من قال أن القلق يذهب؟ إنه يفيض.

قالتها «شمس» في رواية «حجر دافئ»، أول روايات الراحلة «رضوى عاشور»، ولكن يمكننا بعين الخيال رؤية نفس الجملة/الفكرة تتردد على لسان الأخريات ممن كتبتهن «رضوى» قبل أن تترك هذا العالم القلق، كلهن كن قلقات، يحملن روحاً غير مستقرة تنشد شيئاً ما لا يمكن الإمساك به وتعريفه بوضوح، رغم مآسيهن الجلية فإن أرواحاً كأرواحهن لابد أن تعيش قلقة حتى لو لم تكن المآسي بكل هذا العمق.

«مريمة»، و«رقية»، و«شمس»، و«سوسن» و«خديجة» وأخريات، كلهن قطع من رضوى الكبيرة، رضوى التي عاشت كل القلق ووزعته قطعاً صغيرة في نساء كتبن بحبر على ورق أصفر، يهترئ في مكتبتك ويهترئ معه قلبك الذي لابد أن يحمل بعضاً من كل هذا القلق إذا كنت ممن يرون «رضوى عاشور» أيقونة.


قلق رضوى الخاص

لابد لمن يلمس قلوب القراء أن يمنح كتابته قطعاً من روحه، أن يمنح سطوره قبساً مما يستشعره ليخرج صدقاً تعرفه القلوب جيداً ويعلق في الأذهان، وقد كانت «رضوى عاشور» روحاً قلقة تحيا حياة مشتتة فاستحقت أن ترسم بمداد روحها شخصيات تمس كل من يقرأها.

تقول عن نفسها أنها لم تكن مقتنعة في البداية أنها يجب أن تكتب، وأنها عندما قارنت ما تكتبه بالأدب الذي تقرأه وجدته لا يجب أن يسمى أدباً، وتوقفت بالفعل وتفرغت للدراسة الأكاديمية، بل كانت تقول لنفسها حرفياً«لست كاتبة فلماذا سلوك الأغبياء؟».

ثم أصرت روحها المتوثبة على التحرر، فعادت للكتابة بروية، وكتبت لأنها خافت أن تفنى فلا تترك شيئاً يذكّر العالم أنها كانت موجودة يوماً، وقد فعلت هذا باقتدار، فالعالم لم ينس يوماً أنها كانت هنا، بل ينسى أحياناً أنها رحلت.

هذا الألم هو ما صنعها، هو ما أنضج الموهبة التي لم تكن تؤمن بها في البداية، والتي أعطتها الكثير من الوقت والدراسة حتى تصبح حقيقة لا يمكن دحضها، حتى إذا ما قارنتها بمن أبهروها قديماً وظنت أنها لا تنتمي إليهم، هذا هو الألم الذي عايشته والذي أنضجها حتى صارت «رضوى عاشور».


الشتات .. هم وهي

كتبت «رضوى عاشور» عن الشتات، فحي البيازين الذي يقبع داخل دفتي الكتاب القرمزي والذي تشتت ساكنوه وأجبروا على ما كرهوا، تاريخ الأندلس الضائع و«مريمة» التي تطل من بين الكتاب لتخبرك عن ضياعها وضياع التاريخ والهوية في «ثلاثية غرناطة»، تمسك بيدي رقية التي تخرج من «الطنطورية» تبكي لجوء الفلسطينيين، وبينهن «رضوى» نفسها تبكي شتاتها الخاص، شتات أسرتها الصغيرة التي تحملته سبعة عشر عاماً فأتقنت الوجع وخرجت نساءُها غريبات مغتربات يعصرن القلوب عندما يعشن ألمهن.

عاشت «رضوى عاشور» غربة زوجها «مريد البرغوثي» الشاعر الفلسطيني الذي ترك وطنه المحتل، ثم أبعد عن وطنه الثاني مصر في فترة حكم الرئيس الراحل «محمد أنور السادات» لاعتراضه على زيارة السادات لإسرائيل وقتها.

سبعة عشر عاماً تشتت فيهم الأسرة الصغيرة، هي مدة منع «مريد البرغوثي» من دخول مصر، سبعة عشر عاماً عاشت «رضوى» فيهم اغتراباً فوق الاغتراب، وقلقاً مضاعفاً وشتاتاً كبيراً، فحُق لها أن تعرف الألم وتكتب عنه بكل هذا الصدق الذي يشع من مآسيها المروية على الورق.

لهذا كان حديثها عن الاغتراب ليس كأي حديث آخر، ولهذا أصبحت رواياتها التي تتحدث عن الشتات أعلاماً قائمة بذاتها، تحكي وقائع مؤلمة وحقيقية عاشت منها رضوى جانباً كبيراً حتى لو لم تكن أندلسية، ولم تسكن حي البيازين القديم، ولم تخرج أيضاً من قرية فلسطينية صغيرة تعلق مفتاحها في صدرها ظناً منها أنها ستعود يوماً. لم تبعد رضوى عن وطنها أبداً، ولكنها عاشت المأساة مع زوجها وابنها فحق لها أن تعرف الألم لتكتبه.


الثمن المبذول

لكل شيء ثمن، وكلما عز المراد ارتفع ثمنه.

قالتها في «ثلاثية غرناطة» وكأنها تصف رحلتها بالضبط، فعندما تنظر في ملامحها في الصور لا يمكنك أن ترى امرأة بائسة أو حزينة، ربما ترى في عينيها مسحة من ألم ولكنه ليس حزناً يعيقها عن أن تنال ما أرادته.

دفعت رضوى ثمن كونها أيقونة، وجهها الصبوح وشعرها الفضي اللامع وابتسامتها الوقورة في جزل، كل تلك الملامح مدفوع ثمنها سلفاً، قلق تركته يعصف بروحها حتى يحررها، وسنوات تضيع في سفر، وأخرى تكرس للدراسة والتدريس، ومداداً يكتب دراسات نقدية وآخر يسطر حكايات مدهشة، كان هذا هو الثمن الذي دفعته رضوى لتنال صورتها الأيقونية، وقد استحقت مرادها بجدارة.

في ذكرى وفاة «رضوى عاشور» ينسى العالم أنها رحلت، ويتذكر فقط كم الإدهاش الذي تركته إرثاً، وقاعة تحمل اسمها في كلية الآداب جامعة عين شمس تثبت أن رضوى مرت من هنا، وأن كل ما تركته وراءها كان أثقل منها، «أثقل من رضوى»، فلم يرحل معها بل بقى راسخاً وثابتاً، حراً كما كانت حرة، ومؤلماً كما عاشت هي.

أما رضوى نفسها فربما وجدت الآن وطناً في السماء تحكي فيه لنسائها المدهشات عن حيواتهن التي نقلتها قبل أن يرووها لها، وقبل أن تقابلهن في رحيلها الأخير.