العالم لا يخلو من القصص التي تتناقل عبر الزمن، سواء كقصص شعبية عامة أو تتناقل من خلال الكتاب والمحللين، لا نعرف مدى صحة هذه القصص أو مدى زيفها، من بينهم قصة عن المخرج السويدي «إنجمار بيرجمان» الذي شهد بدايات «أدلوف هتلر» المبشرة، وأيد خطته الطموحة التي حلت مشاكل ألمانيا الاقتصادية وجعلتها دولة تكاد تخلو من البطالة. أحب بيرجمان أفكار هتلر وأعماله من أجل مصلحة الشعب الألماني، بعيدًا عن الخطب الشيوعية والليبرالية الرنانة. ولكن تحول تأييد بيرجمان لهتلر لكابوسه الأكبر، فقد بدأت الحرب العالمية الثانية، وبدأ الفكر النازي في التكشير عن وجهه الحقيقي المدمر.

انتهت الحرب ولكن بقيت آثارها في نفس بيرجمان الذي ظل يشعر بالذنب طوال عمره. أراد أن يخرج شعوره بالذنب والتشتت والحيرة في فيلم دون التحدث بشكل واضح وفج يحول الفيلم لمسألة سياسية، عندها أخرج رائعته «Persona». فكيف عبر هذا الفيلم السريالي عن مأساة بيرجمان؟ هذا ما يجب أن يفكر فيه القارئ بعد انتهائه من هذا المقال.


عن النقد السياسي

بُنيت المجتمعات الحداثية على مجموعة من المآسي والمجازر التي قامت بها الدول الغربية في حق شعوب أخرى. هناك كثير من الأفلام تناولت هذه الجوانب بطريقة مباشرة، ولكن بعض المخرجين لا يريدون تقديم وجبه سياسية من خلال أفلامهم ولكنهم يريدون صنع شيء أشبه بالميثولوجيا، أي أن تعبر قصص بسيطة عن معان واسعة. أو الجملة السياسية الشهيرة التي تقول «قتل الآلاف مجرد إحصائية أما قتل شخص لهي مأساة محققة».

ولذلك يجمع بعض المخرجين المبدعين القصص الواسعة في نطاق ضيق. مثل ما فعله «ستانلي كوبريك» في فيلم «The Shinning» ذلك الفيلم الذي ظنه الجميع في البداية مجرد فيلم رعب. ولكن كوبريك ضمن إشارات في كل عناصر الفيلم لتقول، هذا ليس مجرد فيلم رعب، إنه فيلم عن الجنان الذي أصاب العالم، من خلال المأساة التي حولت بطل الفيلم المحاصر هو وأسرته في فندق واسع خال محاصر بالجليد، من كاتب مبدع لشخص يلاحق أسرته ويحاول قتلهم.

ضمن كوبريك الكثير من الإشارات في عناصر وديكورات الفيلم الصغيرة، مثل السجادة، واللوح المعلقة، وملابس الطفل، ومعلبات الطعام، وتصميم الفندق الهندسي. يتضمن الفيلم الكثير من المعاني التي استدعت الكثير من التأويلات، وقدم فيلمًا وثائقيًا بعنوان «Room 237» يشرح فيه ثلاثة أكاديميين هذه المعاني من وجهة نظرهم. وكيف أن الفيلم يمكن أن يرى على أنه يتحدث عن إبادة الهنود الحمر، أو أنه عن المحرقة النازية. ولكن المؤكد أنه فيلم لنقد المجتمعات الغربية ومجازرها في حق المجتمعات الضعيفة.

اقرأ أيضا: «Room 237»: البحث عن ستانلي كوبريك

تناول الكثير من الأفلام الحرب العالمية، ولكن هناك بعض الأفلام تحدثت عن هذه الحرب دون أن تذكر الكثير عنها، أولها، هو فيلم «The White Ribbon» للمخرج الألماني «مايكل هانيكا» الذي يتحدث عن بلدة تحدث فيها الكثير من حوادث القتل والتعذيب الغامضة، هذه القرية أهلها فقراء ومتعصبون ويمارسون العنف ضد أطفالهم، وعلى جانب آخر يبدو أن أطفالهم فاقدي الاتزان النفسي.

في هذا الفيلم يقدم هانيكا الأسباب الاجتماعية التي لا نتيجة لها سوى الحرب، وهي التمايزات الطبقية بين أهل القرية الفقراء، وبعض ملاك الأراضي الأثرياء. بالإضافة للعنف الذي يمارسه أهل القرية تجاه الأبناء الذين لا يعيشون طفولة جيدة، فهم أبناء العنف والفقر مع ميل للتدين المتعصب من قبل أهالي القرية، وتصديق الخرافات المتعلقة بالجنس، كل هذه الأشياء لا بد أن تؤدي لمجتمع يشعل العنف في كل أرجاء أوروبا.

يكرر هانيكا الأمر نفسه في فيلم «Cache»، والذي يبدو كفيلم إثارة عن رجل يجد شرائط تصور بيته من الخارج، ورسم لصورة طفل يتقيأ الدماء. مع مرور الوقت يشك بطل الفيلم في أخيه بالتبني ذي الأصول الجزائرية، والذي كان يحتقره ويشعر بالغيرة منه في طفولته. يحول المواطن الفرنسي الأبيض شكوكه ليقين، ويهدد أخاه الجزائري ويتسبب في إيذائه نفسياً مرة أخرى كما فعل في طفولتهم.

يتحدث الفيلم من خلال تلك القصة ضيقة النطاق عن الاستعمار وأثره، وعن استمرارية عقلية المحتل في نفس أغلبية مواطني المجتمع الأوروبي الأبيض. يبدو فيلم غموض وإثارة ولكنه فيلم عن الاستعمار ونتائجه السياسية والاجتماعية، وعن ضرورة مواجهة عقلية المستعمر في نفوس المواطنين الأوربيين وليس من خلال الشعارات العامة فقط، لأنها تظهر على حقيقتها مع أول هزة بسيطة.


وللأفلام التجارية نصيب

لا يتوقف الأمر عند أفلام لمخرجين كبار ككوبريك وهانيكا، بل تمتد المعاني غير المباشرة في بعض الأفلام التجارية الشهيرة، مثل سلسلة أفلام الأبطال الخارقين الشهيرة «X-Men» والتي تظهر في أحد جوانبها كفاح الأقليات والمختلفين من أجل نيل حقوقهم. يرى عامة الشعب والكتل السياسية أن الرجال الخارقين ومنهم X-Men ما هم إلا أعداء يجب محاربتهم. تدخر الحكومة الكثير من الأموال والأبحاث لمحاربتهم، لماذا؟ لأنهم مختلفون، ودائماً المختلف يبدو خطراً. في حين أن أغلبهم ليس إلا بشر أسوياء طبيعيين على الأغلب، يريدون عيش حياة عادية جداً. ويستغلون قدراتهم الخارقة لحماية الآخرين وليس محاربتهم. سلسلة X-Men تتحدث عن معاناة الأقليات وعن أهمية البحث عن حقوقهم المشروعة.

يتكرر نفس الأمر مع سلسلة الأفلام الفنتازية «The Lord Of The Ring» والتي كتبها «جون أر تولكين» بعد أحداث الحرب العالمية الثانية. الثلاثية تبدو وكأنها محاولة لصناعة ميثلوجيا عن الصراعات المعاصرة وخصوصاً الحرب العالمية الثانية، التي أثرت على أفكار تولكين بشدة، حيث هناك الخير المطلق والذي هو بكل تأكيد الأمل الوحيد لبقاء البشرية ومُثل في تحالف الإنس مع الجن والأقزام (الذين يمثلون اليد العاملة الماهرة التى ظلت تنهار وتضعف نتيجة سيطرة الآلة الضخمة)، وهناك الشر المطلق الذي سيدمر كل شيء.

وتمتلئ الثلاثية بكثير من الرموز التي تدل على شرور المجتمعات المعاصرة، مثل تجريف الأشجار لصناعة آلات الحرب، وتحويل الأراضي الخضراء لأرض معارك وحروب وأبخرة ملوثة وظلام شديد. بالإضافة لصناعة «الأورك» وهم جنود الحروب الذين لا يعرفون شيئاً سوى القتل. بالإضافة للعين العليا التى تنظر للجميع وتوجهم وهى تمثل السلطة التي تحرك الحروب والشرور. ورمزية «سيمجول/جولم» ذلك الشخص الذي كان بعيد عن كل الصراعات، ولكن لعنة الحرب أصابته. إنه مثال لجميع المظلومين الذين يبهرهم الشر (الخاتم) يحملونه ولكنهم لا يستفيدون منه. يتعفنون من داخلهم وخارجهم، ويظلون في صراع داخلي أبدى عن كونهم أخياراً أم أشراراً.

هذه بعض الأمثلة الشهيرة سواء في أفلام أوروبية أو أمريكية، تجارية أو متوسطة الشهرة، مع اختلاف درجة تعقيد رمزيات كل فيلم عن الآخر، وعلى نفس النمط الذي اتبعه المقال، فكيف نفسر Persona ونخرج المعاني السياسية المتضمنة فيه؟