يقول عالم النفس الكندي «جوردان بيترسون»:

إذا لم تشعر بالرعب والفزع وأنت تقرا لـ «كارل يونج»، فتأكد أنك لم تفهم منه شيئًا.

يعد «كارل يونج» من أشهر علماء النفس في العالم الحديث، خصوصًا بعد انشقاقه عن مدرسة سيجموند فرويد الذي تتلمذ على يديه، ومن بين نظريات يونج الأكثر رعبًا وإثارةً للجدل، هي «نظرية الظل» التي سنناقشها في هذا المقال، والتي تُعد من أهم النظريات في علم النفس بعد اكتشاف فرويد للعقل اللا واعي.

تجبرنا هذه النظرية على التنقيب في أعماق النفس البشرية بشكل غير مألوف، حتى نستطيع مواجهة الجانب الخفي من ذواتنا، الذي دائمًا ما نحاول تجاهله خوفًا من المواجهة المؤلمة. وما يخبرنا به يونج في نظريته أن تلك المواجهة حتمية، ومهما حاولنا تجنبها سيكون مصيرنا أن نصطدم بها في الأوقات غير المتوقعة.

قانون باركنسون وزيادة القدرة

ينص قانون باركنسون الشهير Parkinson’s Law، أنه كلما زاد دخل المرء، كلما ازدادت نفقاته، والتفسير أنه كلما زادت قدرة الفرد على فعل شيء ما، كلما ازدادت احتمالية فعل الشيء ذاته. فلما زاد الدخل ازدادت معه مقدرة صاحبه على الإنفاق الزائد، وكلما زادت المقدرة تزيد معها احتمالية فعل الشيء ذاته.

يميل الباحثون لتعميم قانون باركنسون على كل شيء، بالمثل لو زادت قدرة شخص ما على ارتكاب الجرائم، فبالتأكيد ستزداد احتمالية ارتكابه للجريمة أكثر وأكثر، فعلى سبيل المثال لو زادت قدرتك على التعدي على أحدهم (بإتقانك الملاكمة مثلًا)، ستزيد معها فرصك في التشاجر مع الآخرين أكثر من المعتاد.

وهنا يأتي رأي كارل يونج المعاكس، فتقول نظريته إن قانون باركنسون من الممكن أن يسير على كل شيء، إلا الشر نفسه، فكلما زادت قدرتك على ارتكاب الشر وازداد وعيك به، كلما نما الخير بداخلك لا العكس.

النفس من وجهة نظر يونج

في البداية يجدر بنا تعديد أهم مكونات النفس بالنسبة لنموذج يونج، وهي ثلاثة أجزاء:

  1. البيرسونا Persona.
  2. الأنا Ego.
  3. الظل Shadow.

«البيرسونا» هي القناع الذي يلبسه الفرد أمام العالم، الشخصية المسموح لبقية الناس أن تطلع عليها وتتقبلها، الغطاء الاجتماعي الذي يتحدد وفقًا لمتطلبات المجتمع المقبولة والعادات المسموح بها.

لفترة طويلة كان علماء النفس يظنون أن لا فرق بين البيرسونا والنفس الحقيقية، لكن يونج رفض ذلك، ليقول إنك لست القناع الذي تلبسه خوفًا من الرفض، لست اسمك ولا وظيفتك ولا زيك الرسمي ولا حسابك في البنك، أنت أعمق من ذلك بكثير.

أمّا «الأنا» عند يونج فهو الفاصل بين البيرسونا والظل، هو الجزء الواعي المسئول عن المشاعر التي تظهر على السطح، وفي نفس الوقت هو منْ يحاول التحكم في نظرة الإنسان لنفسه وتعريفه لها بالتوازن بين البيرسونا والظل.

أمّا «الظل» فهو الجزء المظلم من النفس البشرية، حيث كل الصفات المكبوتة والرغبات الخفية والأفكار التي تخشى أن يطّلع عليها من حولك.

فكل شخص بداخله ظل يعكس صفاته السيئة ورغباته الشريرة الكامنة به، بمعنى أن الظل هو جزء من اللا وعي يحتفظ بالغرائز المكبوتة والأفكار غير المقبولة، نقاط الضعف والرغبات والغرائز والنقائص التي يستحي منها صاحبها.

والظل بالنسبة ليونج هو مكمن الشر في العالم، وهو كامن داخل كل شخص، سواء كان مجرمًا أو قديسًا. وذلك الجانب المظلم يتكوّن نتيجة الخوف ويتم كبته ونقله للا وعي، بمعنى أن صاحبه لا يعرف عنه شيئًا ولا حتى يدرك وجوده، لكنه مع ذلك ينعكس في تصرفات صاحبه دون أن يشعر. يظهر في أوقات الغضب أو المواقف العصيبة أو الشجارات المُرة، أو حتى في التحكم في المشاعر والأحاسيس بشكل خفي مثل الانجذاب لأشخاص وأشياء بدون سبب واضح.

نيتشه والجوكر: كيف يتحكم الظل في اختياراتنا؟

على سبيل المثال، فإن الفيلسوف الألماني فريدريك نيشته كان يعتقد أننا ننجذب للشخصيات الشريرة في الروايات والأفلام (مثل شخصية الجوكر)، لأنهم يمثلون الجزء الخفي من رغباتنا في تحدي المجتمع وإطلاق الزمام لرغباتنا المكبوتة.

وسبب إعجابنا بتلك الشخصيات هو أننا نرى أنهم يملكون من الشجاعة ما نفتقره، الشجاعة اللازمة لإظهار الجانب الخفي من ذواتنا، ذلك الجانب الذي نحاول كبته طوال الوقت خوفًا من الرفض والنبذ، وأضاف أن ذلك لا يعني أننا أخلاقيون، بل على العكس، ذلك يعني أن أخلاقياتنا ما هي إلا جُبن من قدراتنا الحقيقية على ارتكاب الشر.

ولذلك ينصحنا يونج أن نكون واعين بالظل الخاص بنا وأن نحاول التعمق بداخله لكي نكتشف ذلك الجانب الخفي والمظلم من شخصيتنا. ويؤكد يونج أن هذه الطريقة، بالرغم من أنها ستزيد من قدرتنا على ارتكاب الشر، فإنها في نفس الوقت ستساعدنا في السيطرة على ذلك الجانب المظلم، وأن وعينا بتلك القدرة هو الشيء الوحيد الذي سيجعلنا نتحكم في الظل بدلًا من أن يتحكم بنا.

وبالمثل ستمدنا بالقدرة على التعامل مع الشر في العالم واستيعابه، فمثلما سيزيد وعينا بالجانب الشرير بداخلنا وقدرتنا على وضعه تحت السيطرة، سيزيد وعينا بالجانب المظلم من الآخرين وقدرتنا على التعامل معهم.

اضطراب ما بعد الصدمة بسبب عدم الوعي بالظل

اكتشف الباحثون ظاهرة غريبة عند الجنود العائدين من الحرب، وذلك أن لدى معظمهم ظاهرة PTSD أو ما يُسمى بـ «اضطراب ما بعد الصدمة»، والذي يظهر في الغالب عند الأشخاص الذين يتعرضون لحوادث مرعبة أو يكونون ضحايا لجرائم العنف بشتى أنواعها.

مما يعني أن اضطراب ما بعد الصدمة غالبًا ما يظهر عند الضحايا، ذلك ما كان متعارفًا عليه عند علماء النفس مُسبقًا، أمّا أن يظهر عند جنود عائدين من الحرب وارتكبوا هم أنفسهم جرائم عنف نتج عنها ضحايا، كيف يمكن أن يحدث ذلك؟

ما اكتشفه يونج بعد دراسات عديدة، أن سبب اضطراب هؤلاء الجنود هو عدم وعيهم بظلهم من الأساس، أو بلفظ أدق، عدم وعيهم بقدرتهم على ارتكاب أفعال الشر مثل العنف والقتل، وعندما اضطروا لارتكاب تلك الأفعال ثم عادوا بعدها لبيوتهم وعائلاتهم، لم يتمكنوا من ممارسة واجباتهم اليومية مثل اللعب مع أطفالهم أو اصطحاب العائلة للتنزه. لم يتمكنوا من التعايش مع فكرة وجود ذلك الوحش الكاسر بداخلهم، الوحش الذي ضرب وقتل وسفك دماء عشرات بل مئات من الناس.

كيف يمكنهم أن يستمروا في حياتهم بعد أن أدركوا أن ذلك الوحش يعيش بداخلهم مُترقبًا ينتظر اللحظة التي تتاح له الفرصة ليظهر بها؟ ربما يقفز إلى ذهنك القول إن نظرية يونج في الظل وارتكاب الشر قد تنطبق على جنود عاشوا وسط أهوال الحروب، حيث أصبحت وظيفتهم القتل والدفاع عن بلدانهم، تلك هي وظيفتهم ونتيجة لذلك سيكون الظل الخاص بهم مختلفًا عن الشخص العادي، أليس كذلك؟

لكن ماذا لو كانت تلك النظرية تنطبق على أفراد عاديين مثلي ومثلك؟ ماذا لو كان التاريخ والتجربة أثبتا لنا ذلك؟!

«كتيبة الشرطة الاحتياطية 101»

في كتابه المخيف Ordinary Men، يقص علينا المؤرخ الأمريكي «كريستوفر براونينغ» تاريخ كتيبة الشرطة الاحتياطية 101 من الجيش الألماني النازي. وهي الكتيبة التي كانت مسئولة عن القضاء على أكتر من 83 ألف يهودي في بولندا، منهم 38 ألف تم إطلاق النار عليهم وقتلهم أمام أهلهم وذويهم، أمّا الباقون فأرسلوهم لمعسكرات اعتقال النازيين الشهيرة.

ولكن، ليست هذه هي المفاجأة عزيزي القارئ.

كتيبة الشرطة الاحتياطية 101 كانت جزءًا من إستراتيجية «الحل الأخير»، التي اعتمدها هتلر في بدايات الحرب العالمية الثانية، والتي كانت تنص على قتل أكبر عدد من اليهود بقدر الإمكان، حتى لو كان الفرد أعزل ولا يمثل أي خطر.

والمفاجأة أن في وقت تكوين هذه الكتيبة كانت القيادة النازية قد اضطرت لاستعمال كل الجنود الألمان القادرين على القتال، فلم يعد هناك أي عسكري متاح لتشكيل كتيبة جديدة لتأدية المهام في بولندا، ولذلك كان القرار الأصعب هو تكوين الكتيبة ليكون كل أفرادها من المدنيين!

أي أن منْ أطلق الرصاص على 38 ألف فرد أعزل لم يكونوا جنود حرب ولا عسكريين، بل كانوا مدنيين مثلي ومثلك!

القيادة النازية جمعت «چو» جزار المنطقة، وجاره «چيم» مدرس الابتدائي في المدرسة المحلية، وكذلك الجد «جورج» رجل المبيعات المتقاعد لكي يكوّنوا الكتيبة، التي سيكون عدد أفرادها 500، كلهم من المدنيين الذين ينتمون للطبقة المتوسطة، ومنهم النجارون وسائقو العربات والعاملون بأعمال البناء والمقاولات.

الليالي الأولى في مدينة «چوزيفو»

في كتابه، يحكي لنا كريستوفر براونينغ عن تفاصيل الليالي الأولى للكتيبة 101 في مدينة چوزيفو Jozefow في شرق بولندا عام 1942، وكيف لمّا سيطرت الكتيبة على أرجاء المدينة، أصدرت القيادات النازية الأوامر بإرسال الذكور القادرين على العمل من اليهود إلى معسكرات الاعتقال النازية. وحينها تساءل أفراد الكتيبة: وماذا عن الباقين؟ النساء والأطفال وكبار السن؟ ماذا نفعل بهم؟

وهنا جاءت الأوامر صادمة: اقتلوهم جميعًا!

ومع أن الأوامر كانت واضحة وصريحة، إلا أن قائد الكتيبة حينها أصدر قرارًا يتيح الفرصة لغير القادرين على تنفيذ الأمر بالسماح لهم بالامتناع، لكن بالرغم من ذلك تقدّم عدد كبير من أفراد الكتيبة دون تردد وأطلقوا النار على العجائز والأطفال والنساء.

المؤرخ الأمريكي براونينغ كان مندهشًا من قدرة أفراد الكتيبة على تبرير فظائع مثل هذه لأنفسهم، خصوصًا وأنهم أناس عاديون مثلي ومثلك، لم يتخيل أحد يومًا أن لديهم القدرة على ارتكاب مثل هذه الأفعال الشنيعة.

وأبرز الأمثلة كان فردًا من الكتيبة يُدعى بريمرهافن Bremerhaven، يبلغ من العمر 35 عامًا قضى معظمهم يعمل في التعدين منذ الصغر، انضم للكتيبة مع جاره الذي يسكن بجواره، ولمّا حاول أن يشرح كيف طاوعته نفسه أن يطلق النار على الأطفال في بولندا، رغم أنه لم يكن يملك أي تجارب سابقة في الحرب، قال:

عندما كان جاري يطلق النار على النساء، كنت أفكر أن هؤلاء الأطفال لن يستطيعوا العيش بدون أمهاتهم، فكان من الرحمة قتلهم وتخليصهم من المعاناة، ولذلك كلما أطلق جاري الرصاص على إحدى الأمهات كنت أقتل أطفالها بعدها مباشرة!

وبالرغم من أن ما حدث في المدينة البولندية ترك معظم أفراد الكتيبة يعانون بعدها من الاكتئاب الشديد والرعشة القهرية والغضب من أنفسهم، إلا أنهم أكملوا مهامهم في المدن اللي تلتها وارتكبوا فيما بعد أعمالاً أشنع من التي سبقتها، لدرجة أنهم بعد عدة أشهر تحولوا إلى متطوعين متحمسين لتنفيذ المهام والأوامر التي تأتيهم من القيادة النازية، حتى لو كانت تتضمن التدرب على إطلاق النار مستخدمين نساءً حوامل.

بالطبع هناك أسباب وعوامل عديدة جعلتهم يتمكنون من ارتكاب تلك الجرائم الشنيعة قد نتحدث عنها في مقال آخر، خصوصًا أن قائد الكتيبة كان دائمًا ما يعطيهم الخيار للامتناع عن تنفيذ الأوامر، لكن في النهاية فئة قليلة جدًا من الكتيبة هي التي رفضت التنفيذ بعكس الأغلبية.

لكن الشاهد من قصة الكتيبة 101، أنهم كانوا أناسًا عاديين، كانوا مثلي ومثلك، لديهم نفس القدرة على ارتكاب الشر والجريمة وأعمال العنف، ومثلهم مثل جنود الحرب الذين درسهم كارل يونج لم يكونوا واعين بالظل بداخلهم، ولا قادرين على السيطرة على الجانب المظلم لديهم، وذلك لم يكن فقط يتيح الفرصة للظل أن يسيطر عليهم في الأوقات العصيبة، لكن أيضًا كان يُعيقهم عن التعامل بنجاح مع شرور الآخرين.

الظل وتقنيات العلاج النفسي

طوّر يونج تقنية لعلاج حالات التروما والـ PTSD، والتي كانت نسبة التعافي الكامل منها في معظم الحالات تقترب من الصفر، وتعد مستحيلة في كثير من ضحايا جرائم العنف والاغتصاب.

بينما اكتشف يونج من حالاته السابقة أنه لو استطاع أن يساعد هؤلاء الضحايا في أن يكونوا واعين بالظل داخلهم وبقدرتهم على ارتكاب الشرور بأنفسهم، واستطاع أيضًا أن يساعدهم في تكوين فلسفة منطقية يواجهون بها الشر في العالم، فقد يُحسِّن ذلك من فرص تعافيهم بسرعة وعودتهم إلى الحياة الطبيعية.

ولذلك يُلخِّص تقنية علاجه في كتابه «البنية النفسية عند الإنسان»، حيث يقول:

الطريقة الوحيدة لاستيعاب شر العالم واكتساب القوة لمواجهته، هي اكتشاف المرء للشر الكامن في داخله، ودراسة دوافعه ومقدرته على ارتكاب الجرائم هو نفسه.

ويُلخِّص يونج تقنية «دمج الظل» بأنها عملية نقل الجوانب الخفية من العقل اللا واعي إلى العقل الواعي، فيقول في كتابه «علم النفس والدين»:

لا توجد تقنيّة فَعّالة بشكل عام لدمج الظل، إنه أشبه بالدبلوماسية أو الحنكة، وهو دائمًا مسألة فردية.

ولاستكشاف الجوانب الخفية من شخصياتنا، والتمكن من التعامل مع الظل، ينصحنا كارل يونج بالخطوات التالية:

  1. يجب على المرء أولًا أن يقبل ويأخذ بجدية وجود الظل.
  2. على المرء أن يُدرك صفات ظله ونواياه، يتحقق ذلك من خلال الانتباه الواعي إلى الحالة المزاجية.
  3. راقب دوافع أفعالك باستمرار وتعمّق جيدًا في فهم مصدرها سواء كان مصدرها رغبة خفية مكبوتة أو تجربة سابقة حدثت في الطفولة.
  4. حدّد تصرفاتك القهرية وأعطها مُسمى واضحًا، وتعرّف على أعراضها والعلامات التي تسبقها، خصوصًا حالات الغضب والكراهية، فكل صفة تكرهها في شخص ما تشير إلى صفة تكرهها في شخصيتك، وكل شيء يُسبِّب لك غضبًا شديدًا، يعكس مشكلة لديك تتجنب التعامل معها.
  5. الشعور بالذنب المتكرر والندم المبالغ به، من المفترض أن يدفعاك لمواجهة الجانب الخفي من شخصيتك. كلما تجنبت المواجهة، كلما زاد شعورك بالإثم واحتقار الذات.
  6. التعرض لما تكره بدون اختيار يضعك في مكانة الضحية. التعرض لما تكره طواعيةً يضعك في مكانة المغامر. لذلك احرص على أن تؤدب نفسك بين الحين والآخر بأن تمتنع طواعيًة عمّا تحب، وتُجبِر نفسك على تحمل ما تكره، فذلك سوف يُقلِّل من سيطرة ظلك على تصرفاتك ورغباتك اللا واعية.
  7. وأخيرًا، فإن التأقلم مع عملية طويلة من التفاوض مع النفس أمر لا مفر منه لقبول المرء لنفسه وللعالم من حوله، واستمرار تلك العملية ضروري لتطور الشخصية بشكل سليم وصحي ومتزن.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.