استمع للمقال:

وإن قيلَ في الأسفار ذلٌّ ومحنةٌ -وقطعُ الفيافي واكتسابُ الشدائدِ فموتُ الفتى خيـرٌ لهُ من حياتِهِ –
بدار هـوانٍ بين واشٍ وحاســـدِ

لا يحتاج الإمام «الشافعي» للكثير من العناء للتعريف به. فهو ثالث أئمة السنة الذي اعتنق الملايين مذهبه لأكثر من اثني عشر قرنًا. وقد طوّقت مؤلفاته الآفاق وتلقَّاها الكثيرون بالقبول، وهذا أقل جزاء على إخلاصه لعلمه وتفانيه فيه. أليس هو من يُنسَب إليه – أو على الأقل يتمثل فيه – هذي الأبيات:

سهري لتنقيحِ العلومِ ألذُّ لي — من وصــلِ غانيـــةٍ وطيبِ عِناقِ وألذُّ من نقـرِ الفتــاةِ لدُفِّـها — نقري لأُلقي الرمـلَ عن أوراقي وتمايُلي طربًا لحلِّ عويصةٍ — في الدرسِ أشهى من مُدامةِ ساقِ
وهو القائل:
رأيتُ العلمَ صاحبُهُ كريمٌ –ولو ولدتْهُ آباءٌ لئــامُ وليسَ يزالُ يرفعُهُ إلى أنْ —
يعظِّمَ أمرَهُ القومُ الكرامُ

وبلغ من تقدير معاصريه له أن قال فيه الإمام أحمد: «كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس». ولم يكتَفِ بذيوع صيتِه في الفقه وعلومه. إنما كاد اشتهاره بالشعر يطغى عليه. لولا أن تعمَّد أن يكفَّ نفسه عن التوغل أكثر وأكثر في بطون الشعر لخوفه أن يشغلَه عن طلب العلم وتعليمه، وأيضا لما غلبَ على شعراءِ عصره من الخفة والمجون الذي يبعث على الازدراء. ولذا يقول الشافعي:

ولولا الشعرُ بالعلماءِ يزري —
لكُنتُ اليومَ أشْعَر من لبيدِ

ولبيد هو «لبيد بن ربيعة»، وهو من أصحاب المعلَّقات في العصر الجاهلي.

وشعر الشافعي وإن أُخذ عليه الطابع الوعظي المباشر، وبعض التصنُّع اللفظي والأسلوبي، والفقر النسبي في الصور الخيالية، إلا أنه انتشر انتشار النار في الهشيم خاصة لدى الجمهور المتدين على مرّ العصور، وذلك لحشمة أسلوب الشافعي ورصانته، واستشعار الصدق فيما يقول. وكذلك لإعجاب الناس بالكثير من الحكم الخالدة التي نثرها الشافعي في ربوع شعره. حتى أنه إن تحيَّر أحدهم في بيتٍ من الحكمة أو الوعظ لا يعرفون قائله، نسبوه للشافعي!

وممن شهدوا لشعر الشافعي، «المبردُ» الذي يقول في كتابه معجم الأدباء ( 17 : 312 ): «كان الشافعي من أشعر الناس وآدب الناس وأعرفهم بالقراءات».


الإمام الرحالة

ولأنه عالمٌ عاملٌ بما يقول، فكان حثُّه الناس على السفر انعكاسًا لواقع حياتِه. أليس هو الإمامُ صاحب المذهبَيْن؟ مذهب العراق ومذهب مصر؟!

أمضى الشافعي سنوات عمره الأربعة والخمسين ( 150-204هـ ) في العصر العباسي الأول، حيث زمن المستبدين الأقوياء، والذين أرسوا دعائم دولتهم وعمّروها، وكان نصيب الطرق من هذا وافرًا، عمرانًا وتأمينًا. وبالطبع لا تأشيرات ولا أكشاك حرس حدود، من حدود الصين إلى المغرب الأقصى، ومن جنوب الأناضول إلى بلاد النوبة. ولذا اشتهر السفر لدى الكثيرين لكل الأغراض. وفي مقدمتها الحج وطلب العلم والتجارة. ولذا لم يكن الشافعي استثناءً في أسفاره لطلب العلم. ولم يكُن مبالغًا في الإصرار على دعوة الناس للسفر. إذ لا عذر عنده لقاعد. فالرغبة في البقاء جوار الأهل وخوف المجهول لا تبرر تفويت ما في السفر من خبرات وفوائد لا نُحصِّلها دونه.

ولا عجب إذًا أن ترحل أم الشافعي – ابن غزة بفلسطين – به إلى مكة وهو في عمر السنتين، فينشأ على طلب العلم، حتى يؤذن له بالإفتاء قبل سن العشرين. وعلى هامش ذلك يقيم فترات في بادية قبيلة «هذيل» فيكتسب الفصاحة وجودة الشعر. ثم يمضي إلى مدينة الرسول ليدرس تحت إمامها «مالك»، ثم يرحل إلى اليمن، ومنه إلى بغداد بعد الثلاثين بقليل ليتتلمذ على يد «ابن الحسن الشيباني» رأس الحنفية. وبذلك حاز علم المذهبين. ثم عاد إلى مكة وهو على أعتاب الأربعين ليستكمل طلب العلم والتعليم. وبعد تسع سنوات عاد إلى بغداد التي لم يلبث أن غادرها وهو في الخمسين إلى مصر ليصير إمامها إلى زمننا هذا.

عالمٌ عاملٌ، أليس كذلك؟!


هل للسفر خمسُ فوائد فقط؟!

تغرَّب عن الأوطانِ في طلب العلا –وسافِرْ ففي الأسفار خمسُ فوائد تفـــرُّجُ همٍّ واكتسابُ معيشةٍ —
وعلمٌ وآدابٌ وصحبةُ ماجـد

هذان البيتان أراهما جامعين مانعيْن خالديْن. وأظننا، في زمان غربة الأوطان هذا، الأجدر باستيعابهما. حيث يمثل السفر والهجرة حلم الملايين من الشباب. وكل ما ذكره من الأسباب نتلمَّسها ونحلم بها. كلنا نحلم بوطن حقيقي ننسف فيه همومنا، ونترقى فيه ماديًا وعلميًا، ويصحبنا في الطريق وغايته ثلة من الرفقاء الذين تهونُ معهم الخطوب والمغامرات. ورغم أن فوائد السفر لا تعد ولا تحصى، فإنه يندر أن تجد سببا لا يكون فرعًا من الأصول الخمسة التي أرساها الشافعي هنا. ولا غرابة في إبداع الشافعي لهذين البيتيْن، فكل ما ذكره حققه بنفسه في أسفاره التي كانت عمود حياته أو هي حياته.


وطنك حيث تُحفظ كرامتك وتسمو قيمتك

ارحلْ بنفسِكَ عن أرضٍ تُضامُ بها –ولا تكن من فراقِ الأهل في حُرَق فالعنبرُ الخامُ روثٌ في مواطنهِ –وَفِي التَّغَرُّبِ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُنُقِ والكحلُ نوعٌ منَ الأحجارِ تنظرهُ –فِي أرضِهِ وَهْوَ مَرْمِيٌّ عَلَى الطُّرُقِ لمَّا تغرَّبَ حازَ الفضلَ أجمعهُ —
فَصَارَ يُحْمَلُ بَيْنَ الْجَفْنِ وَالْحَدَقِِ

دائما ما يصر الشافعي على هذا المعنى، ويعتبره من أجلّ أسباب السفر. لا تترك نفسك في وطن ابتدائي تتعرض فيه للظلم المباشر أو حتى عدم كفاية التقدير الذي تستحق، ثم تبرر قعودك بالرغبة في البقاء فيما اعتدت عليه في كنف أهلك وبيئتك. إذا استسلمت لهذا ستضيع، أو ستظل خامًا أولّيًا ساذجًا قليل القيمة والفائدة. أما إذا اتبعت أحلام الكرامة والطموح وضربت في أجناب الأرض، ستصقلك التجارب، وتخلقك الخبرات خلقًا آخر، يزيد نبوغك وقيمتك. وضرب الشافعي مثالين من الطبيعة المحلية أحلاهما في رأيي مثال الكحل الذي أصل خامته حجارة ملقاة في أرضها تتقاذفها أقدام السائرين، وعندما تنقل إلى الورش وتستخرج مادتها وتصنّع، تتضاعف قيمتها أضعافًا كثيرة، حتى يحملها الإنسان ليُجمّل بها أسمى بقعة في وجهه!

والأبيات التالية تدور في نفس المعنى بأسلوب أشد، وبأمثلةً أكثر. ومطلعها قويٌّ ومعبر:

ما في المُقامِ لذي عقلٍ وذي أدبِ ــــــــ مِنْ رَاحَة ٍ فَدعِ الأَوْطَانَ واغْتَرِبِ! سافر تجد عوضًا عمَّن تفارقهُ ــــــــ وَانْصِبْ فَإنَّ لَذِيذَ الْعَيْشِ فِي النَّصَب

الراحة لدى الشافعي هي التعب والبذل في طريق الحلم. وتحقق الحلم هو الثمن الوافي لتكاليف السفر وتبعاته.

إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ –إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ والأسدُ لولا فراقُ الأرض ما افترست –والسَّهمُ لولا فراقُ القوسِ لم يصب والشمس لو وقفت في الفلكِ دائمة ً –لَمَلَّهَا النَّاسُ مِنْ عُجْمٍ وَمِنَ عَرَبِ والتَّبْرَ كالتُّرْبَ مُلْقَى ً في أَمَاكِنِهِ –والعودُ في أرضه نوعً من الحطب فإن تغرَّب هذا عزَّ مطلبهُ —
وإنْ تَغَرَّبَ ذَاكَ عَزَّ كالذَّهَب

يركز الشافعي من جديد على مثال الخامات (الذهب ، العود …إلخ) التي لا يجلوها إلا النقل من بيئتها الأصلية إلى حيث تُبدَع فتسمو قيمتها. ويريد من كل منا في سعيه وراء الحلم البعيد، أن يكون كالنهر في هديره واندفاعه، وكالأُسد في ضراوتها، وكالسهم في سرعة مروقه ونفاذه من كل الموانع، وكالشمس في رحلتها الدائبة في أفلاكها.


خاتمة

لعلنا في هذه الأيام العجاف، أجدر بتلك المعاني وبتحقيقها. وأن نتسلح في سبيل ذلك بكل عزم وعزيمة، فالتغرب وإن نبُلت مقاصده ليس نزهة، بل صراع مع النفس والدنيا. وقد يتعثر أكثرنا في منتصف الرحلة. ولذا فلنتحصن بالإرادة والإصرار حتى نحقق إحدى الحسنيين كما يقول إمامنا الشافعي:

سَأَضْرِبُ في طُولِ الْبِلاَدِ وَعَرْضِها ــــــــ أنالُ مرادي أو أموتُ غريبا فإن تَلِفَــت نفسي فلله دَرُّها ــــــــ وَإنْ سَلِمَتْ كانَ الرُّجوعُ قَرِيبا
المراجع
  1. قصائد الشافعي
  2. سير أعلام النبلاء