك الواقعة كمشكلة، أصبحت مشكلة فقط حينما قرر أحدهم في وقت لاحق أن هناك ضرورة ملحة أو قيمة عظيمة وراء فهم سبب ذلك.

2. يوضح لاودن أنه لا يتحدث عن وقائع تصدر من الكون مباشرة، فحتى بافتراض كونها تصورات محملة بالنظرية ولها علاقة بلغة الرصد، لكن لها جميعها، ارتباطًا بالعالم الفيزيائي; لذلك ينظر لاودن إلى الفصل Distinction بين المشكلات التجريبية والمفاهيمية بشكل أقل حدة، كمتصل Continuum من المشكلات.

أحد أهم أنواع المشكلات التجريبية هي الحالات الشاذة anomalies، خاصة حين تقوم فلسفات كاملة،بوبر نموذجًا، على التعامل مع حل تلك النوعية من المشكلات كمؤشر على تقدم العلم. لكن النظرة التقليدية للحالة الشاذة على أن حدوثها يستلزم من العالِم أن يتخلّى عن نظريته، يرى لاودن، هي نظرة مضللة، فحدوث الحالة الشاذة يثير شكوك حول النظرية لكنه لا يستدعي التخلّي عنها، وإلا كنّا تخلينا عن كل النظريات في العلم.

تظهر المشكلة فقط حينما تقوم نظرية أخرى بإيجاد حل للشذوذ، وإن لم توجد فإن تفنيد النظرية عبر حالة شاذة لا يستدعي إلا تعديلات تفسيرية حتى يتم التخلص من كل معطيات التفنيد، كأن تقول النظرية أن «كل الكواكب تدور حول الشمس في مدار بيضاوي» ثم يظهر تابع ما للشمس يدور في مدار دائري، يمكن عندها تعديل ما تعنيه كلمة «كوكب» بحيث تتلافى النظرية ذلك التفنيد، وتُخرج الحالة الشاذة من مجالها ويظل العلم محافظاً على نمطه التقدمي عبر حل المشكلة.

لكن حينما تظهر نظرية جديدة تتضمن في حلولها فرضية الدائرية للجرم فإن الإبقاء على نظريتنا الأولى هو ارتداد عن تقدم العلم. يستدل لاودن، في حجته ضد التكذيب بالشذوذ، بنموذج دوهيم-كواين الذي ينفي قدرتنا على تحديد موضع الخطأ في شبكة فرضياتنا الخاضعة للاختبار، في مقال سابق بعنوان «هل العلم عقلاني؟» قمت بعرض تلك المشكلة بوضوح.

هنا تظهر واحدة من اختلافات لاودن الأساسية عن نمط تقييم النظريات السائد، وهي نقطة تستحق التأمل، وسوف يتضح ذلك بشكل أكبر حينما نتطرق لعلاقات النظريات ببعضها. فلاودن يرى أن تقييم النظرية غير ممكن إلا في وجود نظرية منافسة فقط. تقييم النظريات يشمل دائمًا شروطًا للمقارنة، بينما وضع مقاييس مطلقة لتقيم الإشكالات المفاهيمية والإمبريقية لنظرية ما لا أهمية له.

إن مجرد مقارنة النظرية مع الواقع التجريبي يدخل ضمن نطاق الغموض بسبب أطروحة دوهيم كواين، بينما – اعتمادًا على نموذج لاودن للعلم كحل للمشكلات – سوف نستطيع أن نختار عقلانيًا ما بين النظريات حينما نسأل: هل هذه النظرية تعد أفضل من تلك؟ هل تحل عددًا أكبر من المشكلات التجريبية وتتسبب في عدد أقل من حالات الشذوذ و المشكلات المفاهيمية؟ ما هي تلك المشكلات المفاهيمية بأي حال من الأحوال؟

المشكلات التجريبية هي مشكلات من الدرجة الأولى، فهي أسئلة جوهرية تعطي كل علم حدود بحثه. أما النوع الثاني من المشكلات التي يشير إليها لاودن، تلك التي تم تجاهلها على مدى تاريخ الممارسة التجريبية للعلم رغم أنها تحظى بأهمية مماثلة وربما كان تجاهلها نابعًا من عدم انسجام هذا النشاط جيدًا مع الأبستمولوجيات التجريبية التي ظلت نمطًا سائدًا لأكثر من قرن، هي المشكلات المفاهيمية Conceptual Problems، الأسئلة التي تنشأ حول مدى رسوخ أساسات البنى المفاهيمية، النظريات، المتعلقة بحلول المشكلات التجريبية وكفاءتها.

ولذلك فهي مشكلات من الدرجة الثانية، حيث تعبر عن دراسة الموضوعات ضمن حدود هذا العلم. الخوض في تحليل هذا النوع المنبوذ من المشكلات، في رأيي، هو مغامرة لاودن الأكثر إبهارًا وإضافة إلى فلسفة العلم.


المشكلات المفاهيمية

يؤكد لاودن أن ذلك النوع من المشكلات ظاهر بوضوح في تاريخ العلم، و يضرب مثالاً بالانتقادات التي تم توجيهها لنموذج بطليموس والتي لم تهدف لتحليل مدى اتفاق النظرية مع الرصد بقدر ما وجهت سهامها لإأسس البنى المفاهيمية في آليات بطليموس المستخدمة لحل المشكلة؛ كأفلاك الاتزان، والتدوير، والأفلاك غير الدائرية.

كذلك اهتم نقاد كوبرنيكوس أكثر، ليس بمدى اتفاق أفكاره مع الرصد، بل حول كيفية اتساق نظرية تقول بمركزية الشمس مع إطار افتراضات آخر تمت بلورته منذ العصور القديمة. كذلك، كان أكثر ما لفت انتباه لوك وبيركلي وليبنتز تجاه نظرية نيوتن ليس مدى دقة نتائجها التجريبية، لكن ظهور بعض الغموض المفاهيمي الخاص بالنظرية متسائلين عن:

ما هو الفضاء المستقل؟ الزمن المطلق؟ وكيف أمكن تصور التأثير عن بعد بين الأجسام عبر الجاذبية؟ وما هي تلك القوة التي يقصدها نيوتن؟ بل إن ليبنتز تساءل عن كيفية الانسجام الذي حققته نظرية نيوتن مع براعة الله في إبداع العالم!

يتكرر ذلك بشكل واضح داخل العلم، فقط يمكن أن ننظر للمشكلات التي تواجه نظريات؛ كالأوتار، والكون الهولوجرامي، والجاذبية الكمّية الحلقية، والصراعات بين المؤيدين والمعارضين المنفصلة عن التحقق التجريبي. إذن، كان الصراع بين مؤيدي ومعارضي النظريات العلمية دائرًا في أطر مفاهيمية بغض النظر عن درجة التساؤل عن مدى اتساق تلك النظريات مع التجربة، لكن، ألم يلحظ أحد ذلك؟

بالفعل، يقول لاودن، فهذا النمط واضح لا يمكن تجاهله. لكن حينما نحاول تقييم النظريات من خلال مشكلات مفاهيمية فقط سوف تكون الاستجابة المألوفة هي استنكار إقحام اعتبارات غير علمية واعتبارها نوعًا من التحيز أو الخرافة، بل إن البعض، كتوماس كون، ذهب إلى أن غياب العوامل غير التجريبية هو علامة على «نضج» أي علم.

بذلك تم النظر إلى ذلك الجانب من طبيعة العلم كموجّه لاعقلاني؛ مما أدى لعدم الاهتمام به و نبذه، بالطبع من قبل فلاسفة العلم التجريبيين، بوبر وكارناب وريشنباخ، وحتى من قبل الأقل تمسكًا بالتجريبية كـ لاكاتوش وفييرابند!.

يتعمق لاودن في تحليل المشكلات المفاهيمية ليميز بين مشكلات مفاهيمية داخلية وخارجية. المشكلات الداخلية لها علاقة بتناقضات النظرية داخليًا، تماسكها، مدى غموضها، ودائرية مفاهيمها. يرى لاودن أن تناقض النظرية داخليًا هو الأكثر شيوعًا خاصة في تاريخ الرياضيات، إلا أنه يتضح كذلك في كل الفروع الأخرى للعلم، وسوف يستدعي ذلك رفض النظرية إلى أن يُزال التناقض.

أما عن غموض النظرية فهو شائع لكنه صعب التناول، خاصة حينما نتحدث عن «درجة غموض النظرية»، فبعض الغموض – في رأي لاودن – قد يكون مفيدًا؛ لأنه يعطي فرصة للنظرية الأقل دقّة في تعريفها أن يتم تطبيقها في أكثر من مجال معرفي، لكن استمرار الغموض داخل النظرية يعيبها.

ما أود لفت الانتباه إليه بشكل أكبر في فلسفة لاودن هو المشكلات الخارجية، وهي ذات علاقة بتعارض نظرية ما مع نظرية أخرى في حين يعتقد أنصار كل من النظريتين أنها مؤسسة داخليًا بشكل عقلاني؛ هنا تنشأ المشكلة المفاهيمية بسبب التوتر الناشئ عن عدم الاتساق بين النظريتين.

يضرب لاودن مثالاً شهيرًا بتطور نظريات حركة السماء بداية من أدوكسوس حتى بطليموس والتي اعتمدت جميعها على نفس جداول البيانات عن حركة الأجرام السماوية لتُقدم حلولاً للمشكلات التجريبية المطروحة.

لقد اعتمدت كل النظريات السابقة لبطليموس على نموذج بسيط لكرة تدور دائرة كاملة حول مركز بسرعة منتظمة، بينما جاء بطليموس بدوائر حول نقط فارغة بسرعات متفاوتة؛ مما خلق مشكلات مفاهيمية ثقيلة لها علاقة بعدم الاتساق.

بجانب عدم الاتساق المنطقي يتعرض لاودن لمجموعة أخرى مثيرة للانتباه من أنواع العلاقات بين النظريات، تمتد من لزوم وجود نظرية ما لنظرية أخرى، أو أن تكون العلاقة هي مجرد تعزيز، أو أن تفشل نظرية ما في تعزيز الأخرى فتصبح متوافقة معها فقط، أو أن يكون جمع النظريتين معًا غير قابل للتصديق رغم توافقهما منطقيًا كأن نحاول تطبيق الميكانيكا على فيسيولوجيا الجسم البشري، وهو نظام غاية في التعقيد لا يمكنه أن يتحدد بقواعد مجال غير عضوي، أو أن يستلزم وجود النظرية نفي نظرية أخرى تمامًا. كما يتضح، هناك درجات من العلاقة بين نظريتين تبدأ من اللزوم حتى الرفض، تستلزم هي الأخرى درجات مختلفة تمامًا من المشكلات المفاهيمية.

من جانب آخر، تظهر المشكلات الخارجية، ليس فقط بين نظرية علمية ونظرية علمية أخرى بحيث قد يصل الأمر بنا إلى الحاجه لنبذ أحدهما أو كليهما أو ربما الإبقاء عليهما ضمن حدود من التوتر، وقد حدث ذلك حينما ظهرت النزاعات بين البيولوجيين والجيولوجيين و الفيزيائيين حول طبيعة تطور الأرض التي تختلف مع فكرة اللورد كالفين المبنية على الديناميكا الحرارية والقائلة بزيادة الإنتروبيا دائمًا.

فالفرض الجيولوجي يقول إن الاحتياطي الأرضي من الطاقة ظل ثابتًا خلال معظم الزمن الجيولوجي، والتفسير التطوري للأنواع يتعارض كذلك مع نفس القانون الثاني للديناميكا الحرارية، لكن المشكلة هنا هي أن كم الحلول الضخم الذي تعرضه كل من النظريات الثلاث لا يمكن أن يدفعنا بحال من الأحوال لنبذ أي منهم، فتم الإبقاء على ثلاثتهم حتى تم حل التناقض فيما بعد بإضافات أخرى.

تظهر المشكلات كذلك حينما تتعرض نظرية مع معايير المنهج العلمي ذاته أو أحد المذاهب الفلسفية أو الاجتماعية أو الدينية السائدة! وهو موضوع هام نناقشه في المقال القادم من رحلتنا مع فلسفة لاودن. دعنا الآن نعيد ترتيب الحجرة ونخرج بملخص لما تعلمناه عن فلسفة لاودن.


خلاصة

1. لا يتطور العلم ليصل للحقائق، العلم أداة لحل المشكلات.

2. المشكلة المحلولة، تجريبية كانت أو مفاهيمية، هي الوحدة الأساسة للتقدم العلمي. فهدف العلم هو الوصول لأكبر عدد من المشكلات الهامة المحلولة، حيث أن بعض المشكلات قد تعد غير هامة، تلك هي آلية التقدم العلمي.

3. لا تنبذ النظريات ببساطة لأن لها شواذ؛ أي «لا قابلية للتكذيب»، كما لا تُقبل ببساطة لأنها مؤيدة تجريبيًا؛ أي «لا قابلية للتأكيد». العلم من وجهة نظر لاودن أكثر تعقيدًا من ذلك.

4. كلما ازداد الوضوح المفاهيمي في النظرية – وليس الإتفاق التجريبي فقط – وجدت فرصة أكبر.

5. الفاعلية الكلية لنظرية علمية تساوي عدد المشكلات التجريبية الهامة -ذات الوزن – التي تحلها النظرية مطروحًا منه المشكلات الشاذة والمفاهيمية التي تتسبب فيها. يمكن لنا استخدام ذلك كمعيار للمقارنة بين النظريات العلمية، مع ملاحظة أن تقييم أي نظرية يرتبط بوجود نظريات منافسة فقط.

6. هدف العلم إذن هو الوصول لأقصى حد من المشكلات التجريبية المحلولة وأقل حد من المشكلات الشاذة والمفاهيمية.

المراجع
  1. التقدم و مشكلاته، نحو نظرية عن النمو العلمي – لاري لاودن