تأسَّس حزب الله سنة 1985 من رحم الحرب الأهلية اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي الذي كانت مقاومته هدفًا رئيسًا للحزب، وفي الأوساط الشعبية كان ينظر لحزب الله على أنه المقاومة العربية الوحيدة ضد إسرائيل.

وبسبب قوته العسكرية والتنظيمية وتأثيره السياسي والطائفي الواسع في الشرق الأوسط ولبنان/سوريا/إيران بشكل خاص، يأتي كتاب الاقتصاد السياسي لحزب الله، للأكاديمي السوري الأصل جوزيف طاهر، والصادر عن دار صفصافة للنشر ليحاول فهم ذلك التنظيم بشكل مختلف عن منطلقات العقيدة والدين؛ وإنما بأدوات العلوم الاجتماعية التي تدرس حزب الله كمكوِّن سياسي فعّال في تشكُّل البنية الحالية السياسية والاقتصادية للدولة اللبنانية وكيف يؤثِّر وجوده واقتصاده طائفيًا وطبقيًا في تشكيل المعادلة السياسية اللبنانية.

الوضع الاقتصادي قبيل الحرب الأهلية

استمرت سيطرة الطبقات البرجوازية على الاقتصاد اللبناني الذي كان منحصرًا في القطاع الخدمي والمصرفي دون أي تأثير لقطاع صناعي أو زراعي متراجع بسبب الهجرة المتزايدة جدًا من الريف للحضر؛ ترجع أسباب الهجرة، التي أعادت تشكيل الطبيعة السياسية للمدن باعتبار أن الهجرة كانت شيعية أكثر منها أي طائفة أخرى، فقد كانوا يمثلون 10% من سكان المدن، وكانوا أقل من 4% من إجمالي الوظائف الرسمية على الرغم من أنهم كانوا بحلول عام 1955 يمثلون 18% من إجمالي سكان لبنان.

كان المجتمع اللبناني متفاوتًا بشكل كبير بين طبقاته وفئاته؛ فقد سيطر قطاع لا يتخطى 3% من مجموع السكان على 33% من الدخل القومي اللبناني، وانحصرت الوظائف في قطاعات مسيحية مارونية ومسلمة سنّية حتى استطاع مع الوقت بسبب الميثاق الوطني تعديل نسب الموظفين السنة وارتفاع مستوى معيشتهم وبعد تولي فؤاد شهاب رئاسة لبنان عام (1958) ازدادت أعداد الشيعة بالفرض في قطاعات الدولة المدنية والعسكرية لموازنة التفاوت الطبقي والطائفي ودمجهم ضمن التركيبة الوطنية اللبنانية حتى وصلوا في أوائل السبيعنيات إلى 22% من موظفي الدولة.

تأثّرت القوى الشيعية أيضًا بالدعم الدولي من الشيعة المهاجرين للخارج وبدعم الدولة الإيرانية وازدياد نسبة التعليم حيث ارتفع عدد الطلاب في التعليم الابتدائي من 62 ألف طالب نهاية الخمسينيات إلى 225 ألف طالب بداية السبعينيات؛ مما سمح بظهور جناح شيعي شاب متجاوز للزعماء القدامى يسعى لزيادة النفوذ الاقتصادي والسياسي الشيعي؛ وظهور أفواج المقاومة اللبنانية/حركة المحرومين، التي سميت في ما بعد (حركة أمل)، أسسها موسى الصدر القادم من إيران محملًا بالمال السياسي لدعم الوجود الشيعي وزيادة نفوذه مقاومًا للتمثيل غير المتكافئ للشيعة وعدم دعم الدولة لهم، وانتهت بظهور حزب الله.

تأسس حزب الله رسميًا عام 1985 معلنًا عن نفسه كحزب سياسي إسلامي، أدى لظهوره عدة عوامل منها: الحرب الأهلية في لبنان، ظهور قيادات شابة ممولة ماديًا تعمل على تحسين وضع الشيعة وترجيح كفّة رجال الدين مرة أخرى، الاجتياح الإسرائيلي و

الذي كان السبب الأهم في ازدياد قوة وشعبية حزب الله الذي قام على مبادئ منها: الإسلام هو المنهج الشامل الصالح للحياة، مقاومة الاحتلال الإسرائيلي واجب في الحاضر والمستقبل، الاعتراف بنظام ولاية الفقيه واعتباره خليفة للنبي.

توسّع الحزب بسبب الإمكانيات المادية التي كانت متاحة له فقد كان مقاتل حزب الله يتقاضى 300 دولار شهريًا مقارنة بأقل من 150 دولارًا في الميليشيات الأخرى، أثّر ذلك في الأحياء الفقيرة التي غابت عنها قوة الدولة وزاد فيها القبول الشعبي للحزب مما سمح بسيطرته على مناطق من جنوب لبنان وتقديم نفسه سياسيًا وشيعيًا على أنه المنقذ والحل الأمثل البديل. 

هل التزم حزب الله بوعوده السياسية والاجتماعية؟

بعد اتفاقية الطائف التي سعت لحل الأزمة السياسية اللبنانية؛ زاد الوضع طائفية: فقد رسّخت الاتفاقية المحاصصة؛ بزيادة أعداد المسلمين (لا يُشترط انتماؤهم العقدي) في البرلمان، وزيادة مدة رئيس البرلمان الشيعي، وتوسيع صلاحيات رئيس الوزراء السني وإضعاف صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني، ثم بدأت سياسات الإصلاح النيولبرالية بوجود رفيق الحريري، الذي لاقى دعمًا ماليًا ضخمًا من السعودية مقابلًا للدعم الذي تلقاه حزب الله من إيران، بدأت سياسات الإصلاح بمحاولة إعادة الإعمار للبلاد بعد الحرب الأهلية التي تعرضت ميزانيته لمحاصصة أيضًا وتفاوضات ومساومات على المناطق العاجلة لإعادة الإعمار؛ فقد تم رصد 18 مليار دولار لإعادة الإعمار ولكن تركز صرف 80% من قيمة المشروع في بيروت فقط وجبل لبنان وتم إهمال باقي المناطق.

 وبدأت الحكومات المتعاقبة في أخذ إجراءات إصلاح اقتصادي فاشلة حتى لجأت للبنك الدولي وصندوق النقد فقد ارتفعت الأسعار بنسبة 120% ما بين عامي 1996 و2011، مما عمّق الأزمة بسبب توقف زيادات الأجور الحكومية؛ وكما هو معتاد في الشرق الأوسط والدول التي يخضع اقتصادها لصندوق النقد اتجهت الحكومة للخصخصة بشكل متوسِّع لتعويض عجز الميزانية حيث وصل الدين العام إلى 173% من الناتج المحلي؛ فبدأت ببيع قطاعات الطاقة والكهرباء والطيران، وطبّقت ضريبة القيمة المضافة بقيمة 10% على السلع والخدمات، وأوقفت زيادة المرتبات وعجزت عن مواجهة التضخم المهول الذي حدث في أسعار السلع والانخفاض لقيمة العملة حتى يومنا هذا.

ترتب على ذلك ارتفاع معدلات البطالة وبلغت حوالي 30% وتسريح العمالة وعدم وجود سياسات اجتماعية تحمي ظهر المواطنين فقد كان 28% من إجمالي السكان تحت خط الفقر عام 2008؛ ودخلت البلاد في دوامة اقتصادية صعبة من القروض المتتابعة  لم تخرج منها للأسف حتى اللحظة.

أما حزب الله؛ فبرغم انتقاده الواضح في بيانه التأسيسي عام 1985 للطائفية والمحاصصة السياسية واعتباره أن ذلك النظام لا يزيد المستضعفين إلا ضعفًا؛ فإنه مع الوقت – خصوصًا بعد اتفاق الطائف – عمل على اندماجه السياسي داخل مؤسسات الدولة واتباع قواعد اللعبة من تصنيف ومحاصصة فقد كان يحصل على متوسط 12 مقعدًا في انتخابات النواب؛ مبررًا موقفه بأهمية إعادة الإعمار وتطبيق السلم الاجتماعي، على الرغم من أن قواعده احتفظت بسلاحها باعتباره حركة مقاومة شعبية مع نزع سلاح باقي الميليشيات.

ترجع تلك السياسة المختلفة والهادئة في خطابات حزب الله إلى خفوت الجناح الثوري في القيادة الإيرانية بعد وفاة الخميني وتولي خامنئي الذي قضى على أجنحة ثورية مهمة في النظام الإيراني؛ فتحولت السياسة الشيعية بشكل عام في الشرق الأوسط إلى تهدئة ومحاولة السيطرة على الدول الواقعة ضمن مثلث السيطرة الأهم (إيران-سوريا-لبنان).

مصالح التمويل السياسي هي الأهم

أخلف حزب الله وعوده التي كانت تستهدف «المستضعفين» واندمج في عمليات الإصلاح الاقتصادي التي تعطي ظهرها للفئات الأفقر وتمنح العائلات الأغنى فرصًا لتراكم ثرواتها؛ ولا توفر دعمًا بأي شكل للفئات الفقيرة في أماكن سيطرته الأصلية من الأساس، على سبيل المثال كان وزير الطاقة والمياه محمد فنيش (2005-2006) التابع لحزب الله مسؤولًا عن بيع شركة الكهرباء للقطاع الخاص بحجّة أن الدولة تاجر فاشل؛ وكأن المطلوب من الدولة أن تتربّح من مواطنيها بسلعة أساسية وحيوية مثل الكهرباء.

ودعم عبد الحليم فضل الله عضو الحزب في الانتخابات النيابية 2018 خصخصة قطاع الاتصالات؛ ونادى بضرورة أن يكون السوق اللبناني سوقًا حرًا لا يفقر الفقير لصالح الغني دون تحديد الكيفية التي يمكن أن يحدث بها ذلك ولا كيفية دعم وحماية الدولة للمواطن الأقل فقرًا في ظل خصخصة الخدمات الأساسية دون وضع حد أدنى أو آلية تحمي «المستضعفين»؛ حتى إن الحزب تغاضى عن خصخصة شركة طيران الشرق الأوسط التي قامت بتسريح العديد من العمالة الشيعية دون موقف سياسي يحمي أتباعه وقاعدته الأساسية بحجّة قالها طاهر ياسين، ممثل حزب الله، في مفاوضات تسريح العمال: إن الخصخصة ليست بالضرورة ضد مصالح العمال، فلا يجب أن نحمي العمال وتموت الشركة. 

يتضح مما سبق أن حزب الله لم يستطع مواجهة سياسات الخصخصة والإفقار للطبقات الأدنى عامة والشيعية خاصة؛ ويرجع ذلك لصعوبة وقوف الحزب ضد مصالح أهم مموليه من رجال الأعمال والبرجوازيين الشيعيين الذين يمثلون عامل التمويل الأكبر للحزب وميليشياته في الداخل اللبناني أو الذي يأتي عن طريق لجنة وحدة العلاقات الخارجية التي تعمل على توطيد علاقة الحزب برجال الأعمال الذين تتوافق مصالحهم مع السوق الحر اللبناني ويستفيدون منه، حتى إن الحزب نفسه أصبح متورطًا في السوق اللبناني بامتلاك أعضائه لشركات موجودة في السوق اللبناني.

حزب الله والمجتمع المدني الشيعي

تمكّن حزب الله عبر تاريخه من السيطرة شبه الكاملة على المجتمع المدني الشيعي في لبنان؛ فقد اتبع عدة استراتيجيات مكّنته من تمرير أفكاره وحمايتها أيضًا بواسطة مجموعة كبيرة من المنظمات التابعة؛ فهي أساس بناء العلاقة بينه وبين جمهوره، تعمل جمعيات الحزب بشكل متناسق ومترابط لبسط فكرته؛ وهي الأسلمة الكاملة لقطاعات الحياة على المنهج الشيعي الذي يعتبر الخامنئي مرجعية له.

يستخدم الحزب في ذلك عدة أقسام يتكوّن منها داخليًا: مجلس شورى القرار الذي يتضمن الأمين العام حسن نصر الله ونائبه ومجموعة منتخبة من قيادات الحزب يشرف كل منهم على لجنة من لجان الحزب/أسلحة الحزب المدنية:
1- المجلس التنفيذي: المسؤول عن تحديد العمل الجماهيري للحزب وسياسته.
2- المجلس السياسي: المسؤول عن التواصل السياسي مع الأطراف اللبنانية الأخرى والتنسيق معها إن تطلب الأمر.
3- المجلس الجهادي: المسؤول عن المقاومة العسكرية والجهاد وأجهزة الأمن التابعة لحزب.
4- المجلس القضائي: المسؤول عن البت في القضايا الشرعية.
5- مجلس العمل النيابي: الذي يضم النواب التابعين للحزب ويخطط تحركاتهم الجماعية.

تسهل هذه المؤسسات على الحزب عمله وانتشاره وتطبيق نظريته –التي تعتبر نظرية إسلاموية سياسية معروفة- فالقرار لمن هم في الأعلى والسمع لمن هم أدنى في الدرجة؛ والهرمية والتنظيم الشديد أهم عوامل النجاح والسيطرة خاصة في حالات الأحزاب والجماعات الإسلاموية؛ الإخوان المسلمون في مصر كمثال.

دولة داخل الدولة

يقدّم الحزب أشكالًا متنوعة من الدعم الاجتماعي والخيري للشيعة بشكل حصري داخل لبنان ليضمن به ولاءهم له وإحكام سيطرته على مناطق نفوذه وتأثيره؛ فقدّم الحزب دعمًا ماليًا ولوجستيًا للمتضررين من حرب عام 2006 وساعدهم على إعادة إعمار مناطقهم بعدما عرضت الدولة اللبنانية مبالغ بسيطة للتعويض بلغ عدد المستفيدين 80 ألف شخص، فقد أنشأ الحزب أكثر من 78 مبنى جديدًا وأعاد تأهيل أكثر من 10 آلاف مبنى ما بين منازل ومدارس ومستشفيات، ووزّع أكثر من 8 ملايين برميل مياه على خزانات الضاحية الجنوبية بعد غياب الدولة وعجزها عن تلبية احتياجات المواطنين، وقدّم الحزب عبر مؤسسة جهاد البناء ملايين الدولارات بواقع 12 ألف دولار للأسرة المتضررة بغرض إعادة التأهيل والبناء والتعويض، واستغل الحزب الموقف وأعلن بوضوح أنه دولة داخل الدولة.

اهتم الحزب بإنشاء جمعيات خيرية في مناطق تمركز الشيعة الأفقر؛ وقّدم الحزب من خلال مؤسسة القرض الحسن دعمًا ماليًا تم تقديره بحوالي 3 مليارات دولار بين عامي 1983 و2019 وذلك بأكثر من مليون ونصف المليون قرض؛ فاعتبرت تلك المؤسسة أكبر مؤسسة تمويل متناهي الصغر في لبنان فقد قدّمت ما يزيد على 200 ألف قرض عام 2019 فقط بما يعادل 5 ملايين دولار، وتضم المؤسسة 30 فرعًا جميعها في مناطق تتخطى فيها نسبة الشيعة 98% مما يوضح الهدف المباشر لها.

أطلق الحزب أيضًا بطاقات خصومات للفئات الأفقر يستفيدون بها من خصومات في أماكن البيع الخاصة بالحزب، ولأعضاء الحزب بطاقة تسمى بطاقة النور يدفع عضو الحزب فيها 13 دولارًا شهريًا وتوفر له دعمًا ماديًا وخصومات مميزة باعتباره عضوًا بالحزب.

بالطبع كانت المساجد الملعب الأهم لحزب إسلامي ليستغلها ويعمل على نشر أفكاره وتقوية عقيدة المنتمين إليه؛ فقد بدأ الحزب من الأساس على أكتاف رجال دين شيعة متّبعين قائد الثورة الإيرانية؛ فكان لا بد من توطيد فكرة ولاية الفقيه وقطع الطريق على أي أفكار دينية مختلفة قد تزعزع وحدة الحزب/الأمة.

إعلام الحزب

لا يمكنك السيطرة والانتشار دون أن يكون لديك منابر إعلامية تعمل على نشر أفكارك وتكمِّل الدائرة التي تتيح لك السيطرة/الشمولية على عقول متّبعيك، فقد امتلك الحزب قناة «المنار» التلفزيونية التي كانت في وقت ما ثاني أكثر قناة عربية تتم متابعتها بعد «الجزيرة» القطرية، ومواقع وجرائد عديدة، وأيضًا قناة راديو تسمى «النور»، تكمل تلك الثلاثية وجود الحزب في كل مكان وكما قال جرامشي: العمل على تكرار الأفكار يتيح السيطرة على العقلية الشعبية.

تعمل مؤسسات التربية في الحزب على تأسيس عقلية جديدة للشباب تمكّن لهم توفير ثروة بشرية تعمل على خدمة مصالح الحزب؛ فقام الحزب بإنشاء مدارس خاصة تابعة لهم تدرِّس كتبًا وضعتها مراجع الحزب الدينية لتعمل على تعبئة الأجيال القادمة بأفكاره.

لا تتعدى أهمية النساء في الفكر الإسلاموي/الشيعي المتّبع دورها كأم، أخت، زوجة، وبنت فقط لا غير، لا يجوز لها نظريًا حقوقًا عديدة من التي تطالب بها الحركات النسوية العالمية واللبنانية، فأقصى فكرة هي أن تتطوع في الحزب لتعمل على متابعة سير النظام الإسلامي الشيعي في منازل الأسر التابعة للحزب وهو جزء مهم من عملية المراقبة الشديدة لقواعد الحزب، وإن كان أغلب القادة الدينيين لا يرون دورًا للمرأة إلا أن يكنَّ «زينبيات» لأزواجهن «الحسينيين» يقمن بأعمالهن المنزلية وتربية الأبناء وضمان نشأتهم على العقيدة الصحيحة.

تعمل تلك المؤسسات على توفير  قاعدة شعبية أصيلة للحزب تتم تحت نشأتها تحت أعينه وبإشرافه المباشر مما يسهِّل عليه فرض أفكاره، فوضع معيارين يتم على أساسهم تقييم الجميع: القبول داخل الحزب وأفكاره المرجعية، الرفض والنبذ خارج المجتمع الشيعي بخاصة إن كنت شيعيًا، مما يوضّح قوة الحزب الحركية والنظامية التي يمكن اعتبارها أقوى وأعمق من قوة الدولة اللبنانية بكل أجهزتها ومسؤوليها.

حزب الله والحركة العمّالية في لبنان

كان للنقابات العمّالية والمهنية دور مهم في الحرب الأهلية اللبنانية؛ فقد نظّمت المظاهرات المناهضة للحرب والانقسام الطائفي، وأيضًا مقاومة للاحتلال الإسرائيلي وسلطة الميليشيات المسلحة التي تمنع إحلال السلم العام، وأيضًا ارتفاع معدلات التضخم بنسبة 400% عام 1987؛ وبناءً عليه كان من الضروري على السياسيين المؤيدين والمستفيدين من النظام الطائفي مناهضة تلك النقابات والاتّحادات العمّالية وتقويض سلطتها، تمثّل هؤلاء في: حكومة الحريري، وحزب الله، وحركة أمل، والموالين لحزب البعث والقيادة السورية، فقد قامت تلك القوى بإنشاء نقابات واتّحادات موازية على أسس طائفية وموالية لسياسة الإصلاح الاقتصادي النيوليبرالية وبالتالي تُضعف من سلطة النقابات الأساسية وتخفف من الأزمة التي قد تسببها القيادات العمّالية ضد سياسات الإصلاح.

شكَّل حزب الله نقابات تخدم مصالحه وعلى أساس طائفته التي يحمي مصالحها السياسية؛ فظهر اتّحاد الوفاء عام 1988 جاذبًا قطاعًا كبيرًا من عمّال الزراعة والبناء والمستشفيات الشيعة فقط، ولم يكن لذلك الاتّحاد أي دور نضالي يُذكر؛ لا مطالبات بزيادة الرواتب أو إيقاف عمليات التقشُّف الاقتصادي والقرارات المجحفة بحق الفقراء والعمّال، فلم يهتم الحزب إلا بالنضال المسلح ضد خصومه وخدمة مصالحه، أما عن تشكيله لذلك الاتّحاد فكان لصعوبة سيطرته على النقابات في البقاع وجنوب لبنان وعدم اتّباعها لسياسات الحزب، مما يطرح سؤالًا معتادًا: كيف يدّعي الحزب خدمة مصالح المستضعفين وهو يمارس تلك السياسة؟

أدّت تلك الضربات الموجهة للتحرُّكات العمّالية إلى إضعاف مقاومة الاتّحادات العمّالية وتغيّر تركيبتها وخطابها ولا نبالغ بقول اندثارها تمامًا وتقسيمها لطوائف تدعم مواقف أحزابها السياسية دون أي اعتبار لأساس تأسيسها؛ فقد فشلت محاولات عدة لرفع الحد الأدنى للأجور في البرلمان وفشلت مقاومة العمّال لخصخصة الشركات العامة مثل شركة الكهرباء والطاقة التي كان على رأس وزارة الطاقة يومها محمد فنيش عضو حزب الله الذي دعّم عملية الخصخصة مع توفير عقود عمل مؤقتة لحين تثبيتهم بعد انتهاء مدة العقود، ولم يشارك الاتّحاد العمالي العام في الإضراب إلا قرابة اليوم رقم مائة بالضغط على العمال بقبول العقود المؤقتة.

ومع انتفاضة المعلمين في 2013 بقيادة هيئة التنسيق النقابية المستقلة، ومطالبتهم بزيادة الأجور طبقًا لقرار وزير التربية والتعليم، شارك في الإضراب عشرات الآلاف من المعلمين عدا معلمي المدارس التابعة لحزب الله وحركة أمل والمدارس الكاثوليكية، كذلك كان الأمر في إضراب موظفي المصارف 2013 وأساتذة الجامعات 2019.

أثبت ذلك للجميع أن التحرك من جهات مستقلة فقط ولن ينال دعم أي حزب سياسي مشارك في الحكومة سواء حزب الله أو غيره، فإما أن يستمر الوضع أو أن نحمّل الشعب النفقات الناتجة عن زيادة المرتبات وكان الخيار عادة القطيعة مع الاحتجاجات ورفضها.

جهاز حزب الله العسكري

يقسّم الحزب كما وضحنا الاختصاصات التي تهتم بها لجانه الخاصة؛ فيدير المجلس الجهادي العسكري لحزب الله الأمور المتعلقة باستخدام السلاح؛ سواء ضد إسرائيل كهدف معلن أو ضد خصومه السياسيين والطائفيين بحسب ما هو معروف ضمنيًا، ويهتم المجلس بتجنيد وتدريب الجنود وتحديد الأهداف العسكرية المطلوبة.

يتدرب جنود الحزب تدريبات عسكرية بشكل مكثّف، منهم المحترفون ومنهم جنود الاحتياط، يصعب حصر عددهم ولكن تشير التقديرات إلى 45 ألف جندي منهم 20 ألفًا على الأقل متفرِّغ لمهمته العسكرية والتدريبية التي يتلقاها المجندون باستمرار في إيران أو سوريا أو البقاع تحت إشراف الحرس الثوري متمثلًا في فيلق القدس.

تحت المجلس الجهادي أيضًا تعمل وحدة الجهاز الأمني؛ المختصة بسلامة وتأمين أعضاء الحزب ومناطقه التي يسيطر عليها ومعرفة الداخل والخارج ومراقبته والتحري عنه، وهو واحد من أقوى أجهزة الأمن في المنطقة، الذي أثبت قوته في حماية أعضاء الحزب في حروبه ضد إسرائيل حيث فشلت دولة الاحتلال في اغتيال أي من قيادات الحزب طوال مدة الحرب 33 يومًا، وإفشال محاولتي اختطاف القيادي بالحزب الشيخ محمد يزبك (2006).

وبالتعاون مع الحرس الثوري الإيراني، اكتشف الجهاز عميلًا للموساد الإسرائيلي كان يعمل بوحدة (910) المعروفة بتنسيق وترتيب أعمال الحزب العسكرية الخارجية مما أفشل عمليات الثأر لمقتل القياديين بالحزب عماد مغنية (2008) قائد جهاز الأمن الخارجي للحزب، وحسن اللقيس (2013) الذي كان يعتبر قائد فرقة الدفاع الجوي للحزب، أيضًا يعتبر الجهاز هو أداة القمع الداخلية للحزب ضد منافسيه ومعارضيه؛ الشيعة منهم خصوصًا، يعتبر أقوى من أجهزة أمن الدولة اللبنانية في مناطق سيطرة الحزب.

أما جهاز الأمن الخارجي فهو المسؤول عن عمليات الحزب خارج لبنان، تولى قيادته عماد مغنية حتى اغتياله ثم تولاه صهره مصطفى بدر الدين الذي تم اتهامه باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري (2005)، اغتيل بدر الدين عام (2016) بسوريا أيضًا أثناء قتاله بجوار قوات الأسد، وتقدّم وحدة جهاز الأمن الخارجي الدعم المسلح والتدريبي والمالي للقوات الفلسطينية المتعاونة معها مثل الجهاد الإسلامي وحركة حماس بتهريب الأسلحة عبر البحر أو الأنفاق بين مصر وغزة، ونقل تقنيات صنع القنابل والذخائر للحركات الإسلامية الفلسطينية.

حتى إن جهاز الأمن الخارجي دبّر لعمليات في دول محيطة؛ فقد ألقت القوات المصرية القبض على خلية تابعة للحودة (1800) بالحزب وعلى رأسها: محمد يوسف أحمد منصور، التي كانت تخطط لعملية مسلحة ضد سيّاح إسرائيليين وأجانب في مصر، وقد اعترف الحزب علنًا على لسان أمينه العام حسن نصر الله بأن منصور كان عضوًا بالحزب وأنه شارك في عمليات تهريب للأسلحة لصالح المقاومة الفلسطينية؛ الذي تم تهريبه في أحداث الانفلات الأمني وفتح السجون في يناير (2011) بعد الحكم عليه بالسجن خمسة عشر عامًا، وظهر بعدها في لبنان في تجمعات لحزب الله في بيروت.

عزّزت تلك العمليات من مكانة الحزب الجهادية باعتباره آخر الدروع غير الفلسطينية ضد إسرائيل؛ فاستغل الحزب تلك الفكرة في الحفاظ على سلاحه وتقوية شوكته باعتباره حركة مقاومة إسلامية في الأساس قبل أن يكون حزبًا سياسيًا لبنانيًا؛ حتى إن الأمين العام للحزب هدد صراحة بقطع يد كل من سيحاول اعتقال أي من عناصره –باعتباره مقاومة إسلامية- وسيسعى الحزب للقصاص من كل المحاولين تهديده بسحب السلاح من قوات الحزب.

حزب الله وثورات الربيع العربي

يعتبر حزب الله أن العالم قائم على صراع قوى الخير المسلمة ضد قوى الشر الغربية؛ فهم أساس انحدار وكوارث المسلمين عامة؛ يفسِّر ذلك حربه مع إسرائيل وعداؤه لأمريكا وأيضًا خضوعه التام للسياسة الإيرانية ودعمه للقيادة السورية واعتباره فلسطين أولوية حتى على تحرير الشعوب العربية من الحكّام المستبدين، ورغم ذلك؛ رحّب الحزب في البداية بثورات الربيع العربي واعتبرها خطوة على مشروع المقاومة، فقد أكّد نصر الله في فبراير (2011) أن تلك الثورات انتفاضات شعبية نقية ولا يمكن أن تكون مدعومة غربيًا أو أمريكيًا لأنها قامت على أنظمة مدعومة من الغرب.

تغيّر موقف الحزب تمامًا بعد قيام الثورة السورية ضد بشّار الأسد، ومع سيطرة جماعة الإخوان المسلمين في مصر وتصاعد نجم حركة النهضة التونسية اعتبرها الحزب مؤامرات خارجية تقيّد مشروع المقاومة؛ فقد اعتبر الحزب أن النظام السوري مدافعًا رئيسًا ضد دولة الاحتلال الإسرائيلية وهو المبدأ الأول الذي يقيّم الحزب على أساسه دعم الأنظمة المجاورة، وثانيًا مدى استعداد النظام للإصلاح، الذي نادت به القيادة السورية ورفضته المقاومة.

ونلاحظ هنا أن موقف الحزب براجماتيًا بحتًا ولا يعتمد على أي أسس أو عوامل سوى مصلحته وما يتفق مع رؤية القيادة الإيرانية؛ مما عمّق الفجوة بينه وبين الأنظمة السنّية بخاصة المملكة السعودية التي دعّمت قوات المعارضة السورية، واتّسعت الفجوة بين الحزب ومن خلفه إيران مع المملكة السعودية أكثر بعد أحداث اليمن ودعم الحزب لحركة الحوثيين ضد الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح المدعوم سعوديًا الذي اغتيل (2017) على يد قوات الحوثي.

الحال أيضًا كان مع الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي الذي أعلن في مؤتمر شعبي دعمه للثورة السورية على نظام الأسد الطائفي؛ والذي أعلن الحزب عن ترحيبه بالإطاحة به (2013) ودعمه لحركة الجيش بالاستيلاء على السلطة وقمع واعتقال أغلب قيادات الحركات السياسية الإسلامية المصرية باعتباره مؤيدًا للنظام السوري واستقرار الدولة؛ حتى إن الحزب لم يعلّق على اعتبار النظام المصري لحركة حماس أنها جماعة إرهابية (2015) مما يوضّح اتجاهات الحزب الحقيقية بعيدًا عن الشعارات.

كان الحزب دورًا بارزًا في دعم كل ما يمكن أن ينقذ النظام الطائفي السوري؛ فقد أرسل المجندين للحرب في سورية بجوار قوات الأسد، وعمل على حماية الحدود اللبنانية السورية ضد تهريب الأسلحة لقوات المعارضة؛ حتى إنه دعّم التدخُّل الروسي في سوريا وقاتلوا جميعًا جنبًا إلى جنب ضد قوات المعارضة.

وقد كان للتدخُّل الروسي أثر كبير على الحزب إيجابيًا وسلبيًا؛ أما الإيجابي فقد سنحت الفرصة لقوات الحزب العسكرية أن تتعلَّم من الجيش الروسي تكتيكات وترتيبات مختلفة زادت من قوته وتدريبه ووعيه الحربي ضد خصومه وإدخال أساليب استخباراتية وعسكرية جديدة على قوات الحزب.

أما الجانب السلبي، فقد سببت الحرب السورية قلقًا في الداخل اللبناني بسبب قتال الحزب لمسلمين حتى لو كانوا سنّة بل والقتال بجانب قوات أجنبية ضدهم؛ مما زاد من الحدّة الطائفية واتهام الحزب بأنه ليس إلا تابعًا للقيادة الإيرانية وأن حربه ضد إسرائيل ما هي إلا شعارات كاذبة، حتى إن علاقات الحزب بحركة حماس توترت بشكل كبير ودخلت الحركة في حيرة بسبب مواقف الحزب في سورية وعلى الجانب الآخر وقوف مجلس التعاون الخليجي ضد الحزب وإيران وقطعه العلاقات مع إيران وتابعيها ودعم المعارضة السورية ماديًا ولوجستيًا.

نهاية؛ يتضح مما سبق كيف أن الحزب قوة فاعلة في الحياة السياسية اللبنانية وبعض الدول المجاروة، وأنّه حزب سياسي أيضًا يتّبع سياسة براجماتية وليست عقدية؛ فقد قدّم نفسه كأبرز حركة شيعية تعمل لأجل المستضعفين على الرغم من أن مواقفه المتكررة كانت تقول غير ذلك بدعمه للنظام الرأسمالي اللبناني والانخراط فيه وسيطرته عليه في مناطق نفوذه، كما أنه قدّم نفسه كحزب إسلامي يدعو لإقامة دولة إسلامية ثم اندمج مع نظام المحاصصة السياسي القائم على أسس طائفية تنفي إسلاموية الحزب.

أضعف الحزب كل محاولات النضال السياسي ضد النظام السياسي القائم على أسس طائفية أثبت الزمن فشلها في حل أي أزمة؛ بل العكس إن الدولة اللبنانية دخلت مأزقًا سياسيًا واقتصاديًا لا يتوقع الخبراء الخروج منه في الزمن القريب. على الرغم من أنه ما زال يتمتع بشعبية كبيرة داخل دوائر نفوذه بل ويسعى لاكتساب دعم أكبر متوقّع؛ طالما لم يظهر بديل سياسي قوي لا يخضع للمحاصصة الطائفية ويعمل ضدّها ويملك برنامجًا اقتصاديًا يوقف الزحف النيوليبرالي الذي وضع الاقتصاد اللبناني في خطر حتى إن نسبة الفقر تخطّت (75%) مما يوضّح مدى الأزمة وتفاقمها التي خلّفها النظام السياسي اللبناني وحزب الله باعتباره من أقوى الفاعلين فيه.