تشهد أعماق البحار والمحيطات صراعات مستمرة بين القوى العظمى على النفوذ والسيطرة على شبكات الإنترنت والاتصالات وامتلاك ناصية التقنيات المتقدمة التي يمكن أن تحدد التفوق الاقتصادي والعسكري في العقود المقبلة.

فمع سيطرة فرنسا والولايات المتحدة واليابان على شبكات كابلات الإنترنت التي تعبر محيطات العالم، بدأ الصينيون في اختراق هذا المجال والتنافس على توريد وتركيب هذه الكابلات بعد سنين من محاصرة الأمريكيين لحركتهم ومنعهم بشكل مستمر من الدخول في تلك المشاريع، استباقًا لاحتمال نشوب صراع معهم، وخشيةً من استخدامها في التجسس، خاصةً في ظل قانون أمن البيانات الأخير في الصين، الذي يفرض على الشركات والمؤسسات هناك إعطاء الأجهزة الحكومية المعلومات ذات الصلة بالأمن القومي، مما يجعل البيانات بحوزة أي شركات صينية غير آمنة.

وتحمل الكابلات البحرية أكثر من 95% من إجمالي حركة الإنترنت الدولية، وقد بدأت العديد من الشركات الصينية مثل «تشاينا تيليكوم» و«تشاينا موبايل» و«تشاينا يونيكوم»، في العديد من مشاريع الكابلات الكبيرة، وفي ذلك مشروعان سيربطان الصين بسنغافورة واليابان، كما تعد الشركة الثالثة مستثمرًا رئيسيًّا في خط سيل «Sail»، الممتد على مسافة 5800 كيلومتر بين البرازيل والكاميرون، وبدأ العمل به منذ عام 2020، وفي نفس العام بدأ العمل في مشروع الكابلات «2Africa» الذي يربط مساحات كبيرة من أفريقيا بأوروبا، والذي تشارك به «تشاينا موبايل» بقوة، مع شركتي «ميتا» و«فودافون».

وعملت بكين على تجهيز سفن لمد الكابلات وصيانتها لتقليل الاعتماد على السفن الأجنبية، وضيقت على الشركات الغربية التي تريد العمل في بحر الصين الجنوبي، لذلك اتجهت الشركات الدولية إلى تصميم طرق تتجنب المرور بهذا البحر.

واليوم تعمل شركات الاتصالات الرئيسية الثلاث في الصين على تدشين شبكة كابلات إنترنت من الألياف الضوئية تحت البحر بقيمة 500 مليون دولار لربط آسيا والمنطقة العربية وأوروبا، تحت اسم «EMA» (اختصارا لأوروبا والشرق الأوسط وآسيا بالإنجليزية)، سيربط هونغ كونغ بإقليم جزيرة هاينان الصينية بفرنسا ويمر بسنغافورة وباكستان والسعودية ومصر.

ووقعت شركات النقل الصينية مذكرات تفاهم منفصلة مع 4 شركات اتصالات، هي شركة أورانج الفرنسية، وشركة الاتصالات الباكستانية المحدودة PTCL، والمصرية للاتصالات، وزين السعودية، ويتوقع أن يعمل بحلول نهاية عام 2025، وتتولى مده في قاع البحر شركة HMN الصينية.

وينافس خط EMA مشروع مماثل تدعمه واشنطن، وتقوم شركة سابكوم SubCom الأمريكية بتنفيذه في الوقت الحالي، للربط أيضًا بين سنغافورة بفرنسا مرورًا بباكستان والسعودية ومصر و6 دول أخرى، تحت اسم SeaMeWe-6، وهو اختصار لجنوب شرق آسيا، والشرق الأوسط، وغرب أوروبا-6، لنقل البيانات بسرعات فائقة، مارًّا بمسافة تزيد عن 12 ألف ميل من الألياف، الممتدة على طول قاع البحر.

في البداية تم اختيار شركة HMN الصينية لتنفيذ هذا المشروع، لكن حملة ضغط أمريكية ناجحة سحبت العقد منها وأحلت «سابكوم» محلها، وخصصت واشنطن ملايين الدولارات لدعم منح تدريبية لشركات الاتصالات الأجنبية مقابل اختيارهم الشركة الأمريكية بدلًا من الصينية التي فرضت واشنطن أيضًا عقوبات عليها في ديسمبر/ كانون الأول 2021، بحجة أنها تخطط للحصول على التكنولوجيا الأمريكية لصالح الجيش الصيني، وبموجب تلك العقوبات يُحظر على مالكي كابلات هذه الشركة التعامل مع شركات التكنولوجيا بالولايات المتحدة.

لذا قد تضطر الدول المختلفة إلى الاختيار بين استخدام معدات الإنترنت المدعومة من الولايات المتحدة أو تلك المدعومة من غريمتها الآسيوية، مما يفضي إلى ترسيخ الانقسامات في جميع أنحاء العالم، وتمتد هذه المفاصلة لتشمل الخدمات المصرفية عبر الإنترنت وأنظمة الأقمار الصناعية لتحديد المواقع وغيرها من الخدمات، مما يجعل من السهل على الولايات المتحدة والصين معًا التلاعب بالبيانات والتجسس عليها، كلٌّ في شبكاته الخاصة، في ظل تراجع المساحة العالمية المشتركة.

ففي حين تحظر الولايات المتحدة وحلفاؤها استخدام تطبيق تيك توك الصيني من الأجهزة الحكومية وتطرد استثمارات هواوي لمخاوف تتعلق بالأمن القومي، فإن بكين تحظر المواقع الغربية الكبرى مثل جوجل ويوتيوب وفيسبوك وتويتر.

التنافس على الإنترنت الفضائي

يواجه التفوق التكنولوجي الغربي تهديدًا جديدًا بسبب دخول الصين حلبة التنافس على الإنترنت الفضائي بخطط تشمل إطلاق ما يقرب من 13 ألف قمر صناعي، بقصد زيادة توسيع نفوذها في العالم النامي.

فقبل أقل من عقد من الزمان، كانت شبكات الإنترنت عبر الأقمار الصناعية تقدم خدمة متقطعة نسبيًّا منخفضة السرعة وغير مناسبة للاستهلاك التجاري، ولكن في عام 2019 اتخذت شركة ستارلينك التي يملكها المليادير الأمريكي إيلون ماسك نهجًا جديدًا؛ فبدلًا من تشغيل عدد قليل من الأقمار الصناعية على ارتفاع شاهق، تم إطلاق مجموعات تتكون من عدد كبير من الأقمار في مدار أرضي منخفض، مما غير قواعد اللعبة، فمع ما يقرب من 3500 قمر صناعي نشط وأكثر من مليون مشترك، تجني ستارلينك أرباحًا كبيرة.

كما أكملت شركة ون ويب ببريطانيا تقريبًا المرحلة الأولى من كوكبة الأقمار الصناعية الخاصة بها، والتي من المقرر أن تكون حديث العالم بحلول نهاية العام الحالي، وتعتزم شركة أمازون التي يملكها المليادير الأمريكي جيف بيزوس، إنجاز شبكة تضم أكثر من 3 آلاف قمر صناعي لتوفير الإنترنت أوائل العام المقبل.

وبسبب الانزعاج من سرعة وحجم مجموعات الأقمار الصناعية الغربية، أصبحت استجابة بكين واضحة في أواخر عام 2020 عندما قدمت ملفها إلى الاتحاد الدولي للاتصالات التابع للأمم المتحدة والمكلف بتنسيق أمور شبكات الاتصالات، مما كشف عن خططها لإنشاء نظام ضخم خاص بها في المدار الأرضي المنخفض يشمل كوكبة من الأقمار الصناعية باسم Guowang، بما يتناسب مع مبادرة الحزام والطريق، إذ إن أحد المكونات الرئيسية للمبادرة تتمثل في شبكات الاتصالات أو ما يسمى بـ «طريق الحرير الرقمي»، لا سيما في أفريقيا وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية، وتخطط لاستخدام هذه التقنيات لتعزيز مكانتها العالمية وتقوية محاولاتها لتقويض نفوذ الولايات المتحدة.

ناقوس الخطر من تايوان

لا تحمل تلك المشروعات فرصًا فقط، بل تنطوي على مخاطر كبيرة أيضًا؛ ففي جو التوتر المعبأ بنكهة الحرب الباردة يعد قطع كابلات الإنترنت عن دولة ما بمثابة خنق لها دون أن يتحمل الطرف المعتدي تبعات رادعة، مما يغري باستهداف تلك الخطوط في حالة نشوب أي نزاع.

وتم دق ناقوس الخطر هذا في تايوان، حيث قطعت السفن الصينية الكابلين البحريين لجزر ماتسو في الثاني والثامن من فبراير/شباط الماضي، مما عزل سكان الجزر – التي تقع على بعد أقل من 20 كيلومترًا من ساحل الصين – عن شبكة الإنترنت، وإلى أن تم إصلاح أحد الكابلين التالفين اللذين يربطان الأرخبيل بالجزيرة الرئيسية في تايوان، عاش السكان لمدة 50 يومًا تحت «حصار غير مرئي»، إذ اعتمدوا على نظام إرسال لاسلكي وفر وصولًا محدودًا حتى نهاية مارس/آذار، فكانت الرسالة النصية يستغرق إرسالها من 15 إلى 20 دقيقة، بينما كان من المستحيل تقريبًا تصفح مواقع الويب أو إرسال محتوى صوتي أو فيديو.

تم إتلاف الكابل الأول في البداية في 2 فبراير/شباط على يد قارب صيد صيني، ولم يكد أي شخص في الجزر يلاحظ أي أثر لذلك نظرًا لوجود كابل بحري بديل، لكن بعد تعطل الكابل الثاني في 8 فبراير/شباط، نتيجة إسقاط سفينة شحن صينية مرساتها عليه، بدأت الأزمة.

لم تصل حكومة تايوان إلى حد وصف الأمر بأنه عمل متعمد من جانب بكين، ولم يكن هناك دليل مباشر لإثبات مسئولية السفن الصينية، وتمت إقامة نقاط اتصال واي فاي wifi في تلك الجزر خلال فترة الانتظار الطويل لإصلاح الكابلات لأن تايوان ليس لديها سفن إصلاح كابلات خاصة بها، في حين أن سفن الكابلات العالمية غالبًا ما يكون جدول عملها مكتظًا، وبعد إصلاح الكابل الأول رتبت تايوان أيضًا لإصلاح الآخر في غضون الشهرين التاليين.

أثار انقطاع الإنترنت بجزر ماتسو العديد من المناقشات في تايوان حول تأمين الاتصالات، لا سيما في سياق المخاوف من الصين التي تهدد باستمرار بغزو الجزيرة، وتمت قراءة الواقعة على أنها إشارة تحذير لتايوان، فإذا حدث انقطاع في الإنترنت لماتسو، فقد يحدث أيضًا لتايوان التي تعتمد بشكل كبير على 14 كابلًا بحريًّا دوليًّا لتوفير الإنترنت.

أطلقت الحكومة التايوانية مشروعًا لتوفير الإنترنت البديل في مثل تلك الحوادث من المقرر أن يتم إنجازه نهاية عام 2023، مما يضمن سرعة الإنترنت العادية في حالة وقوع حوادث مماثلة، فبجانب الخطط لبناء كابل بحري إضافي لماتسو، اتجهت أنظار الحكومة إلى الأنظمة البديلة مثل الإنترنت الفضائي لحالات الطوارئ.

وبالنظر إلى دور تايوان كقوة تكنولوجية عالمية، خاصة في تصنيع الرقائق الإلكترونية الدقيقة، فإذا تم عزلها يومًا عن الإنترنت، فسيعاني العالم بأسره من اضطرابات واسعة النطاق في سلاسل التوريد، وسيتضرر العديد من الصناعات والخدمات بشكل كبير.

ولعل في هذا المثال ما يكشف بجلاء مدى الهشاشة التي تتسم بها شبكات الإنترنت التي أصبحت عصب الحياة في عالم اليوم.