كلما رأيتها.. تتسع.
غاندي، في وصف الهند

بوشكار، إحدى أصغر المدن الهندية، وأقدمها، وأكثرها قداسة. اسمها يعني «زهرة اللوتس الزرقاء»، في اللغة السنسكريتية القديمة [1] ولهذا الاسم حكاية؛ الإله «برهاما»، وهو الإله الخالق في الديانة الهندوسية، خلق الكون بأسره وباقي الكائنات والآلهة، ثم خص الإله «فيشنو» بمهمة الحفظ، والإله شيفا بمهمة التدمير. ثم خاض معركة طاحنة ضد الشياطين، واستخدم زهرة اللوتس لدحرهم، فسقطت ثلاث بتلات على الأرض، إحداهن ربضت بقلب صحراء راجستان [2] الشاسعة، فكانت بوشكار.

20160809_134454
20160809_134454

في مطعم صغير قرب معبد برهاما، المعروف بأنه المعبد الوحيد له في العالم، تناولت إفطارا هنديا شعبيا: «آلو بارنثا» وهي فطيرة معجونة من الدقيق والبطاطس المهروسة والبصل. وتقدم، مثل أي طبق هندي آخر، مع صلصة شديدة الحرارة. ثم انطلقنا للسوق الكبير. وهو يزحف من البحيرة في شبكات متقاطعة من طرق غير ممهدة، تمتد حتى الجبال التي تحد مدينة الآلهة الصغيرة.

تقاربت في الشوارع أبواب المحال الصغيرة، البضاعة معلقة أمامك والبائع يكاد يخطفك؛ منتجات جلدية من شنط وأحذية وأحزمة ومحافظ، وتشكيلة هائلة من الملابس والمفارش والأشولة والأوشحة المنسوجة يدويا، عطور وبهارات وفضيات، ومطاعم صغيرة تفوح منها روائح أكل الشارع الحريفة. باختصار، كانت المدينة عبارة عن بازار مفتوح.

ولعل أكثر ما يطرب القلب، ويرشقه بالحنين عند ذكر «راجستان» عموما، ذلك الدفء الصافي في وجوه الناس، والبهجة الطاغية التي يستقبلك بها الباعة، فلا تنصرف من محل قبل أن تشرب شايا هنديا حارا، وهو شاي بالحليب تضاف إليه بهارات كالفلفل الأسود والكمون والقرفة والشطة. وهم، في كل لحظة، يلعنون سكان «دلهي» المتعجلين في كل شيء. راجستان أجمل ولايات الهند، وأكثرها بهاءاً، وألواناً، وفقراً!


بمجرد أن دخلت معبد برهاما، اتجه نحوي شاب هندي في ثياب عادية، حسبته دليلا سياحيا، قال إنه خادم للمعبد وتلميذ للكهنة، يقوم بدور المرشد دون أي تكاليف، لأن الهندوسي التقي، لا يطلب تبرعا من أحد. ورغم عدم اطمئناني تبعته. كنا نجول في المعبد الصغير، وهو يحكي لي حكاية الإله برهاما، الإله ذو الأوجه الأربعة، ويقول إن وجها خامسا قد أحرقه اللورد شيفا، إثر خلاف شب بينهما.

20160809_134452
20160809_134452

أسأله لماذا لم يقم برهاما له سوى معبدا واحدا؟ وهو يجاوب، وقد خفت صوته؛ إنه في الهندوسية لا يجوز للرجل سوى زوجة واحدة، والإله برهاما خالف تلك التعاليم، واستغل سفر زوجته الإلهة سارسفاتي ليتزوج من فتاة صغيرة. وهي غضبت بشدة حين عادت ووجدتهما جالسين ببوشكار، وكادت تحرمه العبادة في العالم أجمع. ثم إنها رضخت، أمام توسلاته الشديدة، بإقامة معبد وحيد، في بوشكار.

ناولني الخادم مشنة وضع فيها ورودا، وقال إننا سنتجه الآن إلى البحيرة المقدسة، للقاء الكهنة، ورفع صلاة صغيرة كيما تقبل الزيارة.


قال الكاهن، وهو في الملابس الزعفرانية النظيفة: «أنت طبعا جئت هنا كي تدخل الجنة؟»

أوضحت له إني لم آتي لهذا الغرض، جئت مثل أي سائح آخر يود زيارة بوشكار ليلتقط صورا للبحيرة والجبال، والمعابد، ثم ينصرف وقد اشترى توابل وأوشحة مشغولة من السوق الكبير. قبل أن يلاحظني الخادم الشاب بالمعبد، ويأتي بي إلى هنا. ابتسم وقال إن الرب يصطفي من يريد.

كنا نجلس على السلالم الرخامية العريضة، التي ينفتحآخرها على البحيرة مباشرة. وهي محاطة بأبنية خفيضة و قرابة ال500 معبد، تزين واجهاتها أعلام وأوراق ملونة. وحولها يجلس رهبان في ملابس زعفرانية يتلون الصلوات ويشعلون البخور، وإلى جوارهم هجعت أبقار لها قرون كبيرة، بينما آخرون قد خلعوا ملابسهم تماما وخاضوا في الماء يغتسلون ويرددون الترانيم في إيقاع ثابت.

20160809_134449
20160809_134449

كان أمام الراهب مفرش كبير، تجاورت عليه علب زجاجية بها مساحيق حمراء وصفراء وأرز وبتلات ورود وثمار جوز هند وصينية معدنية صغيرة. أخذ حفنة من المسحوق الأحمر وراح يفركه براحتي يديه، ونفخ فيه وتلا كلمات مبهمة، ثم وضعه في الصينية، وكرر الشيء نفسه مع المسحوق الأصفر. ثم انتقى بإصبعيه حوالي تسع حبات أرز غسلها في كوب صغير. قال إن الأحمر يرمز للصحة الجيدة، والأصفر لأجل مستقبل وعمل وأموال، والأرز لأجل ذاكرة قوية. وتناول ثمرة جوز الهند ورش الأشياء كلها بما علق في أصابعه من ماء.

أثناء تلك التدابير، شرح لي أسطورة النشأة. إذ حدث أن زوجة الإله «شيفا» أحرقت إثر شجار مع أبيها، لأنه لم يكن يحب زوجها، وشيفا، أدركته جيوش تعاسة جرارة، وشيعها بدموع نزلت من السماء مثل شلال جارف واستقرت في بوشكار فكانت البحيرة. منذ ذلك الحين وملايين الهندوس يحجون إليها، ليطهروا أرواحهم من الشوائب، ويقدموا العزاء. ثم قال أنه فى القديم، كانت البحيرة مليئة بالتماسيح، وأي واحد ينزل ليستحم فيأكله تمساح، يكون شخص محظوظ جدا، لأنه ينتقل إلى جوار زوجة الإله فورا.

رفع الصينية فوق رأسي وثبتها جيدا، ثم أمسك بيدي وراح يتلو، باللغة السنسكريتية القديمة، صلوات للآلهة برهاما، وفشنو، وماهج، وشيفا. وهو ينطق الكلمات بمخارج واضحة، ويترك فواصل زمنية مناسبة بينها كي أتمكن من الترديد معه. أنا من ناحيتي لم أفهم كلمة واحدة طبعا، لكني شعرت كأن البحيرة بأسرها تحلق في الفضاء، وأنا أتشبث بخيوط من الماء تدلت وراحت تتماوج.

كان يقطع الصلوات ليسألني عن أسماء بعينها، أبيك، أمك، الإخوة، أناس تحبهم، وأمنية خاصة أود رفعها لشيفا. ثم غمس يده في المساحيق وخلطها ببعضها، ودعك جبهتي بها، وصنع طبقة ظاهرة من المعجون بين حاجبي، ثبت فيها ثلاث حبات من الأرز وقد تسارع إيقاع ترديده للترانيم، قبل أن يسكب سائر محتويات الصينية فوق رأسي ويفرك شعري بالماء واللبن.

2016-10-17 16.18.23
2016-10-17 16.18.23

ربط حول معصمي تميمة باللون الأحمر والأصفر، قال إن تلك هي جواز بوشكار، إذ يقول الكتاب المقدس إن من ترفع الكهنة صلاته، عند السلالم المنصوبة أمام البحيرة، فسوف يزور بوشكار بعد عشر أعوام بالتمام، ويكون معه كل فرد ذكر اسمه أثناء الصلاة، وهم سيدخلون بجواز بوشكار، الذي ربطه في معصمي.

تناول ثمرة جوز الهند، فتحها ووضعها أمامي، وقال: ستتبرع بكم؟

أنا اندهشت: أتبرع بماذا؟

قال إنه يلزم في نهاية الطقس رفع مبلغ صغير كي نضمن قبول الصلاة، ثم أكد إن كل من يأتي هنا يدفع مائة دولار ومائتين.

أنا فهمت الأمر على نحو ما، وأدركت أن المؤامرة قد أحيكت ضدي بإحكام تام.

«لكن أنا ليس معي نقودا»

بدا على وجهه امتعاض شديد، وشعرت بالحرج يتملكني، وفكرت أن الأمر بدأ يجذب الأنظار إلينا.

«هل يمكن أن أدفع فلوسا مصرية؟»

الكاهن استغرق في التفكير، قال:

«كم تساوي بالدولار؟»

«الجنيه الواحد يساوي عشر دولارات، إنها العملة الأغلى في العالم»

ثم أضفت:

«سأتبرع بمائتي دولار.»

الرجل انفرجتأساريره، تناول مني ورقة بعشرين جنيها، تفحصها بعناية قبل أن يبلل أطرافها، ويضعها فوق الثمرة، ورفعها فوق رأسي مجددا، وقال شيئا بالسنسكريتية لم أفهمه، ثم أعاده بإنجليزية واضحة:

«إنه في يوم الفلاني من الشهر الفلاني، قدم عمر محمد مبلغ مائتي دولار، عشرون جنيها مصريا، للإله شيفاي، وهو قبل التبرع.»


[1] اللغة السنسكريتية: لغة هندية قديمة، تستخدم في تأدية الصلوات والطقوس في الهندوسية والبوذية، وتدرس كلغة ثانية في بعض المناطق. [2] راجستان أكبر ولايات الهند، اسمها يعني (أرض الملوك).