فيبي أكثر خداعًا دومًا مما تبدو.
ليزا كودرو

بحلول الموسم الثالث من المسلسل الأيقوني Friends، أدرك الجمهور أنهم بصدد ظاهرة تلفزيونية ستحيا طويلًا، ظاهرة قوامها ستة شباب من نيويورك، وسط مدينة مزدحمة وبحث مُضن عن العمل والحُب، صنعوا من صداقتهم قاربًا للنجاة، لن ينقذهم وحدهم بل سيلهم ملايين ليروا أنفسهم في تلك الصُحبة. صُحبة لن تخذلك حتى لو كنت تمر بيومك أو عامك الأسوأ على الإطلاق وهو ما تعد به أغنية المسلسل قبل كل حلقة. وبينما كان العمل يُلهم ملايين، كانت إحدى بطلاته في الوقت نفسه تهم بالفرار من قارب النجاة ذاك خوفًا من أن تُغرق المشروع بأكمله.

أبطال مسلسل Friends
أبطال مسلسل Friends

تقول «ليزا كودرو» التي لعبت دور «فيبي بوفيه»، إنها بحلول الموسم الثالث، كانت قد قاربت على الانهيار العصبي، لعجزها عن الإمساك بتلابيب شخصيتها.

تتمظهر كل شخصية في Friends بسهولة عبر عُصابها الخاص الذي يُشكل مفتاحًا سحريًا لما تفتقده ولما تخافه ولما تبحث عنه، يبحث «روس» بحماس عن الحب في صورة زيجة مثالية ويفر «تشاندلر» من التزامات الحُب بالحماس ذاته، تمتلك «مونيكا» وسواسًا قهريًا للتحكم في عالمها لتعصمه من الفوضى، بينما تنفلت «رايتشل» بصعوبة من ثوب حكاية سندريلا الأنيقة نحو فوضى عالم خشن لا يضمن لها الحذاء المثالي والنهاية السعيدة. وسط تلك الصحبة وقفت شخصية «فيبي» وحيدة.

«ليزا كودرو» في دور فيبي من مسلسل Friends
«ليزا كودرو» في دور فيبي من مسلسل Friends

يُنبيء العُصاب دومًا عن خوف يحمي صاحبه بشكل مُسبق من صدمة تنتظره، بينما قدمت فيبي نفسها منذ البداية كشخصية حدثت لها كل الصدمات المُمكنة، انتحرت والدتها وسُجن مربيها، ولفظها المنزل بقسوة لتحيا في شوارع مانهاتن منذ سن الرابعة عشرة. تسرد صدماتها بلا مبالاة ساخرة وهي ترتدي أزياء هيبية واسعة مُريحة وتمضغ شعرها بأسنانها.

منحت المواصفات الجمالية لجينيفر أنيستون ومات لبلانك تعاطيًا أسهل لكليهما مع شخصياتهما المكتوبة بينما توسل صناع العمل لشويمر لأداء شخصية روس لأنه الأنسب لها بمواهب صوته ولغة الجسد، منحت «كورتني كوكس» حسًا أموميًا داعمًا لمجموعة العمل في الكواليس مثل شخصيتها «مونيكا» أما «ماثيو بيري» كان تاريخه النفسي نقطة تفوقه في جعله يؤدي دورًا يُشبه معاناته الشخصية مع طلاق أبويه، وسط كل هؤلاء كانت شخصية ليزا كودرو هي النقيض التام لفيبي.

انتمت ليزا لعائلة أكاديمية مُستقرة لم يحترف أي من أفرادها التمثيل، نالت درجة علمية في الأحياء، وعاونت أباها الطبيب في كتابة ورقة بحثية عن الصُداع العنقودي، لذلك بوصولها لذروة النجاح في الموسم الثالث وهي تقدم للعالم شخصية فتاة هيبية تُظهر مزيجًا من البراءة والسذاجة والفطنة، باحت لصديقها المقرب في المُسلسل مات لبلانك (جوي) بأنها تُعاني من مُتلازمة المُحتال الذي خدع الجميع بكونه يعلم ما يفعله، لكنها لا تعلم مفتاح تلك الشخصية التي تؤديها ولا تمتلك شيئًا مٌشتركًا معها.

تقول ليزا إنها مدينة للأبد للنصيحة التي قدمها لها مات لبلانك، أخبرها أنها تبذل كثيرًا من الجهد، وتفكر بلا كلل في الآخرين، بينما فيبي لن تُفكر في كل ذلك. سوف تسترخي وحسب، وتقول أول شيء يطرأ على ذهنها. كانت ليزا دخيلة على مجموعة وصالها جيد مع أدوارها المكتوبة، لذلك حولت فرادتها لعنصر قوة فجعلت فيبي مستقلة عن الصحبة دون محاولة للانتماء بالتظاهر أنها ليست كذلك.

تُظهر شخصية فيبي منذ البداية استقلالية واضحة، لا تحيا مع رفيق Roommate يُبرز شخصيتها بتناقضه معها مثل ثنائية (مونيكا-رايتشل) (تشاندلر-جوي) ولا ترتبط بعلاقة حُب أو قرابة بالشخصيات مثل (روس)، ويمكن بسهولة تخيل خماسي الأفراد بديناميكيات علاقتهم من دونها، وهنا يُمكننا أن نسأل ما الذي أضافته فيبي بوفيه لدراما Friends؟ وما هو المكون السري الذي جعلها إحدى أيقونات المُسلسل وليست نشازًا مُثقلًا للحن مُكتمل؟

الأحمق الحكيم

الأحمق يعبر حدود الثقافة والقبول التي يخشى العاديون عبورها، يخبر الحقيقة التي يخاف الجميع سماعها، بقلب دافئ وحس دعابة ودود.
كارل يونج

تظهر فيبي كاستثناء مُربك في حكاية خمسة أشخاص من الطبقة المتوسطة في نيويورك، باعتبارها مُعادلًا بشريًا لمُتلازمة النظافة الشهيرة التي تقول إن تعرض المرء في طفولته لبيئة خشنة وقاسية، تقوي جهازه المناعي، لأنه لفرط تعرضه للمخاطر صار أكثر رهافة في مُلاحظتها وأكثر عملية في التعامل معها نسبة للطفل الذي تربى في بيئة آمنة، الذي يكون أكثر عرضة للحساسيات والأمراض مُستقبلًا.

يظهر «تشاندلر» كشاب يُخفي مخاوفه من الرفض والوحدة في صورة حس دعابة لاذع، لأنه يوقن أن خروجه بمخاوفه للمجتمع سيتبدى كعلامة ضعف تُنفر أي أنثى من وصاله، بينما يراقب فيبي وهي تتحدث ببساطة عن صدماتها الطفولية التي جعلتها ما هي عليه، في إحدى الحلقات يستعين بها لتتولى عنه مُصارحة حبيبته بضرورة انفصاله عنها. وتمثل سهولة تعاملها مع الأمر مادة للكوميديا.

وبينما يحمل تشاندلر بقلبه Mantra أو شعار أبدي أنه سيحيا ويموت وحيدًا دون حُب لأنه يحمل خطيئة انفصال والديه كصليب على عاتقه، تدندن فيبي المانترا خاصتها وهي أغنية Smelly Cat عن قطة كريهة الرائحة، تسكنها الحشرات، لكنها تُخبرها طوال اللحن أن ذلك ليس خطأها، تُعادل القطة حياة فيبي نفسها كفتاة ربتها الشوارع لكنها توقن أن ذلك ليس خطأها لتحيا حياتها رهينة له و لتبريره للآخرين.

ماثيو بيري في دور تشاندلر وليزا كودرو في دور فيبي
ماثيو بيري في دور تشاندلر وليزا كودرو في دور فيبي

تظهر «مونيكا» كامرأة عصابية تلهث وراء كاريير في مهنة الطبخ، لإن الطبخ بوابتها لتكون محبوبة، لتكون مضيفة دائمة للتجمع العائلي وحفلات الأصدقاء، كدور أمومي بديل عن والدتها التي لم تحبها أبدًا، تدرك مونيكا أنها من دون عملها ستحقق نبوءة أمها عنها كفتاة بلا نفع، بينما تظهر فيبي منذ البداية كفتاة بلا كاريير، تعمل مُدلكة بدوام جزئي لتجد وقتًا لعملها الآخر كعازفة جوالة في المقهى والشوارع، تٌدرك فيبي أن عزفها ليس جيدًا لكنها لا تعزف للآخرين بل لنفسها، وبينما تسعى مونيكا لنيل القبول من أصدقائها، ندرك أن فيبي كانت صديقة السكن الأولى لها لكنها فرت من تحكمها في مساحة العيش المشتركة، تمثل فيبي كل مخاوف مونيكا في الحياة من دون خطة، وقدرتها على الاستغناء الكامل عن آراء الآخرين سواء أصدقاء أو زبائن، وقدرتها على إيجاد سلام مُستغن عن إملاءات الغير.

ليزا كودرو في دور فيبي، على اليمين كورتني كوكس في دور مونيكا وعلى اليسار جينفر أنيستون في دور رايتشل
ليزا كودرو في دور فيبي، على اليمين كورتني كوكس في دور مونيكا وعلى اليسار جينفر أنيستون في دور رايتشل

بينما تُجسد «رايتشل» فكرة الهبوط من الفردوس أو العالم الآمن لأبيها الثري نحو كفاح الاعتماد على الذات، تُجسد فيبي ببساطة مقلوب الفكرة، فهي قادمة من الجحيم، لذلك تجد الحياة اليومية التي يكرهها أصدقاؤها ولا يكفون عن الشكوى منها فردوسًا، لذلك تمتلك قدرة فريدة على الاحتفاء بتفاصيل لا يلتفت لها أحد. حتى معركة صديقها مع طليقته وحبيبتها على حضانة طفل تراها حب يتمظهر في صورة عراك، حب لم تنله هي أبدًا لأن أحدًا لم يقاتل لأجلها.

تظهر شخصية «روس» كرجل علم مُعضلته الأساسية هي إدارة حياته الغرامية بنفس الإصرار والدقة العلمية التي يدير بها عمله، يختلف عبر مواسم مع حبيبته أنها تتهمه بالخيانة بينما يختبيء وراء دقته اللغوية أن كليهما كانا في فترة انفصال مؤقت، يخطط روس بإصرار لعامه المثالي، ولأمسيته المثالية مع كل امرأة، ودومًا تقلب المفاجآت خطته لكارثة، لذلك ينهار في إحدى الحلقات عندما يُربك رجل أبسط تفصيل في يومه بأكل شطيرته المفضلة.

تولد الكوميديا في مواقف كثيرة من اصطدام عالم روس العلمي الصارم بعشوائية وسيولة فيبي، تُهاجم تمسكه الدوجمائي بنظرية التطور، ورفضه تصديق أن روح أمها الراحلة حلت في قط وجدته، تخبره أن العالم دومًا أكثر سعة من الخطة الموضوعة، وأن بعض الخيال على استحالته قد يمنحنا العزاء الكافي.

فيبي رفقة روس من مسلسل Friends
فيبي رفقة روس من مسلسل Friends

تُخبر فيبي روس أن قدره مع رايتشل، وعندما يطلب تفسيرًا علميًا تُخبره ببساطة بمجاز سحري عن سرطان البحر Lobster، الذي يقترن بوليفته مرة واحدة وللأبد، تجسد الصورة الخيالية نبوءة ستحدد مصير روس، الذي يحاول كل مرة الإفلات من قدره مع رايتشل لكنه يستسلم في النهاية لما رأته فيبي منذ البداية وعجز هو عن تأويله بصرامته المعهودة وهو أنها نصفه الآخر.

في إحدى الحلقات تصف فيبي نفسها أنها Puppet Master أو مُحركة الخيوط، لكونها نجحت في دفع تشاندلر عبر محاصرته للاعتراف بحبه لمونيكا، وتنبأت بأن رايتشل وروس سرطانا بحر مُقترنان للأبد رغم مقاومتهما، وهو ما يوحي ببصيرة ذكية.

لا تتحكم شخصية فيبي في أصدقائها لكنها تقدم لكل الشخصيات حولها إطلالة على الضفة الأخرى، على الجانب الآخر من انحيازاتهم وعُصابهم الذي يحد من رؤيتهم للعالم.

من مسلسل Friends
من مسلسل Friends

تحضر شخصية فيبي لتوسع رؤية الأبطال للمشهد لكيلا يؤسروا لماضيهم، أو عصابهم الذي يحميهم دومًا من مخاوفهم، أو طبقتهم الاجتماعية التي تجعلهم أبعد عن وصال الأقل حظًا، يأتي الشخص الذي جرب الجحيم بكل صوره ليقدم برهافة للآخرين صور الفردوس المُختبيء في الحياة العادية، يأتي الشخص الذي نجا بمهارة من صدمات الطفولة والقدر ليُخبر الآخرين أن العصاب أو الفوبيا قد تحمي صاحبها من صدمة يتوقعها لكنها أحيانًا ستحميه من الحياة بكل ممكناتها التي تُقدمها.

يرى كارل يونج، أن العالم أسير ما يُسمى النماذج الأصلية Archetypes، كل نموذج هو تجربة إنسانية يشي تكرارها عبر العصور بكونها مُتجذرة في لا وعينا وتمثل سؤالًا يخص وجودنا، وأحد أشهر نماذجه الأحمق الحكيم Wise Fool.

يخاف البشر في أي مُجتمع من الظهور بمظهر الحمقى، لذلك يجتهدوا في اعتناق كل ما هو مقبول مُجتمعيًا وبقدر ما يمنحهم ذلك فضيلة الانتماء في النهاية، إلا أنه يخلق المشابهة، الجميع يدورون في حيز مُمل وآمن بحثًا عن استنساخ الحياة نفسها، لذلك يحضر الأحمق في كل حكاية ليمنحنا إطلالة على مساحة مُمكنات شاسعة لا يجرؤ أحد على ولوجها، سيرتكب الحماقات لكنه دومًا سيُقدم لنا فضيلة الفوضى في سردية آمنة، وعبر الفوضى ستظهر رؤية أخرى للعالم، قد تحمل في طياتها حكمة مٌنقذة، حكمة لا يدفع ثمنها إلا شخص لا يخاف من الاختلاف، ولا يخشى من وصمه بالحماقة لأنه مختلف وحسب، بتلك الطريقة يكون الحمقى أدوات لتوليد فوضى حكيمة في حبكة مُحكمة، وضمانة لحماية الحكاية من الملل.

الظل يصنع النور

عندما يواجه المرء ظله، يجد نوره
كارل يونج

يُخبرنا كارل يونج أن كل إنسان يحمل بداخله ظلًا، يُمثل الظل أشد نسخنا شرًا، وظلامية، النُسخة التي نرتعد من أن نكونها يومًا، ونشحذ كل طاقتنا للابتعاد عنها كأنها الطاعون. يرى يونج أن تماسك الصورة الذاتية للإنسان منبعه الاعتراف بوجود هذا الظل ومقاومته.

يصعب أن تخلق صدمات مُخيفة مثل انتحار الأم وغياب الأب، والحياة القاسية في الشوارع شخصية سوية، لذلك تصطنع الحكاية لفيبي، صورة ظل مُخيفة، وهي توأمها أورسولا.

تُمثل أورسولا التطور الأكثر طبيعية لفتاة تحمل ماضي فيبي، تظهر بشكل كوميدي كشخصية سيكوباتية مُتمركزة حول ذاتها، تتلاعب بالآخرين وتستخدمهم دومًا كأدوات لمتعتها ومصلحتها الشخصية.

فيبي في مواجهة شخصية أورسولا
فيبي في مواجهة شخصية أورسولا

لا يكتفي المُسلسل بتقديم أورسولا بتلك الصورة، بل يجعل تلك الصفات محل تقدير ومُكافأة في مُجتمع نيويورك القاسي، بينما تحمل الفتاتان الوجه ذاته، يصف الجميع أورسولا بأنها الأكثر جمالًا وفتنة، ويقع في حبها جوي الصديق المُقرب لفيبي.

حضور أورسولا يجعل فيبي دومًا الفتاة الأكثر سذاجة وبراءة، لذلك عندما تدور حلقة خيالية عن مصائر بديلة للأبطال، تظهر فيبي في صورة سيدة أعمال قاسية تشبه أورسولا، مدمنة على العمل، وهذا يجعلها محل تقدير ورهبة من الجميع. ندرك أن أورسولا كامنة في لاوعي فيبي باعتبارها الوحش الذي تشحذ لأجله ذخيرتها لكيلا تصير مثله.

على مدار المواسم تُظهر فيبي سمات مُشابهة لأختها، مهارات في التلاعب بالآخرين، وقدرة كوميدية على الكذب حد انتحال شخصية كاملة لتحقيق أغراضها هي Regina Phalange، سيدة تحمل لكنة فرنسية تظهر كلما أرادت الكذب. توحي تلك السمات أن فيبي تملك القدرة على ارتكاب الشر، بل وأحيانًا تستخدم معاناتها في طفولتها لنيل التعاطف وكسب الجدالات، وهذا ما يُميز فيبي، أنها ليست شخصية طيبة بالفطرة، إنما تختار وصال العالم بتلك الطريقة.

ليزا كودرو في دور فيبي
ليزا كودرو في دور فيبي

تقول ليزا كودرو أنها استلهمت أداء فيبي من صديقة قديمة لها في الجامعة، قطع عنها أبواها الدعم المالي لأن الجامعة تجعل ابنتهما أقل تدينًا، اضطرت تلك الفتاة لتحمل أقساطها الجامعية الباهظة والعمل لسنوات في دار رعاية، لكنها قابلت كل ذلك بحس دعابة مُتقبل، وأعادت تدوير تلك المُعاناة لتبدو لا شيء، بدلًا من الاستسلام لطغيان والديها أو لفكرة التخلي عن دراستها.

تمثل فيبي شخصيات موجودة في الواقع، لا تختار آلامها لكنها تختار ألا تحولها لمُعاناة، وأن تحقق وصالها معها بأكثر الطرق صحية، فيبدو للآخرين أن صاحب تلك المعاناة يُعاني من سذاجة أو إنكار.

في إحدى الحلقات تواعد فيبي «باركر»، رجل شديد الإيجابية، لا يقدم تعليقًا سلبيًا أبدًا، يمدح كل شيء دون شكوى، تُخبره فيبي في النهاية أنه ليس رجلًا سعيدًا وإنما سانتا كلوز مُدمن للبروزاك المُضاد للاكتئاب.

تدرك فيبي جيدًا الشعرة الفاصلة بين السذاجة أو الإيجابية الكاذبة وشجاعة وصال العالم بتعريف نختاره بإرادتنا ولا تصوغه آلامنا، تدرك أن صدمات المرء تصنعه أحيانًا على صورتها، فتصنع القسوة أشخاص قساة كما صنعت حكايتها أورسولا.

مفتاح شخصية فيبي هو المبالغة في وصال جانبها الطيب، لا لرغبة في المثالية إنما هروب لاهث من الظل، من الحتمية التي يظنها الجميع أن القسوة التي نختبرها في العالم تصنعنا حتمًا على صورتها. تمنحنا فيبي بمبالغتها الأمل أننا يُمكننا أن نمر بكل ما نخافه وننتهي لنسخة أفضل من أنفسنا لا نُسخة مُحطمة.

في إحدى الحلقات تطارد موظف يوشك على الانتحار، لا تفلح في إقناعه بوجود ميزة أو تأثير لعمله، لكنها تصل إلى مقر عمله الكئيب لتُخبره أنه ربما لا يهتم زملاؤه بوجوده لكن الكون يهتم ولو تمظهر اهتمامه عبر فرد واحد وهذا يعني الكثير.

شخصية فيبي من مسلسل Friends
شخصية فيبي من مسلسل Friends

في الحلقة الخيالية تخسر شخصية فيبي الناجحة كل شيء وتُفصل من عملها عندما تدخل المشفى تحت وطأة أزمة قلبية لكنها تجد أصدقاءها بجانبها.

تدرك فيبي أن الخشونة التي جربتها منذ طفولتها ومنحتها استقلاليتها وقوتها لا تكفي للنجاة، وإنما الصداقة وحدها هي ميدان تجاربها، هي ما يجعلها تؤمن أن صدمات الطفولة انتهت وأن الماضي لن يعود، يٌشكل أصدقاءها لأول مرة منزلًا تنتمي له، لذلك تُعرف نفسها:

أصدقائي أهم أولوية في حياتي
أنا لا أكذب أبدًا
وأجيد صنع أجمل بسكويت شوفان وزبيب بالعالم

تقول ليزا كودرو إنها خاضت شجارات شتى مع مذيع NBC الشهير Matt Lauer لوصفه شخصية فيبي بالحمقاء، تدرك ليزا أن فيبي ليست غبية ولا متفائلة بسذاجة، هي شخصية تُدرك جيدًا لأي مدى يُمكن للعالم أن يكون قاسيًا، لذلك تحاول أن توضح لأي مدى يُمكن للمرء أن يكون طيبًا ليحقق توازنًا مضادًا لتلك الحقيقة الباردة.

تقدم فيبي نفسها كشخصية نباتية لا تأكل اللحم، لا ترتدي الفراء الذي تعذبت لأجله الحيوانات، تنفصل عن شرطي تُحبه لأنه يطلق النار ليخيف الطيور، تمنح رحمها لأخيها وتحمل لأجله أطفاله، تتزوج صديقها لتمنحه تأشيرة خضراء لكيلا يُطرد من الولايات المُتحدة، تنقذ فئران مُتطفلة على مطبخها وتمنحهم منزلًا.

لا تبدو فيبي في الأفعال السابقة قديسة، كثيرًا ما تغش وتأكل اللحم، كثيرًا ما تستسلم لقطعة فراء أنيقة، وبعد ولادتهم فكرت في الاحتفاظ بأطفال أخيها بأنانية، وخلف مساعدتها لصديقها في نيل تأشيرته رغبه في حبه.

لا تبدو فيبي كشخصية طيبة بشكل أجوف، أو منافقة بشكل مُتصنع، إنما امرأة تُبالغ في وصال العالم بطيبة تفر بها من ظل بداخلها يُخبرها بأن العالم يصنع المرء على صورة ما اختبره.

Friends حكاية أشباح في عقل مريض

في عام 2015 قدم أحد مُحبي المسلسل نظرية سوداوية تُفسر أحداثه، مفادها أن الحكاية بأكملها خيالات وهلاوس تدور في عقل فيبي المُشردة التي تُطل بعينيها عبر زجاج مقهى Central Perk لتجد صحبة أصدقاء يجلسون بداخله، تصطنع لهم هويات وأسماء مختلفة وتدس نفسها وسطهم. في النهاية سيلاحظها الأصدقاء ويسمونها السيدة المجنونة التي تحدق إلينا عبر الزجاج، تنسحب فيبي باكية وتنام أسفل النافورة، وعندما تُمطر تغطي نفسها بست مظلات ملونة، في إشارة لرقصة الأصدقاء بالمظلات حول النافورة في التتر الشهير.

ليزا كودرو في دور فيبي من مسلسل Friends
ليزا كودرو في دور فيبي من مسلسل Friends

هاجم ديفيد كراين صانع المسلسل النظرية ووصفها بأنها لا تتأتى إلا من عقل مريض لا يفهم جوهر الحكاية. ورغم سوداوية الطرح لكن تحمل النظرية في دلالتها إشارة لكون فيبي هي الأخصب خيالًا وسط أصدقائها، تحمل خيالًا يكفي ليصطنع عالمًا كاملًا.

تُجيد فيبي على مدار المسلسل إعمال خيالها لبث الحياة في الموجودات من حولها، تؤمن بالتناسخ وأن أمها عادت في صورة قطة لوصالها، تؤمن أنها هي نفسها تحيا للمرة الثالثة وتحاول تنفيذ إرادة سيدة عجوز ثمانينية على فراش الموت. وتؤمن أنها بحركة عينيها تستطيع التأثير في التلفاز والتحرك من قناة لأخرى.

عندما تُهاجم تمسك روس الشرس بنظرية التطور، تكون حُجتها أن العالم يحوي سحرًا يصعب تفسيره بنظرية واحدة، لا تقدم فيبي نظرية بديلة، لأنها لا تستهدف الوصول للحقيقة إنما الحفاظ على الخيال دومًا كمهرب، كإمكانية لخلق سيناريو بديل يجعل العالم أخف وطأة. تلك الهبة هي ما تقدمه لأصدقائها، إمكانية إيجاد السلام والسعادة خارج كل اشتراطات المجتمع من مهنة ثابتة وتصرف دائم وفق الكود الاجتماعي، يكفي فقط أن تكون مقبولًا وسط جماعة أصدقاء يروك كما أنت وتُريهم بفرادتك بعضًا من جوانب الوجود لا يملكون الشجاعة لتصديق غرابتها.

فيبي وجوي من مسلسل Friends
فيبي وجوي من مسلسل Friends

تخفي شخصية جوي الشهيرة بحماقتها في المسلسل رغبة شديدة في أن يكون شخصًا آخر، يجيد الكذب وانتحال شخصيات أخرى ليظفر بمواعدة الجميلات، وتُمكنه تلك المهارة من العمل كممثل، بينما تُخفي حماقة فيبي الظاهرة رغبة أصيلة في ألا تكون شخصًا آخر، لذلك عندما تحاول العمل ككومبارس، لا تُجيد التظاهر أمام الكاميرا رغم تعليمات جوي لها.

تجد أغلب الشخصيات في النهاية سعادتها واكتمالها بوجود نصف آخر أو مُحب يحقق مصالحة لهم مع أنفسهم، بينما لا يميز شريك فيبي شيء سوى كونه شخصًا يتقبلها كما هي، ويحتفي بفرادتها دون أن يحاول تغييرها، لا تنتظر فيبي فارس أحلام ليُصلح ما أفسده العالم لأجلها، ولا تلهث لأجل الحب ولا تتأنق لأجله، بل تنتظره بهدوء ليفصح عن نفسه في اللحظة المناسبة، في صورة رجل يراها كما يراها أصدقاؤها، ويحبها كما يُحبونها.

تحضر فيبي في عوالم Friends، لتؤنسن أصدقاءها وتظهر جانبهم الأكثر تقبلًا للآخر مهما بدا غرائبيًا، فيتحول خمسة نيويوركيين من طبقة بعينها بعد أنسنتهم لصحبة تستضيف ملايين من أعراق وطبقات وبلدان شتى. ما داموا قبلوا فيبي كجزء من مجموعتهم، إذًا يمكن لأي أحد أن ينتمي لهم.

أبطال مسلسل Friends
أبطال مسلسل Friends

تُعلمنا فيبي أن الآلام والآباء والطبقة لا يمكن أن نختارهم قبل مولدنا، لكن يُمكننا أن نختار أصدقاءنا، ليصنعوا قارب نجاة لنا، اختيار وحيد يجبر الاختيارات السابقة ويجعلنا مقبولين رغم كل ما مررنا به.

تُعلمنا فيبي أن القسوة التي مررنا بها لا تصنعنا على صورتها لو أردنا ذلك، وأن الحكمة كثيرًا ما تأتي مُتخفية في ثوب الحماقة والسذاجة، وأن أصواتنا ربما ليست عذبة لكننا أحيانًا يجب أن نغني لأنفسنا، وأن هروبنا من الظلال القاتمة التي نحملها في دواخلنا يولد الطاقة اللازمة لنصل لنقطة النور في حكايتنا.