السينما ليست فقط كادرات وصورًا متحركة، السينما حياة أخرى، نافذة في عقولنا للأحلام كما وصفها المخرج الإيراني الراحل عباس كيارستامي، أرض لا يتحكم في خيالاتنا فيها طغاة ولا مستبدون. نشاهد الحياة بشكل مكثف في شريط سينمائي، وتبقى التفاصيل الصغيرة التي شاهدناها تطاردنا في حياتنا الحقيقية، ولا نعلم مع مرور الوقت إن كانت السينما تحاكي الواقع أم نحن الذين نحاكيها.

في العام السينمائي 2018، سيطرت تيمة التنوع العرقي وأفلام الأقليات الأجنبية على سينما هوليوود، لكن بعيدًا عن حسابات المجتمع السينمائي الأمريكي في فترة حكم ترامب، فإن السينما غير الأمريكية قدمت لنا مجموعة من الأفلام شديدة الجمال خلال هذا العام، نذكر منها في هذا اليوم فيلمين ظهرت فيهما السلطة المستبدة، ليس بحضورها المباشر ولكن بتأثيرها في التفاصيل الصغيرة من حياة البشر، ليبقى أثر هذين الفيلمين حاضرًا في عقولنا عقب نهاية العام وعقب نهاية موسم الجوائز؛ لأن القيمة الحقيقية للأفلام تُحسب فقط من خلال قدرتها على البقاء حية رغم مرور الزمن.


1. الحرب الباردة: فحياتك التي أضعتها هنا

فحياتك التي أضعتها هنا قد أضعتها في أي مكان آخر هي خراب هنا وخراب أينما كنت في الوجود
من قصيدة المدينة للشاعر اليوناني السكندري كفافيس

في فيلم «Cold War» للمخرج البولندي بافل بافليكوفيسكي تدور الأحداث عن قصة حب بين عازف بيانو ومايسترو هو فيكتور، ومغنية وراقصة جميلة هي زولا. زمن الأحداث هو زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية، مكانها يبدأ من الريف البولندي ثم ننتقل معه إلى وارسو ومنها إلى برلين وباريس وغيرها من مدن أوروبا التي تم تقسيم السيادة عليها بعد نهاية الحرب بين الفائزين من الحلفاء، فوقع بعضها تحت سيطرة المعسكر الغربي الرأسمالي الليبرالي، وبعضها الآخر تحت سيطرة الاتحاد السوفييتي الشيوعي القومي.

سردية بافليكوفيسكي الحزينة هنا تقترب بشدة من كلمات الشاعر اليوناني السكندري كفافيس: «حياتك التي أضعتها هنا، قد أضعتها في أي مكان آخر». يتعرف فيكتور على زولا في بولندا، ويحبها. تجبر فرقتهم على الغناء لتمجيد ستالين، كما يجبر أعضاء الفرقة على مراقبة بعضهم البعض. يقرر فيكتور الهرب، يذهب إلى باريس، يظن أنه سينقذ حياته بهربه هذا.

ترفض زولا الذهاب خوفًا من التجربة، ولكنها تهرب بعد مرور بضع سنوات، يجتمعان في باريس، لكنهما يجدان نفس الاستغلال والحقارة، هذه المرة باسم المصلحة، فلا يجدان سبيلاً إلى نجاحهما الفني سوى بتقديم رشاوى معنوية وجنسية لمن يقابلهما في المجتمع الفني الفرنسي، بالإضافة بالطبع للمزيد من ادعاء بطولات لم يقوما بها في بولندا.

يعود فيكتور لبلده رغبة منه في إيجاد ذكرياته واستعادة حياته، يسجن ويعذب، يفقد أصابعه، كما يفقد حبيبته التي لا تجد سبيلاً لإنقاذ حبيبها سوى بالزواج من مدير مسرحي بدرجة مخبر أمني، في النهاية لا يجد الحبيبان سبيلاً آمنًا للبقاء أحباء للأبد سوى بالموت، والإيمان في وجود حياة أخرى. لتتحقق نبوءة كفافيس، فحياتهما التي أصبحت خرابًا في بولندا، ستظل خرابًا في أي مكان آخر، والمهزومون لا يجدون الخلاص مهما ابتعدوا عن ميدان الهزيمة.

اقرأ أيضًا:فيلم «Cold War»: بافليكوفسكي وجماليات الحد الأدني

يستخدم بافليكوفيسكي في هذا الفيلم تقنية تصوير «المربع الصغير» والتي تجعل أبعاد الكادر أصغر وأضيق، وكأنه يحاصر ممثليه كما تحاصرهم السلطة المستبدة، المثير للتأمل أن بافليكوفيسكي نفسه قد قضى حياته كلها كصانع للأفلام الوثائقية في التليفزيون الإنجليزي، وصانع أفلام ناطقة بالإنجليزية بشكل عام، ولكنه لم يحقق النجاح العالمي إلا بعد أن عاد أخيرًا لسرد حكايات تدور داخل وطنه الأم بولندا، فاختار بافليكوفيسكي أن يسرد حكايات من ذكرياته الشخصية واختار لسردها أسلوبًا خاصًا، نراه في «Cold War» كما نراه في فيلمه السابق المتوج بأوسكار أفضل فيلم أجنبي «Ida».

في الفيلمين اختار بافليكوفيسكي اللونين الأبيض والأسود فقط، بالإضافة لأبعاد المربع الصغير، كما اختار أيضًا سردية تبدو قاتمة للغاية، ليست متشائمة ولكنها عدمية، يبدو من خلالها أن الرجل يرى أن لا أمل في العالم ولا قيمة للحياة الدنيا، فبينما ينتهى Cold War بالموت، نرى الانتحار كحادث اعتيادي في Ida وتعود الفتاة الجميلة للرهبنة في نهاية الفيلم لأنها لم تجد ما يستحق التشبث به في الحياة الدنيا.

في المجمل لا تظهر السلطة المستبدة إذن بشكل مباشر في أفلام بافليكوفيسكي، حتى أننا لا نرى حادث التعذيب الذي أدى لتشويه يد فيكتور في Cold war، لكن أثر الخراب يظهر، نراه في كل تفاصيل الحياة، وفي خلفية كل الأحداث.


2. روما: ارتجافة خوف وتاريخ كامل من المهانة

ففي تطلع طفل إلى طعام في يد الغير، تعبير عن محنة عظيمة، وفي ارتجافة خوف يعتري إنسانًا من لحم ودم لمجرد عبوره أمام قسم شرطة اختزال لتاريخ كامل من المهانة والقهر.
الأديب المصري إبراهيم أصلان

تدور أحداث فيلم «Roma» للمخرج المكسيكي ألفونسو كوارون عن يوميات خادمة منزلية تُسمى كليو. تقع الأحداث في بيت أسرة ميسورة الحال في حي روما بمدينة نيو مكسيكو، والزمان هو منتصف السبعينات وقت الحكم العسكري للمكسيك.

لا نرى السلطة المستبدة بشكل مباشر بتاتًا، حتى في المشهد الوحيد الذي نمر خلاله بمظاهرة ضد الحكم العسكري فإن كوارون يختار أن تتابعها بطلتنا من نافذة أحد المحال التي ذهبت إليها لشراء مهد لمولودها القادم، يُقتل متظاهر أمام أعيننا لكننا لا نعرف عنه شيئًا، يبقيه كوارون في خلفية الأحداث، لكنه يركز على تأثير ذلك على كليو، التي تبدأ في مخاض الولادة بمجرد توجيه أحد المسلحين الموالين للسلطة للسلاح نحوها، المثير للتأمل أن هذا الرجل هو ذات الرجل الذي تسبب في حملها ثم هرب.

تستمر كليو في رحلتها أثناء مخاض الولادة، وتستمر الاشتباكات مع المتظاهرين في الخلفية، نمر بامرأة تصرخ: «لماذا؟» وهي ممسكة بحبيبها المقتول بين ذراعيها، نكمل هذا التسلسل المذهل برفقة كوارون حتى نصل للمشفى وفي النهاية تلد كليو المذعورة طفلاً ميتًا.

اقرأ أيضًا:فيلم «Roma»: ألفونسو كوارون والبحث عن الزمن المفقود

هنا تظهر السلطة المستبدة في كل تفصيلة؛ في بكاء المرأة المتظاهرة على حبيبها المقتول، في صراخها طلبًا لإجابة أو سبب، في نظرة عين كليو المذعورة، وفي طفلها الذي حكم عليه بالإعدام قبل أن يولد.

رؤية كوارون للسلطة والمجتمع تبدو ظاهرة في التفاصيل طوال الفيلم، فالتحالف الرأسمالي السلطوي الذي ينظر للعمال والخادمات كبشر بلا حقوق، يظهر حتى في أكثر اللحظات حميمية. تجلس كليو في أحد المشاهد للحظات برفقة الصغار داخل المنزل أمام التلفاز لمتابعة أحد البرامج، يضحك الجميع وتضحك كليو برفقتهم، يحتضنها أحد الصغار، قبل أن تطلب الأم منها أن تحمل الأكواب وتذهب لتحضير شيء آخر في المطبخ، تغادر كليو الكادر ويصطحبنا كوارون برفقتها، ليخبرنا أنها هي البطل، وأن هذه الأسرة ورغم ظاهرها الطيب فإنهم متأثرون أيضًا بقيم مجتمع رأسمالي مستبد وغير إنساني.

ينظر كوارون هنا إلى حيث لا ينظر صناع السينما عادة، يأتي بخادمة من السكان الأصليين ويضعها في مقدمة الكادر، يجعل منها بطلة لنرى في كل تفاصيلها أثر سنين من القهر والظلم.

هذه الرؤية السينمائية المقدمة بالأبيض والأسود، شديدة الشاعرية والقسوة في نقدها الاجتماعي أيضًا، نجحت بعد عودة كوارون أيضًا إلى وطنه الأم ولغته الأصلية، بعد سنين من صناعته لأفلام كبرى ناطقة بالإنجليزية، ليثبت مرة أخرى كما فعل بافليكوفيسكي أن الذكريات الصادقة والحكايات الأصلية هي ما تصنع كلاسيكيات سينمائية، وهي ما يمكنها أن تظل حية في عقول ووجدان الجماهير مهما مرت السنين.