«التاريخ يكتبه المنتصرون»

تقال هذه الجملة للتدليل على تزييف التاريخ ودس الأكاذيب وتزييف الحقائق لخدمة مصالح من بقوا ليرووا هذا التاريخ، يتحكم في كتابة هذا التاريخ عادة الطغاة المنتصر,ن ليجملوا صورتهم وليتركوا ذاكرة مزيفة للعالم عن سيرتهم وما فعلوه.

هناك نوع آخر من تزييف التاريخ، يشارك فيه الفن، الفن الذي بإمكانه ببعض الحيل أن يحول وجهة نظرك تماماً عن أي شيء، حتى لو شهدته بنفسك، الفن بإمكانه أن يعطيك ذاكرة مزيفة أجمل بكثير من القبح الحقيقي، هذا بالضبط ما فعله الفن مع «ماركيز دي ساد» من خلال فيلم «Quills».


السينما دائماً وأبداً

فيلم عن رجل سجين ملجأ للمرضى العقليين في عصر نابليون، لطيف المعشر، وقح قليلاً مع خادمة الغرف، عطوف جداً، مهندم المظهر ولبق، يقضي وقته في كتابة القصص التي تتسلل الخادمة لتهريبها للناشر، فحوى قصصه يثير غضب السادة خارج المصحة، يجن جنونهم فيبعثوا بطبيب عنيف، ينحي القس الذي يدير الملجأ عن مهامه ويحاول تهذيب هذا النزيل بطرقه الخاصة التي لا تمت للطب ولا للإنسانية بأي صلة، حتى تصل للنهاية التي تمزق قلبك تمزيقاً.

حتى اسم الفيلم رهيف، Quills الريش الذي يستخدم في الكتابة في العصر الذي تدور فيه أحداث الفيلم، تتعاطف أنت تماماً مع البطل، حتى مع علمك أنه هو ماركيز دي ساد الذي اشتقوا من اسمه مصطلح «السادية» الذي يصف التعذيب خاصة الذي يتخذ أشكالا جنسية فجة.

ورغم أن الفيلم يخبرك في تتر المقدمة أنه لا يقدم الحقيقة كاملة إنما هو مزيج بين القصة الحقيقية الأساسية وبين الدراما، أنت ترفض أن ترى سوى العجوز اللطيف الذي يمنعونه من ممارسة الشيء الوحيد الذي يبقيه حياً ويبقيه بعيداً عن الجنون، وترى أن تأليف القصص ليس جرماً يجب أن يعاقب عليه بمثل تلك القسوة، وتكون محقاً نوعاً ما، فقط الفيلم لم يقدم لك الحقيقة كاملة.

الجدران الكئيبة للملجأ التي دار داخلها معظم الفيلم، الملابس القاتمة للقس والطبيب، الإضاءة التي كان متعمداً أن تكون كابية في المشاهد الداخلية للفيلم، ومظهر باقي النزلاء المزري، حتى باروكة «ماركيز دي ساد» الذي قام بدوره بمنتهى الإتقان «جيوفري راش» تراها مغبرة رغم أنها مهندمة، مظهر «كيت ونسلت» التي قامت بدور «مادلين» خادمة الغرف الفقير، ونظراتها المدلهة للماركيز الذي تحبه على أنه نافذتها الخاصة جداً على العالم الفاحش الذي ترفض أن تكون جزءاً منه في الواقع وتفضل أن تعيشه فقط في قصصه.

كل هذه التفاصيل تخلق رابطاً بين المشاهد والفيلم تجعله يتعاطف فقط، يتعاطف مع هذا العجوز الذي لا يفعل شيئاً مشيناً، هو يكتب فقط، حتى لا يلمح الفيلم سوى إلى أنه يعادي الكنيسة ويهرطق، لم يؤذ أحداً وزوجته تزوره في الملجأ وتهتم لأمره، فكيف لك أن تكره هذا الماركيز السادي؟؟ ربما هو ليس سادياً في النهاية.


الحقيقة للأسف

في الفيلم يصرخ «ماركيز» كثيراً مدافعاً عن نفسه عندما يمنعونه من كتابة قصصه الفاحشة، يخبرهم أنه لا يمارس ما يكتبه، هو ليس مجرماً ليعاقبوه، هذا العالم المؤذي موجود بالخارج وهو ينقله فقط على الورق، يتوسل كي يمنحونه الأوراق والحبر ويخبرهم أنه لو لم يكتب سيجن ويموت، لا يستمع أحد إليه، يمنعونه من الأوراق والحبر، فيكتب بالنبيذ على ملاءات فراشه، يجردون غرفته من الملاءات ويمنعونه من النبيذ، فيجرح أصابعه ويكتب بالدم على ملابسه، وفي مشهد متقن جداً ينسل خارج زنزانته ويدور بين النزلاء ليقرءوا ما كتبه على حلته الأنيقة، ثم يحبسونه في قبو مقيد بالسلاسل عارياً فيصل لذروة الحرب في تصميمه على الكتابة.

تعاطفت كثيراً أليس كذلك؟ هذا رجل يريد فقط أن يكتب، هو لم يجبر أحداً أن ينفذ ما يأتي به في كتاباته، أنت الآن واقع تحت سيطرته تماماً، تتمنى لو مددت يدك عبر الشاشة لتناوله الأوراق والريشة والحبر ليكتب، هذا هو ما فعله الفيلم بك وبتاريخ أمير السادية، السينما التي بإمكانها أن تنزع كل أنياب الوحوش وتروضها نالت منك، أحببت ماركيز دي ساد، وتعاطفت مع الوحش.

في الحقيقة «ماركيز دي ساد» لم يكن بذلك اللطف، فهو إلى جانب تصنيفه ككاتب وفيلسوف هو يصنف كمجرم أيضاً، ارتكب الكثير من الجرائم الجنسية التي وصفها في قصصه، تنقل بين الكثير من السجون منهم سجن الباستيل، حوكم أكثر من مرة ليس بجرائم الفحش والهرطقة فقط، بل بالتعدي على آخرين جنسياً خاصة الخادمات وبائعات الهوى دون رضاهم، اشتهر بتعذيب الخدم حتى أنهم كانوا يهربون من منزله، وحتى في ملجأ المجانين الذي انتهى إليه لم يكف عن جرائمه ولم يكن هذا الكاتب المعذب في الفيلم، فقد غرر بابنة أحد موظفي الملجأ وكانت طفلة في الثالثة عشر من عمرها.


لماذا يفعل الفن ذلك؟

لماذا يزيف الفن الأشياء؟ ولماذا يجعلنا نتعاطف مع القتلة مثلاً؟ لماذا لا يخبرنا الحقيقة المجردة؟ خاصة في الأفلام التاريخية أو التى تروي سيرة شخصية؟

ببساطة لأن تلك سينما وليست أفلاماً وثائقية، السينما وظيفتها أن تمتعك والبحث التاريخي المدقق له سبل أخرى يمكنك اتباعها، السينما تقدم لك فناً حتى لو كانت سينما واقعية فإنها تجمل الأشياء حتى يمكنك احتمالها، فما الجدوى أن ترى الشوارع الحقيقية بناسها الحقيقيين، بحيواتهم الحقيقية دون أي تجميل أو رتوش على الشاشة؟ ليس هناك أي متعة متحققة، السينما مرادف للمتعة ولذلك هي مبهرة، ولذلك هي لا تنقل لك الحقيقة كاملة، هي تمنحك خيطاً فقط، تعطيك الحد الأدنى والأساسي من المعلومة، ثم تبني عالماً مبهراً من الخيال حتى يمكنك ابتلاع الحقيقة معه.

لهذا بالتحديد كان فيلم «Quills» ممتعاً، قصة إنسانية تحرك قلبك، وتتابع جيد، وحوار شائق وتمثيل ممتاز، وبعض الحقيقة المؤلمة.